اطبع هذه الصفحة


لا تزاحمهم

أبوأنس-حسين بن سعيد الحسنية
@h_alhasaneih


بسم الله الرحمن الرحيم


الزحام لفظة تعني اجتماع مجموعة من الناس في مكان ضيّق, أدّى جمعهم لضيق المكان بأن يقرب بعضهم من بعض فيحصل التضييق من بعضهم على بعض وذلك للوصول إلى هدف ما عازمون جميعهم إلى الوصول إليه.

مثل اجتماع الناس عند باب السوق في انتظار أن يفتح فإذا فتح تزاحموا على الدخول إليه, ومثل تكدّسهم عند سيارة يوزع صاحبها أطعمة أو عطايا فيتزاحمون عليها حرصاً على الظفر بشيء من تلك الأرزاق, والأمثلة كثيرة.

ومن أروع الزحام وأجمله تزاحم أهل الجنة عند أبوابها بعد أن قضى الله عليهم أنهم من أهلها جعلني الله وإياكم من أهلها, قال عليه الصلاة والسلام: " إن ما بين المصراعين في الجنة مسيرة أربعين سنة, يُزاحم عليها كازدحام الإبل وردت لخمس ظمأ " أخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة, ولك أن تتخيل مدى عظمة هذا الازدحام المهيب لأهل الجنة عند أبوابها والذي يفصل بين الباب والباب الآخر أربعين سنة, ومثل ذلك التزاحم للناس كمثل تزاحم الإبل العطشى عند موارد الماء بعد خمسة أيام من الظمأ.

ومن التزاحم المحمود زحام الناس عند الكعبة المشرفة وجميعهم عند بيت الله الحرام, كل منهم يسأل الله مسألته ويرجوه إجابته الدعاء.

ومنه ما يحصل في شعائر الحج والعمرة سواء في الطرق المؤدية إليها أو عند المشاعر نفسها أو عند الخروج منها, وما يصاحب ذلك من تعب ومشقة وعد الله من صبر عليها وتحمّل مشاقها بالأجر العظيم من عنده تعالى.

لكنّي هنا لا أتحدث عن ما سبق من التزاحم على الطاعات والعبادات وما فيها من الفضل العظيم والأجر الجزيل من الملك الجليل جل وعلا, وإنما أتحدث عن تزاحم آخر, تزاحم رخيص بغيض محرم, فرخيص لرخص توجهه ورسالته, وغيض لما يحمله من الخبث والجرم والفساد ومحرم لأنه يغضب الله جل وعلا ويستوجب لمن يمارسه عذابه, وهو التزاحم على موارد الشر وأماكن الفساد.

وسأذكر هنا جملة من أنواعه وذلك حتى نعلم جميعاً أن من الزحام زحام على الباطل, وأن هناك من يدعو إليه ويحث على حضوره, وأن أشكاله وأنواعه كثيرة جداً قد يغفل عنها المؤمن ويجهل بعضها, وحتى يستشعر المرء خطرها وأثرها السلبي عليه وعلى أسرته ومجتمعه وأمّته, وحتى إذا قرأنا هذه الأنواع من التزاحم المذموم نتجنّبها قدر الإمكان, ونغادر أماكنها مباشرة, ونتبرأ من كل من يحضرها أو يدعو إليها أو يساهم في إقامتها, وحتى نكرر دائماً ونقول:


لا تزاحمهم،
ما داموا أهل باطل وأصحاب فساد ودعاة رذيلة ومؤسسو إرهاب وقدوات دمار وبلاء وتخريب.

لا تزاحمهم،
حينما يثيرون الفتن وينشرون البلاء في المجتمع المتماسك، فأنت تشاركهم في هدّ ذلك المجتمع حينما تريد أن تكون مثلهم أو أفضل منهم في هذا الجرم الكبير, كي يُشار إليك بالبنان إسوة بهم في هذا الفعل الشنيع والمنكر العظيم.

لا تزاحمهم،
في قنواتهم الإعلامية الهدّامة أو في منصّاتهم الإلكترونية الخبيثة أو في مواقعهم الإنترنتية المدمّرة, حباً في الظهور الإعلامي أو الشهرة المجتمعية عبر أقصر الطرق وأسرع الوسائل, وإعجاباً بمشاهديهم ومتابعيهم فتريد أن يكون لك مثل أعداد أولئك الأتباع حتى وإن كان في الباطل والفساد فذلك لا يهم مادام الهدف سيتحقق.

لا تزاحمهم،
في مجالسهم التي يكثر فيها تعدّي الألسنة وتجاوز النوايا بكل سيء ومذموم فلا تسمع فيها إلا الغيبة والنميمة والاستهزاء والسخرية والكذب والحلف الباطل وضياع الأوقات وهوان الهمم، لكي تتكلم معهم وتضحك على طُرفهم ونكاتهم وتسهر للهوهم وغفلتهم, كسباً في رضاهم وادعاءً للوفاء لهم حتى وإن كان ذلك على حساب دينك وأخلاقك ومرؤتك.

لا تزاحمهم،
في جدالهم الخاص أو أحاديثهم الدنيوية أو اهتماماتهم الشخصية كالإسهاب في الحديث عن المال والأعمال والاقتصاد والرياضة والسياحة والترفيه وغيرها، وإن كان ذلك كله من المباح إلا أن الغوص فيه ضار, والاستطراد في النقاش حوله ضياع عن ما هو أهم منه, وأنت تزاحمهم في ذلك كأنك تريد الانتفاع منه أكثر أو الحصول على ما يفيدك حوله ولكن الانجذاب إليه بقوة يبعدك عن جادة حياتك وطريقك القويم والمتمثل في طريقك الله جل وعلا.

لا تزاحمهم،
في الفشل والتردد والتسويف والتواكل والاتكالية لأنهم تلذذوا الراحة وعشقوا الركون فلا حياة لهم حقيقية ولا إنجازات لهم ولو صغيرة ولا همة عالية يرتقون بها وإليها, وأنت تظن أنهم المرتاحون المطمئنون وهم في الأصل المتعبون الوجلون فتريد أن تعيش مثلهم وبئس والله عيشهم وبئست أيضاً تبعيتك لهم.

لا تزاحمهم،
على الحرام والرذيلة والعهر والفساد الأخلاقي، فهم يريدونك أن تكون معهم جنباً إلى جنب ويقنعونك بلذة الحرام ومتعة التعدّي الباطل وشهوة الفساد, وأنت تنجرّ خلفهم إما اشباعاً لرغبتك الشيطانية أو اتباعاً للهوى أو سعياً في الكسب المادي الذي قد يحصل من هذه الممارسات الغير أخلاقية وما أدركت أنّ في ذلك كله الوبال والخزي والندامة.

لا تزاحمهم،
على عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام والإساءة للجيران والتعدي على خاصة الناس وعامتهم حتى يقولون عنك الشجاع الفارس والبطل الهمام والشخصية البارعة والرجل الفذ, ظنّاً منك أنّ هذه الرجولة والقيادة والتميّز والإباء, وهم ما أرادوا إلا أن يقذفوك في وحل القطيعة مع من حولك من الأقارب وغيرهم.

لا تزاحمهم،
وعليك أن تقيس الأمور بموازينها الصحيحة وأن تسبر الرجال جيّداً وأن تغوص ولو إلى حد معيّن في توجهات الناس واهتماماتهم وتعاملاتهم, فتعرف من هو البار بك ومن العاق لك ومن الوفي معك ومن الجافي عليك ومن المفتخر فيك ومن المتبرئ منك.

لا تزاحمهم،
على باطلهم ما دمت على الحق, وإن كانوا جماعة على سوء فأنت لوحدك على الإحسان, وإن كانوا أقوياء بتمردهم على خالقهم فأنت أقوى منهم باتباعك له.

إن من أفضل علامات نجاح المؤمن في حياته أن يدرك لماذا خلقه الله حقيقة؟ وما هو الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه في دنياه وآخرته؟ عندها سيعلم يقيناً أنّ من أكبر الكبائر وأعظم المفاسد وأشنع الجرائم مزاحمة أهل الباطل على باطلهم حباً لهم ولباطلهم وبغضاً للحق وأهله والعياذ بالله .

الثلاثاء
03/10/1441هأ

 

حسين الحسنية
  • مقالات
  • كتب
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية