اطبع هذه الصفحة


مقومات الثقافة الراشدة

أبوأنس-حسين بن سعيد الحسنية
@h_alhasaneih


بسم الله الرحمن الرحيم


لا تخلو كثير من المجامع والميادين والأندية الأدبية والمجالس الثقافية والديوانيات من الحديث عن الثقافة, وماذا تعني اصطلاحاً وواقعاً؟ وعن أهم أجندتها وأولوياتها وعن أبرز شروطها ومعالمها وعن مدى أثرها في المجتمع وقدرتها على التأثير في ساسته ورعيته؟
والكلام موصول إلى المثقف من هو أيضاً؟ ولماذا اختار أن يكون مثقفاً كما يدّعي؟ وأين يريد أن يصل بثقافته؟ وها هو أهلٌ لذلك الادعاء أم لا؟.

أسئلة واستفهامات كثيرة عن مصطلح الثقافة وعن المثقف كإنسان تتوالد بشكل كبير ومستمر في ظل ما نعيشه في زماننا هذا من انفتاحات عدّة ومختلفة.

ولعل أبرزها هذه الانفتاحات الانفتاح الإلكتروني والإعلامي مع تنوّع مصادر تلقّي المعلومة وتوفّر منصّات الظهور والتي تصل إلى العامة في أسرع الأوقات وبأسهل الطرق وبأوفر الإمكانات, وكذلك انتشار المؤسسات الثقافية, وبعضهم يجعلها أكثر تخصصاً فيقول الدور التربوية والأندية الأدبية والدواوين العائلية وغيرها, أضف إلى ذلك أن كل أحد من أفراد المجتمع شيخاً كان أو شاباً كبيراً أو صغيراً رجلاً أو امرأة صاحب اهتمام أو غير صاحب اهتمام أصبح يملك جهازاً نقّالاً في جيبه صغيراً في حمله ثقيلاً في ما يحمله من برامج وتطبيقات ومواقع تجعل صاحبه لا يرفع عينيه عنه في كل مكان وزمان ليكون شغله الشاغل أغلب ساعات اليوم الواحد دون مبالغة, وفي كل يوم إن لم يكن كل ساعة إن لم يكن في كل لحظة ترد عليه من هذا الجهاز النقّال من الأخبار والمعلومات والأحداث ما يعلم عددها إلا الله, ومن ثم يبدأ هو متأثراً بما يقرأ أو يشاهد أو بسمع فيتحدث بذلك كله لكل من حوله وينقل كل ما سمع وشاهد ومن ثم يبدأ في عرض وجهات نظره أو أراءه عن كل ذلك فينتقل به الحال وتحت ظل كل ما تقدم ليعلن للجميع بأنه المثقف الأديب والفيلسوف العجيب, فينشأ في المجتمع من يدّعي الثقافة وأنه مثقف زمانه ولكن للأسف حينما تسبر في ثقافته تجدها هشّة ورخوة في مضمونها وأهدافها أو متغيّرة ومتلوّنة حسب الأحداث والمواقف أو هزيلة ورخيصة حسب المتبوعين والقدوات, أو تجدها لا شيء فعلاً, بل إن كثيراً من أصحاب هذه الثقافات وهي بالطبع ليست كذلك يحاولون التلبّس بمظهر المثقف الحُر صاحب الحرف والرسالة, وقد يكون هذا التلبّس في كلامه فيتشدّق ويتمنطق بالكلمات المبهمة والغير مفهومة أو يحشو في جمله العربية بكلمات إنجليزية أو فرنسة أو يتقعّر في لغته الأم وغير ذلك, وقد يكون التلبّس في تقليد المتبوعين والقدوات فيستشهد بتجربة من هو على غير دينه مع أن من أبناء دينه من له تجربة مثلها, ويتمثل بأبيات أو حكم شخص منحرف في سيرته أو مختل في عقله أو شاذ في توجهه كل ذلك لمّا كانوا له رموز وقدوات وقد يكون التلبّس في الشكل والمظهر فتجده يلبس البنطال في مجتمعه القريب وهو في غنىً من ذلك, ويتناول السيجار والغاليون أمام من حوله دون احترام أو تقدير لهم, أو تجده يحمل كتبه وأقلامه في كل مكان يذهب إليه لا ليقرأ أو ليكتب وإنما للتمثقف الخادع والتمظهر الكاذب.

لذا ومع كل ذلك فإن على الجميع أن يدرك أن اللعب بالألفاظ وتمطيط الشفاه وإرخاء النظارات على الأنف وتناول السيجار والقليون وحفظ مقولات إلحادية أو أبيات شعرية تدعو للخبث والنجاسة أو كتابة روايات جنسية فاسدة دون رادع ديني أو مرؤة أخلاقية أو ذرة احترام للآخرين أو غير ذلك كله من صور مدّعين الثقافة وأشكالها وليست جميعها من الثقافة الراشدة التي يدعو إليها المصلحين والمربين مجتمعاتهم وأمتهم بشيء, بل كل ذلك ليس إلا خطوات شيطانية ونداءات للنفس السيئة واتباع للهوى وسعي وراء الدنيا وملذاتها وتقليد لقدوات تدبّر وتخطط لهدم القيم السويّة والأخلاق الرفيعة والمثل الراقية.
وإذا أردنا أن نعرف ماهي الثقافة الراشدة؟ فهي التي تسمو بالأخلاق وتبني الهمم العالية وتصنع الإنسان المثالي المنضبط وتجمع الأطياف المتفرقة أو المتنازعة وتحمي المجتمع من السفول والانحطاط وترقى به عن مستنقعات الخساسة والرذيلة وتزرع القيم الهادفة والبنّاءة وتوحد في الصف والوجهة وتنطلق من المصادر العذبة والموارد الزُلال التي لا يشوبها كدر أو دخن أو أسن.

وحتى تتجلّى الثقافة الراشدة لمن يسعى إليها ويتمنى التخلّق بماهيتها ومعرفة مضمونها فإني هنا أبيّن على سبيل الذكر لا الحصر والاختصار لا للإسهاب أبرز مقوّماتها والتي تصل بصاحبها كفرد وبالمجتمع ككيان إلى الحضارة والرقي والتميز والنجاح وهي ما يلي :


أولاً :
أن يكون مصدر هذه الثقافة الحقيقي وأسّها الهام هما كتاب الله جل وعلا وسنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام, فهما المصدران الحق لكل إنسان على وجه الأرض أذا هو أخذ بهما, ومنهما تنطلق العلوم بأنواعها والثقافات بمضامينها والتجارب والقصص والسير بأحداثها ومشاهدها.

ثانياً : أن يكون الهدف عند من أراد أن يكون مثقفاً هو إصلاح نفسه وتقويمها التقويم المعتدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط, وتهذيب أخلاقه واعتدال سلوكه وتصرفاته وكذلك أن يهدف بعد إصلاح نفسه إصلاح أسرته ومجتمعه ووطنه وأمته بما يحمله من ثقافة راشدة تدعو للمعروف والحق والخير والتعاون والتربية الصحيحة وتنكر المنكر وتحار الشر والجريمة والفساد فيكون المثقف بما سبق داعية لله بكلمته وقلمه وموهبته.

ثالثاً :
حتى تكون مثقفاً راشداً فيجب العناية بما يكوّن هذه الثقافة لديك كالقراءة والمجالسة والسفر والتجارب وغيرها, شريطة تحرّي ما يصلح منها وما يبني وما يهذّب, فاقرأ ما ينفعك ويفيدك, وجالس من يثري عقلك ويصقل فكرك, وسافر لكل مكان يغيّر في أخلاقك ونظرتك للأفضل, وجرّب كل طريقة تفتق ذهنك بكل جديد ونافع وفي المقابل احذر من كل ما يخالف ذلك .

رابعاً :
مظاهر الثقافة الهشّة خادعة لكنها لا تدوم وسرعان ما تفضح صاحبها في أول موقف اختبار لثقافته, فلا تنخدع بها ولا بمن يحملها وإن تزيّنوا زوراً أو بهتاناً بكلامهم أو أشكالهم أو دواوينهم أو منصّاتهم, فهم عطفاً على ثقافتهم الهشّة بعيدون عن الحق أو متكبّرون عليه ويدل على ذلك ممارسات بعضهم الإلحادية أو دعواتهم للفرقة والشللية أو إيحاءاتهم الجنسية سواء في مقالاتهم أو كتاباتهم أو حتى علاقاتهم فالحذر الحذر منهم ومن اتباعهم أو الانخداع بهم.

هذه هي الثقافة الراشدة في نظري وقد ذكرت أربعاً من مقوماتها المهمة والتي يجب الأخذ بها حتى يتجسّد لنا ومن بيننا مثقفون راشدون يدركون من هم في حياتهم ويستشعرون عظم من يحملونه من ثقافة وفكر فيرتقون به ويساهموا في رقي أنفسهم ومجتمعاتهم وأمتهم.

الاثنين 02/10/1441هـ

 

حسين الحسنية
  • مقالات
  • كتب
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية