اطبع هذه الصفحة


الأسئلة والأجوبة المفيدة (2) في لطائف بعض الآيات القرآنية

جهاد حِلِّسْ
‏@jhelles

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الأسئلة والأجوبة المفيدة (1) في لطائف بعض الآيات القرآنية


في قوله تعالى
:{ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ }.
في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد, فإن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب, والمحبوب قد يأتي بالمكروه, لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرّة, ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه بالعواقب, فإن الله يعلم منها مالا يعلمه العبد أوجب له ذلك أمورا: منها: أنه لا أنفع له من امتثال الأمر وإن شق عليه في الابتداء, لأم عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح وإن كرهته نفسه فهو خير لها وأنفع. وكذلك لا شيء أضر عليه من
ارتكاب النهي وإن هويته نفسه ومالت إليه, وإن عواقبه كلها آلام وأحزان وشرور ومصائب, وخاصة العقل تحمل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة والخير الكثير, واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبها من الألم العظيم والشر الطويل. فنظر الجاهل لا يجاوز المبادئ إلى غاياتها, والعاقل الكيّس دائما ينظر إلى الغايات من وراء ستور مبادئها فيرى ما وراء تلك الستور من الغايات المحمودة والمذمومة. فيرى المناهي كطعام لذيذ قد خلط به سم قاتل, فكلما دعته لذته إلى تناوله نهاه ما فيه من السم. ويرى الأوامر كدواء كريه المذاق مفضي إلى العافية والشفاء, وكلما نهاه كراهة مذاقه عن تناوله أمره نفعه بالتناول. ولكن هذا يحتاج إلى فضل علم تدرك به الغايات من مبادئها, وقوة صبر يوطن به نفسه على تحمّل مشقة الطريق لما يؤمل عند الغاية, فإذا فقد اليقين والصبر تعذّر عليه ذلك, وإذا قوي يقينه وصبره هان عليه كل مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم واللذة الدائمة.
ومن أسرار هذه الآية أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور, والرضا بما يختاره له ويقضيه له, لما يرجو فيه من حسن العاقبة. ومنها: أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليه ولا يسأله ما ليس له به علم, فلعل مضرّته وهلاكه فيه وهو لا يعلم, فلا يختار على ربه شيئا بل يسأله حسن الاختيار له وأن يرضيه بما يختاره فلا أنفع له من ذلك. ومنها: أنه إذا فوَّض إلى ربه ورضي بما يختاره له أمده فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر, وصرف عنه الآفات, التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه, وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه, بما يختاره هو لنفسه. ومنها: أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات, ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة وينزل في أخرى, ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه, فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه, وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه. لأنه مع اختياره لنفسه, ومتى صح تفويضه ورضاه, اكتنفه في
المقدور العطف عليه واللطف به فيصير بين عطفه ولطفه, فعطفه يقيه ما يحذره, ولطفه يهوّن عليه ما قدره. إذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه تحيله في رده, فلا أنفع له من الاستسلام وإلقاء نفسه بين يدي القدر طريحا كالميتة, فإن السبع لا يرضى بأكل الجيف.
الفوائد لابن القيم

قال الله تعالى في قصة إغراق قوم نوح عليه السلام ( قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَلاَ عَاصِمَالْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ )
كيف نفهم من قول الله تعالى(لاَ عَاصِمَالْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِإِلاَّ مَن رَّحِمَ) بأنه لا عاصم من الغرق إلا من رحمَ الله , مع أنَّ من رحمه الله في هذا الطوفان وهو نوح والمؤمنون معه , معصومون وليسوا بعاصمينفكيف قال الله (عَاصِمَ) ولم يقل (لا مَعْصُومَ).؟
 



هنا استثناء منقطع والاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه
فعندما يقول الله تعالى :
" لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة "
فليس معنى الآية انه إذا كانت هناك تجارة فيجوز أن نأكل أموالنا بالباطل
ولكن الاستثناء منقطع
عندما نقول : "حضر القوم إلا حمار"
فالحمار ليس من جنس القوم وبالتالي فهو استثناء منقطع
نعود للآية الكريمة
"قال لاعاصم اليوم من أمر الله ((الكلام تم )), إلا من رحم "
أي إلا من رحمه الله بعصمته من الهلاك.

السائل أبو زيد الشنقيطي ، والمجيب هو المتولي
 



قوله تعالى : الم ذلك الكتاب .
أشار الله تعالى إلى القرءان في هذه الآية إشارة البعيد ، وقد أشار له في آيات أخر إشارة القريب كقوله : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [71 9] ، وكقوله : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل الآية [27 76] .
وكقوله : وهذا كتاب أنزلناه مبارك [6 92] .
وكقوله : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن [12 \ 3] إلى غير ذلك من الآيات .
وللجمع بين هذه الآيات أوجه :
الوجه الأول : ما حرره بعض علماء البلاغة من أن وجه الإشارة إليه بإشارة الحاضر القريب ، أن هذا القرءان قريب حاضر في الأسماع والألسنة والقلوب ، ووجه الإشارة إليه بإشارة البعيد هو بعد مكانته ومنزلته من مشابهة كلام الخلق ، وعما يزعمه الكفار من أنه سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين .
الوجه الثاني : هو ما اختاره ابن جرير الطبري في تفسيره من أن ذلك إشارة إلى ما تضمنه قوله : الم ، وأنه أشار إليه إشارة البعيد لأن الكلام المشار إليه منقض ، ومعناه في الحقيقة القريب لقرب انقضائه ، وضرب له مثلا بالرجل يحدث الرجل فيقول له مرة : والله إن ذلك لكما قلت ، ومرة يقول : والله إن هذا لكما قلت ، فإشارة البعيد نظرا إلى أن الكلام مضى وانقضى ، وإشارة القريب نظرا إلى قرب انقضائه .
الوجه الثالث : أن العرب ربما أشارت إلى القريب إشارة البعيد ، فتكون الآية على
أسلوب من أساليب اللغة العربية ، ونظيره قول خفاف بن ندبة
السلمي ، لما قتل مالك بن حرملة الفزاري :
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمدا على عيني تيممت مالكا
أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
يعني أنا هذا ، وهذا القول الأخير حكاه البخاري عن عمر بن المثنى أبي عبيدة ، قاله ابن كثير ، وعلى كل حال فعامة المفسرين على أن ذلك الكتاب بمعنى هذا الكتاب .

 



قوله تعالى : إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون .
هذه الآية تدل بظاهرها على عدم إيمان الكفار ، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن بعض الكفار يؤمن بالله ورسوله كقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف الآية [8 \ 38] ، وكقوله : كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم [4 \ 94] ، وكقوله : ومن هؤلاء من يؤمن به [29 \ 47] .
ووجه الجمع ظاهر ،
وهو أن الآية من العام المخصوص ، لأنها في خصوص الأشقياء الذين سبقت لهم في علم الله الشقاوة المشار إليهم بقوله : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [10 \ 96 - 97] ، ويدل لهذا التخصيص قوله تعالى : ختم الله على قلوبهم الآية [2 \ 7] .
وأجاب البعض بأن المعنى لا يؤمنون ، ما دام الطبع على قلوبهم وأسماعهم والغشاوة على أبصارهم ، فإن أزال الله عنهم ذلك بفضله آمنوا .
 



قوله تعالى : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم الآية .

هذه الآية تدل بظاهرها على أنهم مجبورون لأن من ختم على قلبه وجعلت الغشاوة على بصره سلبت منه القدرة على الإيمان ، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن كفرهم واقع بمشيئتهم وإرادتهم ، كقوله تعالى : فاستحبوا العمى على الهدى [41 \ 17] .
وكقوله تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة [2 \ 175] .
وكقوله : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر الآية [18\ 29] كقوله ذلك بما قدمت أيديكم الآية [3\ 182] كقوله : لبئس ما قدمت لهم أنفسهم الآية [5\ 80]
والجواب أن الختم والطبع والغشاوة المجعولة على أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم ، كل ذلك عقاب من الله لهم على مبادرتهم للكفر وتكذيب الرسل باختيارهم ومشيئتهم ، فعاقبهم الله بعدم التوفيق جزاء وفاقا ، كما بينه تعالى بقوله :بل طبع الله عليها بكفرهم [4 \ 155] .
وقوله : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم [63 \ 3] .
وبقوله : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة [6 \ 110] .
وقوله : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [61 \ 5] .
وقوله : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا الآية [2 \ 10] .
وقوله : بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [83 \ 14] ، إلى غير ذلك من الآيات

 



قوله تعالى : صم بكم عمي فهم لا يرجعون الآية .
هذه الآية يدل ظاهرها على أن المنافقين لا يسمعون ، ولا يتكلمون ، ولا يبصرون ، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على خلاف ذلك ، كقوله تعالى : ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم [2 \ 20] .
وكقوله : وإن يقولوا تسمع لقولهم الآية [63 \ 4] ، أي لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم .
وقوله فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد [33 \ 19] ، إلى غير ذلك من الآيات ،
ووجه الجمع ظاهر /
وهو أنهم بكم عن النطق بالحق ، وإن تكلموا بغيره ، صم عن سماع الحق وإن سمعوا غيره ، عمي عن رؤية الحق وإن رأوا غيره ، وقد بين تعالى هذا الجمع بقوله : وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة الآية [46 \ 26] ، لأن ما لا يغني شيئا فهو كالمعدوم ، والعرب ربما أطلقت الصمم على السماع الذي لا أثر له ، ومنه قول قعنب بن أم صاحب :
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وقول الشاعر :
أصم عن الأمر الذي لا أريده ... وأسمع خلق الله حين أريد
وقول الآخر :فأصممت عمرا وأعميته ... عن الجود والفخر يوم الفخار
وكذلك الكلام الذي لا فائدة فيه فهو كالعدم .
قال هبيرة بن أبي وهب المخزومي :
وإن كلام المرء في غير كنهه ... لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها
 



قوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء الآية .
هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء بدليل لفظة : «ثم»التي هي للترتيب والانفصال ، وكذلك آية «حم السجدة» ، تدل أيضا على خلق الأرض قبل خلق السماء لأنه قال فيها : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين [41 \ 9] ، إلى أن قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية [41 \ 11] . مع أن آية «النازعات» تدل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء ، لأنه قال فيها : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها [75 \ 27] .
ثم
قال : والأرض بعد ذلك دحاها [79] .

اعلم أولا
أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن الجمع بين آية «السجدة» وآية «النازعات» ، فأجاب بأن الله تعالى خلق الأرض أولا قبل السماء غير مدحوة ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعا في يومين ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك ، فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك بعد خلق السماء ، ويدل لهذا أنه قال : والأرض بعد ذلك دحاها ولم يقل خلقها ، ثم فسر دحوه إياها بقوله : أخرج منها مآءها ومرعاها الآية [79 \ 31] . وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه ، مفهوم من ظاهر القرءان العظيم ، إلا أنه يرد عليه إشكال من آية «البقرة» هذه ، وإيضاحه أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء ، ودحوها بما فيها بعد خلق السماء .
وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء لأنه قال فيها : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء الآية [21 \ 129] . وقد مكثت زمنا طويلا أفكر في حل هذا الإشكال ، حتى هداني الله إليه ذات يوم ففهمته من القرءان العظيم ، وإيضاحه أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين ، كل منهما تدل عليه آية من القرءان:
الأول : أن المراد بخلق ما في الأرض جميعا قبل خلق السماء : الخلق اللغوي الذي هو التقدير لا الخلق بالفعل الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود ، والعرب تسمي التقدير خلقا ومنه قول زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ... ض القوم يخلق ثم لا يفري
والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير ، أنه تعالى نص على ذلك في سورة «فصلت» حيث قال : وقدر فيها أقواتها [41 \ 11] ، ثم قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية [41 \ 11] .
الوجه الثاني : أنه لما خلق الأرض غير مدحوة ، وهي أصل لكل ما فيها كان كل ما فيها كأنه خلق بالفعل لوجود أصله فعلا ، والدليل من القرءان على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع ، وإن لم يكن موجودا بالفعل .
 



قوله تعالى : الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن الظن يكفي في أمور المعاد ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى : إن الظن لا يغني من الحق شيئا [10 \ 36] وكقوله : إن هم إلا يظنون [2 \ 78]
ووجه الجمع
أن الظن بمعنى اليقين والعرب تطلق الظن بمعنى اليقين ومعنى الشك ، وإتيان الظن بمعنى اليقين كثير في القرءان وفي كلام العرب . فمن أمثلته في القرءان هذه الآية ، وقوله تعالى قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة . . . . . . الآية [2 \ 249] ، وقوله تعالى : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها [18 \ 53] ، أي أيقنوا ، وقوله تعالى : إني ظننت أني ملاق حسابيه [69 \ 20] ، أي أيقنت .
ونظيره من كلام العرب قول عميرة بن طارق :
بأن تغتروا قومي وأقعد فيكم ... وأجعل مني الظن غيبا مرجما
أي أجعل مني اليقين غيبا .
وقول دريد بن الصمة :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد
فقوله : ظنوا أي أيقنوا .
 



قوله تعالى لبني إسرائيل : وأني فضلتكم على العالمين .
لا يعارض /
قوله تعالى في تفضيل هذه الأمة : كنتم خير أمة أخرجت للناس الآية [3 \ 110] ، لأن المراد بالعالمين عالمو زمانهم بدليل الآيات والأحاديث المصرحة بأن هذه الأمة أفضل منهم ، كحديث معاوية بن حيدة القشيري في المسانيد والسنن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله .
ألا ترى أن الله جعل المقتصد منهم هو أعلاهم منزلة حيث قال : منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون [5 \ 66] ، وجعل في هذه الأمة درجة أعلى من درجة المقتصدة وهي درجة السابق بالخيرات ، حيث قال تعالى : ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات الآية [35] .
 



قوله تعالى : أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون .
هذه الآية تدل على أنهم قتلوا بعض الرسل ، ونظيرها قوله تعالى : قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم الآية [3 \ 183] .
وقوله : كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون [5 \ 70] .
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن الرسل غالبون منصورون كقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [58 \ 21] ، وكقوله : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [37 \ 171 - 173] ،
وقوله تعالى : فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم [14 \ 13 - 14] ،
وبين تعالى أن هذا النصر في دار الدنيا أيضا كما في هذه الآية الأخيرة ، وكما في

قوله : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا الآية [40 \ 51] .
والذي يظهر /
في الجواب من هذا أن الرسل قسمان : قسم أمروا بالقتال في سبيل الله ، وقسم أمروا بالصبر والكف عن الناس ، فالذين أمروا بالقتال وعدهم الله بالنصر والغلبة في الآيات المذكورة ، والذين أمروا بالكف والصبر هم الذين قتلوا ليزيد الله رفع درجاتهم العلية بقتلهم مظلومين ، وهذا الجمع مفهوم من الآيات لأن النصر والغلبة فيه الدلالة بالالتزام على جهاد ومقاتلة ، ولا يرد على هذا الجمع قوله تعالى : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير الآية [3 \ 146] .
وأما على قراءة «قاتل» بصيغة الماضي من فاعل فالأمر واضح ، وأما على قراءة «قتل» بالبناء للمفعول فنائب الفاعل قوله : «ربيون» لا ضمير «نبي» وتطرق الاحتمال يرد الاستدلال ، وأما على القول بأن غلبة الرسل ونصرتهم بالحجة والبرهان ، فلا إشكال في الآية ، والله أعلم
 



قوله تعالى : قد بينا الآيات لقوم يوقنون [2 \ 118] .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن البيان خاص بالموقنين .
وقد جاءت آيات أخر تدل على أن البيان عام لجميع الناس كقوله تعالى كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون [2 \ 187] ، وكقوله : هذا بيان للناس [3 \ 138] ،
ووجه الجمع
أن البيان عام لجميع الخلق ، إلا أنه لما كان الانتفاع به خاصا بالمتقين ، خص في هذه الآية بهم لأن ما لا نفع فيه كالعدم ، ونظيرها قوله تعالى : إنما أنت منذر من يخشاها [79 \ 45] وقوله : إنما تنذر من اتبع الذكر الآية [36 \ 11] ، مع أنه منذر للأسود والأحمر ، وإنما خص الإنذار بمن يخشى ومن يتبع الذكر لأنه المنتفع به .
 



قوله تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن القصاص أمر حتم لا بد منه ، بدليل قوله تعالى : «كتب عليكم» لأن معناه فرض وحتم عليكم ، مع أنه تعالى ذكر أيضا أن القصاص ليس بمتعين ، لأن ولي الدم بالخيار ، في قوله تعالى : فمن عفي له من أخيه شيء الآية [2 \ 178] .
والجواب ظاهر /
وهو أن فرض القصاص وإلزامه فيما إذا لم يعف أولياء الدم أو بعضهم ، كما يشير إليه قوله تعالى : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل الآية [17 \ 33] .

 



قوله تعالى : لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي .
هذه الآية تدل بظاهرها على أنه لا يكره أحد على الدخول في الدين ، ونظيرها قوله تعالى : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [10 99] .
وقوله تعالى : فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ [42 48] ، وقد جاء في آيات كثيرة ما يدل على إكراه الكفار على الدخول في الإسلام بالسيف كقوله تعالى : تقاتلونهم أو يسلمون [48 16] ، وقوله : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة [2 193] ، أي شرك .
ويدل لهذا التفسير الحديث الصحيح : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله الحديث ،
والجواب عن هذا بأمرين /
الأول :/
وهو الأصح ، أن هذه الآية في خصوص أهل الكتاب ،والمعنى أنهم قبل نزول قتالهم لا يكرهون على الدين مطلقا وبعد نزول قتالهم لا يكرهون عليه إذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
والدليل على خصوصها بهم ما رواه أبو داود وابن أبي حاتم والنسائي وابن حبان وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده ، فلما أجليت بنو النضير ، كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا ، فأنزل الله : لا إكراه في الدين .
المقلاة : التي لا يعيش لها ولد ، وفي المثل : أحر من دمع المقلاة .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال نزلت : لا إكراه في الدين في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له : الحصين ، كان له ابنان نصرانيان وكان هو مسلما ، فقال للنبي : ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ فأنزل الله الآية .
وروى ابن جرير أن سعيد بن جبير سأله أبو بشر عن هذه الآية ، فقال : نزلت في الأنصار ، فقال : خاصة ؟ قال : خاصة .
وأخرج ابن جرير عن قتادة بإسنادين في قوله : لا إكراه في الدين قال : أكره عليه هذا الحي من العرب لأنهم كانوا أمة أمية ليس لهم كتاب يعرفونه ، فلم يقبل منهم غير الإسلام ، ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقروا بالجزية أو بالخراج ولم يفتنوا عن دينهم فيخلى سبيلهم .
وأخرج ابن جرير أيضا عن الضحاك في قوله : لا إكراه في الدين أو قال : أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان فلم يقبل منهم إلا : لا إله إلا الله أو السيف ، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل منهم الجزية ، فقال : لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أيضا في قوله : لا إكراه في الدين قال : وذلك لما دخل الناس في الإسلام وأعطى أهل الكتاب الجزية ،فهذه النقول تدل على خصوصها بأهل الكتاب المعطين الجزية ومن في حكمهم ، ولا يرد على هذا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لأن التخصيص فيها عرف بالنقل عن علماء التفسير لا بمطلق خصوص السبب ، ومما يدل للخصوص أنه ثبت في الصحيح : عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل .
الأمر الثاني /
أنها منسوخة بآيات القتال كقوله : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين
الآية [9 5] ، ومعلوم أن سورة «البقرة» من أول ما نزل بالمدينة ، وسورة «براءة» من آخر ما نزل بها ، والقول بالنسخ مروي عن ابن مسعود وزيد بن أسلم ، وعلى كل حال فآيات السيف نزلت بعد نزول السورة التي فيها : «لا إكراه» الآية ، والمتأخر أولى من المتقدم ، والعلم عند الله تعالى .

 



قوله تعالى : إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن الوسوسة وخواطر القلوب يؤاخذ بها الإنسان مع أنه لا قدرة له على دفعها ، وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الإنسان لا يكلف إلا بما يطيق كقوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [2 286] ، وقوله : فاتقوا الله ما استطعتم [64 \ 16] .
والجواب/
أن آية : إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه منسوخة بقوله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها .
 



قوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن من القرآن محكما ومنه متشابها .
وقد جاءت آية أخرى تدل على أن كله محكم وآية تدل على أن كله متشابه ، أما التي تدل على إحكامه كله فهي قوله تعالى : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [11 \ 1] ، وأما التي تدل على أن كله متشابه فهي قوله تعالى : كتابا متشابها مثاني [39 \ 23] ،

ووجه الجمع بين هذه الآيات /
أن معنى كونه كله محكما ، أنه في غاية الإحكام أي الإتقان في ألفاظه ومعانيه وإعجازه ، أخباره صدق وأحكامه عدل ، لا تعتريه وصمة ولا عيب ، لا في الألفاظ ولا في المعاني .
ومعنى كونه متشابها ، أن آياته يشبه بعضها بعضا في الحسن والصدق ، والإعجاز والسلامة من جميع العيوب ، ومعنى كون بعضه محكما وبعضه متشابها ، أن المحكم منه هو واضح المعنى لكل الناس كقوله : ولا تقربوا الزنا [17] ، ولا تجعل مع الله إلها آخر [17 \ 39] .
والمتشابه هو ما خفي علمه على غير الراسخين في العلم ، بناء على أن الواو في قوله تعالى : والراسخون في العلم [3 \ 7] ، عاطفة أو هو ما استأثر الله بعلمه ، كمعاني الحروف المقطعة في أوائل السور بناء على أن الواو في قوله تعالى : والراسخون في العلم استئنافية لا عاطفة .

 



قوله تعالى : إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي الآية .
هذه الآية الكريمة يتوهم من ظاهرها وفاة عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .
وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على خلاف ذلك كقوله : وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم [4 \ 157] ، وقوله : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته الآية [4 \ 159] .
على ما فسرها به ابن عباس في إحدى الروايتين وأبو مالك والحسن وقتادة وابن . . . . . . وأبو هريرة ، ودلت على صدقه الأحاديث المتواترة ، واختاره ابن جرير وجزم ابن كثير ، بأنه الحق من أن قوله : «قبل موته» أي موت عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه /
الأول : أن قوله تعالى : «متوفيك» لا يدل على تعيين الوقت ، ولا يدل على كونه قد مضى وهو متوفيه قطعا يوما ما ، ولكن لا دليل على أن ذلك اليوم قد مضى ، وأما
عطفه : «ورافعك» إلى قوله : «متوفيك» ، فلا دليل فيه لإطباق جمهور أهل اللسان العربي على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع ، وإنما تقتضي مطلق التشريك .
وقد ادعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك ، وعزاه الأكثر للمحققين وهو الحق . خلافا لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمر والزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه .
وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال : لم أجده في كتابه .
وقال ولي الدين : أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي ، حكاه عنه صاحب الضياء اللامع .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ابدأ بما بدأ الله به يعني الصفا لا دليل فيه على اقتضائها الترتيب ، وبيان ذلك هو ما قاله الفهري كما ذكر عنه صاحب الضياء اللامع وهو أنها كما أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية فكذلك لا تقتضي المنع منهما ، فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالأول كقوله إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية [2 158] . بدليل الحديث المتقدم ، وقد يكون المعطوف بها مرتبا كقول حسان :
هجوت محمدا ... وأجبت عنه
على رواية الواو وقد يراد بها المعية كقوله : فأنجيناه وأصحاب السفينة [29 \ 15] ، وقوله : وجمع الشمس والقمر [75 \ 9] ، ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل .
الوجه الثاني : أن معنى «متوفيك» أي : منيمك «ورافعك إلي» ،
أي : في تلك النومة .
وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار [6 \ 60] ، وقوله : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها [39 \ 42] .
وعزا ابن كثير هذا القول للأكثرين ، واستدل بالآيتين المذكورتين وقوله صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا . . . . . الحديث .
الوجه الثالث : إن «متوفيك» اسم فاعل توفاه إذا قبضه وحازه إليه ، ومنه قولهم : توفى فلان دينه ، إذا قبضه إليه ، فيكون معنى «متوفيك» على هذا قابضك منهم إلي حيا .
وهذا القول هو اختيار ابن جرير ، وأما الجمع بأنه توفاه ساعات أو أياما ، ثم أحياه ، فالظاهر أنه من الإسرائيليات ، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تصديقها وتكذيبها .

 



قوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على أنهم لم يؤمروا بقتال الكفار إلا إذا قاتلوهم ، وقد جاءت آيات أخر تدل على وجوب قتال الكفار مطلقا قاتلوا أم لا ، كقوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة[2 193] .
وقوله : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد[9 5] .
وكقوله تعالى : تقاتلونهم أو يسلمون[48 6] .
والجواب عن هذا بأمور /
الأول : وهو أحسنها وأقربها ، أن المراد بقوله : «الذين يقاتلونكم» تهييج المسلمين وتحريضهم على قتال الكفار ، فكأنه يقول لهم : هؤلاء الذين
أمرتكم بقتالهم هم خصومكم وأعداؤكم الذين يقاتلونكم ، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة [9 36] ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
الوجه الثاني : أنها منسوخة بقوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وهذا من جهة النظر ظاهر حسن جدا ، وإيضاح ذلك أن من حكمة الله البالغة في التشريع ، أنه إذا أراد تشريع أمر عظيم على النفوس ربما يشرعه تدريجا لتخف صعوبته بالتدريج ، فالخمر مثلا لما كان تركها شاقا على النفوس التي اعتادتها ، ذكر أولا بعض معائبها بقوله : قل فيهما إثم كبير [2 219] .
ثم بعد ذلك حرمها في وقت دون وقت ، كما دل عليه قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية [2 43] .
ثم لما استأنست النفوس بتحريمها في الجملة حرمها تحريما باتا بقوله : رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون [5 90] .
وكذلك الصوم لما كان شاقا على النفوس شرعه أولا على سبيل التخيير بينه وبين الإطعام ثم رغب في الصوم مع التخيير بقوله : وأن تصوموا خير لكم [2 184] ، ثم لما استأنست به النفوس أوجبه إيجابا حتما بقوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه الآية [2 185] .
وكذلك القتال على هذا القول شاق على النفوس ، أذن فيه أولا من غير إيجاب بقوله : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا الآية [22 39] .
ثم أوجب عليهم قتال من قاتلهم دون من لم يقاتلهم بقوله : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم .
ثم استأنست نفوسهم بالقتال أوجبه عليهم إيجابا عاما بقوله : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم الآية .
الوجه الثالث : وهو اختيار ابن جرير ، ويظهر لي أنه الصواب ، أن الآية محكمة وأن معناها : قاتلوا الذين يقاتلونكم ، أي من شأنهم أن
يقاتلوكم .
أما الكافر الذي ليس من شأنه القتال كالنساء والذراري والشيوخ الفانية والرهبان وأصحاب الصوامع ، ومن ألقى إليكم السلم فلا تعتدوا بقتالهم لأنهم لا يقاتلونكم ، ويدل لهذا الأحاديث المصرحة بالنهي عن قتل الصبي ، وأصحاب الصوامع ، والمرأة والشيخ الهرم إذا لم يستعن برأيه .
وأما صاحب الرأي فيقتل كدريد بن الصمة ، وقد فسر هذه الآية بهذا المعنى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، وابن عباس والحسن البصري .

 



قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته الآية .
هذه الآية تدل على التشديد البالغ في تقوى الله تعالى ، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم [64 \ 16] ،

والجواب بأمرين /
الأول : أن آية : فاتقوا الله ما استطعتم ، ناسخة لقوله : اتقوا الله حق تقاته وذهب إلى هذا القول سعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم والسدي وغيرهم ، قاله ابن كثير .
الثاني : أنها مبينة للمقصود بها ، والعلم عند الله تعالى .

 



قوله تعالى : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة .
وصف الله المؤمنين في هذه الآية بكونهم أذلة حال نصره لهم ببدر ، وقد جاء في آية أخرى وصفه تعالى لهم بأن لهم العزة وهي قوله تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [63 \ 8] ، ولا يخفى ما بين العزة والذلة من التنافي والتضاد .
والجواب ظاهر /
وهو أن معنى وصفهم بالذلة هو قلة عددهم وعددهم يوم بدر ،
وقوله تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين نزل في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق ، وذلك بعد أن قويت شوكة المسلمين وكثر عددهم وعددهم مع أن العزة والذلة يمكن الجمع بينهما باعتبار آخر ، وهو أن الذلة باعتبار حال المسلمين من قلة العدد والعدد ، والعزة باعتبار نصر الله وتأييده كما يشير إلى هذا قوله تعالى : واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره [8 \ 26] .
وقوله : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة [3 \ 123] ، فإن زمان الحال هو زمان عاملها ، فزمان النصر هو زمان كونهم أذلة ، فظهر أن وصف الذلة باعتبار ، ووصف النصر والعزة باعتبار آخر ، فانفكت الجهة ، والعلم عند الله تعالى .

 



قوله تعالى : فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم الآية .
قوله تعالى : فأثابكم غما بغم أي غما على غم يعني حزنا على حزن أو أثابكم غما بسبب غمكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيان أمره ، والمناسب لهذا الغم بحسب ما يسبق الذهن أن يقول لكي تحزنوا . أما قوله : «لكيلا تحزنوا» فهو مشكل لأن الغم سبب للحزن لا لعدمه .
والجواب عن هذا من أوجه /
الأول : أن قوله : «لكيلا تحزنوا» متعلق بقوله تعالى : ولقد عفا عنكم [3 \ 152] ، وعليه فالمعنى أنه تعالى عفا عنكم لتكون حلاوة عفوه تزيل عنكم ما نالكم من غم القتل والجراح ، وفوت الغنيمة والظفر والجزع من إشاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قتله المشركون .
الوجه الثاني : أن معنى الآية ، أنه تعالى غمكم هذا الغم لكي تتمرنوا على نوائب الدهر ، فلا يحصل لكم الحزن في المستقبل ، لأن من اعتاد الحوادث لا تؤثر عليه .
الوجه الثالث : أن «لا» وصلة وسيأتي الكلام على زيادتها بشواهده العربية إن شاء الله تعالى في الجمع بين قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد [90] ، وقوله : وهذا البلد الأمين [95 \ 3] .
 



قوله تعالى : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن العدل بين الزوجات ممكن ،
وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنه غير ممكن وهو قوله تعالى : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم الآية [4 \ 129] .

والجواب عن هذا /
أن العدل بينهن الذي ذكر الله أنه ممكن هو العدل في توفية الحقوق الشرعية . والعدل الذي ذكر أنه غير ممكن هو المساواة في المحبة والميل الطبيعي ، لأن هذا انفعال لا فعل فليس تحت قدرة البشر ، والمقصود أن من كان أميل بالطبع إلى إحدى الزوجات فليتق الله وليعدل في الحقوق الشرعية ، كما يدل عليه قوله : فلا تميلوا كل الميل الآية [4 \ 129] .
وهذا الجمع روي معناه عن ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد والحسن البصري والضحاك بن مزاحم نقله عنهم ابن كثير في تفسير قوله : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء الآية .
وروى ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة أن آية : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء نزلت في عائشة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يميل إليها بالطبع أكثر من غيرها .
وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ، يعني القلب ، انتهى من ابن كثير .

 



قوله تعالى : ولا يكتمون الله حديثا .
هذه الآية تدل على أن الكفار لا يكتمون من خبرهم شيئا يوم القيامة ، وقد جاءت آيات أخرى تدل على خلاف ذلك
كقوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [6 \ 23] ،
وقوله تعالى : فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء [16 \ 28] .
وقوله : بل لم نكن ندعو من قبل شيئا [40] .
ووجه الجمع في ذلك /
هو ما بينه ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل عن قوله تعالى: والله ربنا ما كنا مشركين مع قوله : ولا يكتمون الله حديثا ، وهو أن ألسنتهم تقول : والله ربنا ما كنا مشركين فيختم الله على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون .
فكتم الحق باعتبار اللسان وعدمه باعتبار الأيدي والأرجل ، وهذا الجمع يشير إليه قوله تعالى : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [36 65] .
وأجاب بعض العلماء بتعدد الأماكن فيكتمون في وقت ولا يكتمون في وقت آخر ، والعلم عند الله تعالى .
 



قوله تعالى : وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله .
لا تعارض بينه وبين قوله تعالى : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك [4 79] .
والجواب ظاهر /
وهو أن معنى قوله : وإن تصبهم حسنة أي مطر وخصب وأرزاق وعافية يقولوا هذا أكرمنا الله به ، وإن تصبهم سيئة أي جدب وقحط وفقر وأمراض ، يقولوا هذه من عندك أي من شؤمك يا محمد وشؤم ما جئت به . قل لهم : كل ذلك من الله .
ومعلوم أن الله هو الذي يأتي بالمطر والرزق والعافية ، كما أنه يأتي بالجدب والقحط والفقر والأمراض والبلايا ، ونظير هذه الآية قول الله في فرعون وقومه مع موسى : وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه [7 131] .
وقوله تعالى في قوم صالح مع صالح : قالوا اطيرنا بك وبمن معك الآية [27 \ 47] ، وقول أصحاب القرية للرسل الذين أرسلوا إليهم : قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم الآية [36 \ 18] .
وأما قوله : ما أصابك من حسنة فمن الله أي لأنه هو المتفضل بكل نعمة وما أصابك من سيئة فمن نفسك أي من قبلك ومن قبل عملك أنت إذ لا تصيب الإنسان سيئة إلا بما كسبت يداه ، كما قال تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [42] .
 



قوله تعالى : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذ تحاكم إليه أهل الكتاب مخير بين الحكم بينهم والإعراض عنهم ، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله الآية [5 \ 49] .

والجواب/
أن قوله تعالى : وأن احكم بينهم ناسخ لقوله : أو أعرض عنهم وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن أسلم
وعطاء الخراساني وغير واحد ، قاله ابن كثير .
وقيل : معنى وأن احكم أي إذا حكمت بينهم ، فاحكم بما أنزل الله لا باتباع الهوى ، وعليه فالأولى محكمة ، والعلم عند الله تعالى .
 



قوله تعالى : ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الله مولى الكافرين ونظيرها قوله تعالى : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون [10] .
وقد جاء في آية أخرى ما يدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى : ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم [47 \ 11] .

والجواب عن هذا /
أن معنى كونه مولى الكافرين أنه مالكهم المتصرف فيهم بما شاء ، ومعنى كونه مولى المؤمنين دون الكافرين ، أي ولاية المحبة والتوفيق والنصر ، والعلم عند الله تعالى .
وأما على قول من قال : إن الضمير في قوله : ردوا وقوله : مولاهم عائد إلى الملائكة فلا إشكال في الآية أصلا ، ولكن الأول أظهر .
 



قوله تعالى : وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها .
يتوهم منه الجاهل أن إنذاره صلى الله عليه وسلم مخصوص بأم القرى وما يقرب منها دون الأقطار النائية عنها لقوله تعالى : ومن حولها ونظيره قوله تعالى في سورة «الشورى» وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه [42 \ 7] .
وقد جاءت آيات أخر تصرح بعموم إنذاره صلى الله عليه وسلم لجميع الناس كقوله تعالى : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [25] ، وقوله تعالى : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [6 \ 19] ، وقوله :
قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [7 \ 158] ، وقوله : وما أرسلناك إلا كافة للناس الآية [34 28] .
والجواب من وجهين /
الأول : أن المراد بقوله : ومن حولها شامل لجميع الأرض كما رواه ابن جرير وغيره عن ابن عباس .
الوجه الثاني : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن قوله : ومن حولها لا يتناول إلا القريب من مكة المكرمة حرمها الله كجزيرة العرب مثلا ، فإن الآيات الأخر نصت على العموم كقوله : ليكون للعالمين نذيرا .
وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه عند عامة العلماء ولم يخالف فيه إلا أبو ثور ، وقد قدمنا ذلك واضحا بأدلته في سورة «المائدة» .
فالآية على هذا القول كقوله : وأنذر عشيرتك الأقربين [26 \ 214] ، فإنه لا يدل على عدم إنذار غيرهم ، كما هو واضح ، والعلم عند الله تعالى .

 



قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ، هذه الآية الكريمة توهم أن الله تعالى لا يرى بالأبصار, وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه يرى بالأبصار، كقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ, إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، وكقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، فالحسنى: الجنة, والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم، وكذلك قوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} على أحد القولين، وكقوله تعالى في الكفار: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}، يفهم من دليل خطابه أن المؤمنين ليسوا محجوبين عن ربهم
والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن المعنى: لا تدركه الأبصار أي في الدنيا فلا ينافي الرؤية في الآخرة.
الثاني: أنه عام مخصوص برؤية المؤمنين له في الآخرة, وهذا قريب في المعنى من الأول.
الثالث: وهو الحق: أن المنفي في هذه الآية الإدراك المشعر بالإحاطة بالكنه, أما مطلق الرؤية فلا تدل الآية على نفيه بل هو ثابت بهذه الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة واتفاق أهل السنة والجماعة على ذلك.

 



قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} الآية, هذه الآية الكريمة تدل على أن الله يسأل جميع الناس يوم القيامة ونظيرها قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ, عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}, وقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ}، وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ}, وكقوله: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}.

والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:

الأول: وهو أوجهها لدلالة القرآن عليه وهو أن السؤال قسمان: سؤال توبيخ وتقريع, وأداته غالبا (لم )، وسؤال استخبار واستعلام وأداته غالبا (هل) فالمثبت هو سؤال التوبيخ والتقريع, والمنفي هو سؤال: الاستخبار والاستعلام، وجه دلالة القرآن على هذا أن سؤاله لهم المنصوص في القرآن كله توبيخ وتقريع كقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ, مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ}, وكقوله: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ}، وكقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}، وكقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}، إلى غير ذلك من الآيات، وسؤال الله للرسل ماذا أجبتم لتوبيخ الذين كذبوهم كسؤال الموؤودة بأي ذنب قتلت لتوبيخ قاتلها.

الوجه الثاني: أن في القيامة مواقف متعددة ففي بعضها يسألون وفي بعضها لا يسألون.

الوجه الثالث: هو ما ذكره الحليمي من أن إثبات السؤال محمول على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل، وعدم السؤال محمول على ما يستلزمه الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه، ويدل لهذا قوله تعالى فيقول: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} والعلم عند الله تعالى.

 



قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} هذه الآية الكريمة يتوهم خلاف ما دلت عليه من ظاهر آية أخرى وهي قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} الآية،

الجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: وهو أظهرها أن معنى قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أي بطاعة الله وتصديق الرسل ففسقوا أي بتكذيب الرسل ومعصية الله تعالى فلا إشكال في الآية أصلا.

الوجه الثاني: أن الأمر في قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أمر كوني قدري لا أمر شرعي، أي قدرنا عليهم الفسق بمشيئتنا، والأمر الكوني القدري كقوله: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، والأمر في قوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} أمر شرعي ديني فظهر أن الأمر المنفي غير الأمر المثبت.

الوجه الثالث: أن معنى {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا}: أي كثرناهم حتى بطروا النعمة ففسقوا، ويدل لهذا المعنى الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد مرفوعا من حديث سويد بن هبيرة ـ رضي الله عنه ـ: "خير مال امرئ مهرة مأمورة أو سكة مأبورة" فقوله مأمورة أي كثيرة النسل وهي محل الشاهد.
 



قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية .
هذه الآية تدل على أن وجل القلوب عند سماع ذكر الله من علامات المؤمنين .
وقد جاء في آية أخرى ما يدل على خلاف ذلك وهي قوله : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [13 \ 28] .
فالمنافاة بين الطمأنينة ووجل القلوب ظاهرة .
والجواب عن هذا ...
أن الطمأنينة تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد ، والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [39 \ 23] ، وقوله تعالى : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا الآية [13 \ 8] .
وقوله تعالى : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون [23 \ 60] .
 



قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}. الآية. اعلم أولا أن المراد بهذه الأشهر الحرم أشهر المهلة المنصوص عليها بقوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر لا الأشهر الحرم التي هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب على الصحيح وهو قول ابن عباس في رواية العوفي عنه.
وبه قال مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد ابن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم واستظهر هذا القول ابن كثير لدلالة سياق القرآن الكريم عليه ولأقوال هؤلاء العلماء خلافا لابن جرير وعليه فالآية تدل بعمومها على قتال الكفار في الأشهر الحرم المعروفة بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة وقد جاءت آية أخرى تدل على عدم القتال فيها وهي قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}. الآية.
والجواب ...
أن تحريم الأشهر الحرم(1)[1] منسوخ بعموم آيات السيف ومن يقول بعدم النسخ يقول: هو مخصص لها. والظاهر أن الصحيح كونها منسوخة كما يدل عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حصار ثقيف في الشهر الحرام الذي هو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين أنه خرج إلى هوازن في شهر شوال فلما كسرهم واستفاء أموالهم ورجع إليهم لجأوا إلى الطائف فعمد إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوما وانصرف ولم يفتحها فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام وهذا القول هو المشهور عند العلماء وعليه فقوله تعالى: {َاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ناسخ لقوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} وقوله: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} وقوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} الآية. والمنسوخ من هذه ومن قوله أربعة حرم هو تحريم الشهر في الأولى والأشهر في الثانية فقط دون ما تضمنتاه من الخبر لأن الخبر لا يجوز نسخه شرعاً.
 



قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً}. الآية. هذه الآية الكريمة تدل على لزوم الخروج للجهاد في سبيل الله على كل حال وقد جاءت آيات أخرى تدل على خلاف ذلك كقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ}. الآية. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}. الآية.
والجواب:
أن آية انفروا خفافا وثقالا منسوخة بآيات العذر المذكورة وهذا الوضع من أمثلة ما نسخ فيه الناسخ لأن قوله: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً..} ناسخ لآيات الإعراض عن المشركين وهو منسوخ بآيات العذر كما ذكرنا آنفا. والعلم عند الله تعالى.
 



قوله تعالى : فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن هذا الابن من أهل نوح عليه السلام ، وقد ذكر تعالى ما يدل على خلاف ذلك حيث قال : يانوح إنه ليس من أهلك [11 \ 46] .
والجواب :
أن معنى قوله : ليس من أهلك أي الموعود بنجاتهم في قوله : إنا منجوك وأهلك [29 \ 33] ، لأنه كافر لا مؤمن .
وقول نوح : إن ابني من أهلي يظنه مسلما من جملة المسلمين الناجين كما يشير إليه قوله تعالى : فلا تسألني ما ليس لك به علم [11 \ 46] ، وقد شهد الله أنه ابنه حيث قال : ونادى نوح ابنه [11 \ 42] ، إلا أنه أخبره بأن هذا الابن عمل غير صالح لكفره ، فليس من الأهل الموعود بنجاتهم وإن كان من جملة الأهل نسبا .


 

جهاد حِلِّسْ
  • فوائد من كتاب
  • درر وفوائد
  • الصفحة الرئيسية