اطبع هذه الصفحة


دعوة المظلوم

أبوأنس-حسين بن سعيد الحسنية
@h_alhasaneih


بسم الله الرحمن الرحيم


هي الدعوة الصاعدة إلى السماء، التي ليس بينها وبين الله حجاب، تحمل بين حروفها صدق الكلمات، وخالص الأنّات، وغالباً ما تكون في الثلث الأخير من الليل، فتجتمع أسباب الاستجابة، وتتجلى معاني التذلل والإنابة.

دعوة المظلوم التي لا تكاد تغادر مشاعر صاحبها، لأن قضيته لا زالت قائمة وعالقة، ولم تنتهي ولن تنتهي إلا عند رب السموات والأرض، عندما يُنصب الميزان، وتُعرض الأعمال، ويُستنطق الشهود.

دعوة المظلوم ليست مجرد تنفيس للمظلوم لكي يخفف ما يحمله من ألم الظلم والجور، وليست عبارات يتفوّه بها لمجرد الاستشفاء أو الإنتقام من الظالم، وليست مشاعر مترجمة لكي تغطي فراغاً في تلك الخلوات البعيدة عن شماتة واستهزاء الآخرين، بل هي دعوات مقدّسة لها أثرها وتأثيرها، وحجمها وحقيقتها، فالمظلوم يثق بها ويحسن الظن بمن توجهت له، والظالم يهابُها، وإن لم يظهر تلك الهيبة ويخافها، وإن ادّعى غير ذلك.

دعوة المظلوم أعظم من كبيرة قاتل النفس، وأقوى من جبروت المدعي بالباطل، وأثقل من جريمة آكل المال الحرام، وأسرع من جريرة المسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي، وأكبر من شفاعة عاق الوالدين، وقاطع الرحم، ومضيّع بيته وأولاده.

دعوة المظلوم عظمتها وقوتها وأثرها في نصرة الله لها، قال عليه الصلاة والسلام: " اتقو دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام، يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين "، ويقول: " اتقو دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة، ويقول: " اتقو دعوة المظلوم وإن كان كافراً فإنه ليس دونها حجاب ".

دعوة المظلوم من الدعوات المستجابات من رب الأرض والسموات، فلو تحقق الظلم من قبل الظالم على المظلوم، ثم استعان المظلوم بربه، وانتصر بنصرته له على ظالمه، فقد نصره الله لا محاله، إن عاجلاً أو آجلاً، وقد خذل الله الظالم بقوته وعزته، قال عليه الصلاة والسلام: " ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن، ذكر منهن دعوة المظلوم ".

دعوة المظلوم تحقق يقينه بأن الله لا يخفى عليه شيء، وأنه ليس بغافل عن ما يفعله الظالمون، وأنّه القوي، العزيز، الناصر، المنتقم، سبحانه وتعالى: " وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ* إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ۖ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ "، وقال تعالى: " وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ "، وتحقق يقينه كذلك بأن هناك يوم قادم يجمع الله فيه الخصوم، وتلتقي فيه الأضداد، وتعرض فيه الخصومات، فيأخذ الله للمظلوم حقه من الظالم، " الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ "، وقال تعالى: " وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ".

دعوة المظلوم أمان لقلبه، وهدوء لنفسه، واستقرار لجوارحه، واطمئنان لأعصابه، وقوّة لموقفه، ورفعة لمكانته، وقربة لربه، وزيادة في حسناته، ومحو له من سيئاته، وتثبيتاً لاستقامته، ومخرجاً في أزمته، وتنفيساً في كربته، وعافية له من بلاءه، وبركة له في علمه، وعمله، ورزقه، وصلاحاً في نيته وذريته.

ابتسم لي وهو يشكو من ظلم أحدهم له، فسألته عن ذلك، فقال: للظلم مرارة على النفس عظيمة لا يداويها إلا دعوة المظلوم، فأنا أعجب ممن يداهمه الحزن من الظلم، وبيده وفي قلبه وعلى لسانه السلاح الأنفذ " دعوة المظلوم ".


وسارية لم تسر في الأرض تبتغي *** محلا ولم يقطع بها البيد قاطعُ

سرت حيث لم تسر الركاب ولم تُنخ *** لورد ولم يقصر لها القيد مانعُ

تمر وراء الليل والليل ضاربٌ *** بجثمانه فيه سمير وهاجعُ

إذا أوفدت لم يردد الله وفدها *** على أهلها والله راءِ وسامعُ

تفتّح أبواب السماء ودونها *** إذا قرع الأبواب منهن قارعُ

وإني لأرجو الله حتى كأنني *** أرى بجميل الظن ما الله صانع


انتهى.

 

حسين الحسنية
  • مقالات
  • كتب
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية