اطبع هذه الصفحة


زغل الإخاء..! (1) ...فضول العدول !

خالد عبداللطيف


قبسات وهمسات.. نفحات ولفحات.. في زمن زاد فيه "دبيب البغضاء"!
مدارها: شوائب تكدّر الصفاء، وتشوّه وجه الإخاء!
ومدادها: قطرات ندى للأخلاّء.. وعبرات من عيون الأوفياء!

قبسـات

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (المائدة:101).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (رواه الترمذي وحسّنه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأحمد والطبراني والحاكم وغيرهم، وقد اختلف في إسناده. وصححه الألباني في صحيح الجامع).

أنّى يجتمعان؟!

كم للغة العرب من أياد بيضاء في تهذيب الألسنة من اللحن! وكم لها - لمن استرشد بها في معرفة معرفة الحسن من القبيح - من أياد بيضاء في تهذيب الأخلاق!
كيف لا وكتاب الله - جل وعلا - الذي ارتضاه منهاجاً لنا.. نزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}، فلا نفقه مواعظه وأوامره ونواهيه إلا بالدراية بها!
وفيما كتبت حوله هذه السطور دلالة لذلك؛ فبين الأخيار "العدول" وصفة "الفضول" في لسان العرب بون شاسع، فأنّى يجتمعان؟!
"الفضول" - كما في المعجم الوسيط -: ما لا فائدة فيه. يقال: هذا من فضول القول. واشتغال المرء أو تدخله فيما لا يعنيه.  و(الفضولي) من الرجال: المشتغل بالفضول أي الأمور التي لا تعنيه.
وأما "العدْل" بفتح العين وإسكان الدال فهو – كما في القاموس المحيط -: ضد الجور، وما قام في النفوس أنه مستقيم، كالعدالة. ويقال للواحد: رجل عدل، وامرأة عدل، وعدلة، والجمع عدول.
إنها صورة بيانية بليغة ترسمها لغتنا البديعة لحالة تناقض بائسة يتلبس بها اليوم كثير من الأخيار العدول، مع كون هذه الآفة تتنقص من وصفهم بالعدل والاستقامة، فمقل ومستكثر؟!

بسيف الحيـاء..!

كم من مغمور بين الناس صان نفسه عن آفة الفضول، والتطلع لما لا يعنيه من شؤون؛ فعظم شأنه في نفوس الناس بذلك، فيما تصاغر آخرون.. منهم من يشار إليهم بالبنان ؛ بانزلاقهم في مهاوي هذه الآفة؛ واقتحامهم في أسرار الناس وخاصة أمرهم بتساؤلات يجيبونهم عنها بسيف الحياء، ثم ينفضون عنهم وقد شوّه الفضولُ صورة العدول البيضاء النقية في مخيلاتهم!
وهكذا اجتمعت مع آفة حصول الفضول من عدل قدوة: آفة تسليط سيف الحياء على ألسنة الناس؛ لتلقي للفضولي بكلمات تطفئ أو تخفف نار فضوله؛ وفي مأثور الحكمة: "ما أخذ بسيف الحياء فهو غصب"!

وبسيف الإخــاء..!

ويزداد ألم النفس وتوجعها حين تلقي هذه الآفة بظلال قاتمة على آصرة الأخوة الكريمة!
فيالله العجب من إخوان ومتحابين يحسبون من حقهم على إخوانهم وأحبابهم في الله: أن يكون سرهم وعلانيتهم لهم سواء، وألا يكون لأمر لهم دونهم خفاء!
والأعجب أن يُنظر إلى المتعفف عن الفضول والتطلع إلى خفايا حياة الناس على أن فيه جفاءً وانقباضا وإحجاماً، دون تفريق بين ما يليق وما لا يليق! فشتان بين التواصل وتفقد أحوال الأصحاب، وبين التطفل على أسرار دونها ستر وحجاب!
ولله در القاضي الثقة "علي الجرجاني"، الذي أثنى عليه الإمام الذهبي في ترجمته له في "سير أعلام النبلاء"، ووصف أبياتاً له بـ"الفائقة" يقول فيها مما له صلة بموضوعنا؛ من التعفف عما لا يعني المرء، ولزومه عزة النفس، في فوائد أخرى رائقة مستطابة:
يقولون لي: فيك انقباض وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أكرما
ولم أقض حق العلم إن كنت كلما بدا طمع صيرته لي سلما
وما زلت منحازاً ببعضي جانباً عن الذل أعتد الصيانة مغنما
إذا قيل: هذا منهل، قلت: قد أرى ولكن نفس الحر تحتمل الظما
أنزهها عن بعض ما قد يشينها مخافة أقوال العدا: فيم أو لمِا
فأصبح عن عيب اللئيم مسلماً وقد رحت في نفس الكريم معظما
إلى أن قال رحمه الله تعالى:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما
 
ما بال أقوام..؟!

إنه حديث ذو شجون عن صفة تخدش المروءة، وتشين القدوة، وقد تتجاوز وتتعدى إلى الإثم!
فما بال أقوام يفرّطون في مروءتهم بشروى نقير من فضول وتطلع واستشراف لما لا يعنيهم؟!
هذا مع كونها خصلة مذمومة ينحاز الحر بعرضه عنها، وقد ذمّهاَ السلف – رحمهم الله تعالى – وأصحابها، قال القرطبي – رحمه الله – في تفسيره: "قال ابن عون: سألت نافعا عن قوله تعالى: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ..} فقال: لم تزل المسائل منذ قط تكره. روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات وكره لكم ثلاثا: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال"... وقيل: المراد بكثرة المسائل: السؤال عما لا يعني من أحوال الناس؛ بحيث يؤدي ذلك إلى كشف عوراتهم والاطلاع على مساوئهم.." (انتهى مختصرا).

حَسِّن إسلامك..!

أما ابن رجب فقد أبدع في ربط التحرر من أسر هذه الآفة بحسن الإسلام، عند شرحه لحديث"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه في جامع العلوم والحكم فقال - رحمه الله تعالى –:

"ومعنى هذا الحديث: أنَّ من حسن إسلامه تَرك ما لا يعنيه من قول وفعل، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال. ومعنى يعنيه: أنْ تتعلق عنايتُه به، ويكون من مقصده ومطلوبه، والعناية: شدة الاهتمام بالشيء، يقال: عناه يعنيه: إذا اهتمَّ به وطلبه، وليس المراد أنه يترك ما لا عناية له به ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس، بل بحكم الشرع والإسلام، ولهذا جعله من حسن الإسلام، فإذا حَسُنَ إسلامُ المرء، ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال..".
إلى أن قال: "وإذا حسن الإسلام اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات والمشتبهات والمكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها، فإنَّ هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامهُ، وبلغ إلى درجة الإحسان، وهو أنْ يَعْبُدَ الله تعالى كأنَّه يراه، فإنْ لم يكن يراه، فإنَّ الله يراه" انتهى كلامه رحمه الله.

وأكّـد العلامة محمد بن صالح العثيمين في شرح الأربعين النووية هذا الارتباط بين حسن الإسلام وترك ما لا يعني المرء، وفي المقابل: دلالة كثرة اشتغال المرء بما لا يعنيه على ضعف إسلامه! فذكر – رحمه الله تعالى – ضمن فوائد هذا الحديث:
 *أن ترك الإنسان ما لا يهتم به ولا تتعلق به أموره وحاجاته منْ حسن إسلامه.
* أن من اشتغل بما لا يعنيه فإن إسلامه ليس بذاك الحسن، وهذا يقع كثيراً لبعض الناس فتجده يتكلم في أشياء لا تعنيه، أو يأتي لإنسان يسأله عن أشياء لا تعنيه ويتدخل فيما لا يعنيه، وكل هذا يدل على ضعف الإسلام.
* أنه ينبغي للإنسان أن يتطلب محاسن إسلامه فيترك ما لا يعنيه ويستريح، لأنه إذا اشتغل بأمور لاتهمّه ولا تعنيه فقد أتعب نفسه!

جزاء الفضولي..!
لا يلومنّ من أهان نفسه وأضاع وقاره بإدمان الفضول إلا نفسه.. إذا لحقه ما قد يلحق أهلها من هوان ومذلة؛ فالجزاء من جنس العمل، وقد قيل: "من طلب ما لا يعنيه نال ما لا يرضيه"!
بل لعل في صدّ الفضوليين عما يستشرفون إليه بحكمة وحنكة من كل لبيب عاقل نهياً لهم عن هذه الآفة يردعهم عن مقارفتها أو بعض ذلك؛ حفظاً لماء وجوههم!
ولهذا جاء في بعض نصائح المعاصرين الطريفة:
من فاجأك بسؤاله عن مقدار مالك أو دخلك ونحو ذلك... فابتسم وقل: ولماذا تريد أن تعرف؟!
وخير من ذلك وأهدى سبيلاً درس من قدوة المربين أجمعين، خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، لمن سأله: متى الساعة؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: "ما أعددت لها؟ " (كما في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه).
ففي ذلك توجيه لصرف المرء عن تطلعه لما لا ينفعه.. إلى ما ينفعه، فما أوجزها من تربية نبوية بليغة!

الفضول المقبول..!
ولا يُشكل على مسلم في هذا الشأن أمر لو سمّي لغة بالفضول لكان جديرا بوصف "الفضول المقبول"، بل المحمود الجليل!
إنها الشعيرة العظيمة لأمة الخيرية؛ التي ينقلب بها الفضول المذموم إلى عمل نبيل كريم، ينقذ سفينة المجتمع من الغرق والهلاك: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"!
قال العلامة ابن عثيمين في شرح الأربعين:
"وهنا قد يَرِدُ إشكالٌ، وهو: هل ترك العبد ما لا يعنيه هو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
والجواب: لا، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يعني الإنسان، كما قال الله عزّ وجل: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: 104) فلو رأيت إنساناً على منكر وقلت له: يا أخي هذا منكر لا يجوز. فليس له الحق أن يقول: هذا لا يعنيك، ولو قاله لم يقبل منه؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني الأمة الإسلامية كلها.
ومن ذلك أيضاً: ما يتعلق بالأهل والأبناء والبنات فإنه يعني راعي البيت أن يدلّهم على الخير ويأمرهم به ويحذرهم من الشر وينهاهم عنه. قال الله عزّ وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ..} (التحريم: 6)..".
انتهى كلامه رحمه الله؛ وهو بيان سهل جميل يغزو القلوب فلا تملك إلا التسليم، وبمثله يُخاطب عوام الناس لإزالة الجهل والالتباس.

أما الخواص وحملة هم الخير والدعوة فيقال لهم:
هكذا يكون امتحان القلوب، واختبار الصدق والإخلاص!
فلتكن أيها العَدْل الخيِّر الناصح في مقامات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، الذي لا يطيق صبراً أن يسكت في هذا المقام.. لتكنْ أنت نفسك الصامت المعرض عن القيل والقيل وكثرة السؤال في مجالس الرجال!
تتعدد المقامات.. وصدق الإيمان في ثبات!
وتتغير المشاهد.. وإخلاص القلب واحد، لإله واحد.
فاللهم ارزقنا حسن الإسلام، وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
 

خالد عبداللطيف
  • إصلاح البيوت
  • نصرة الرسول
  • زغل الإخاء
  • استشارات
  • أعمال أخرى
  • الصفحة الرئيسية