اطبع هذه الصفحة


زغل الإخاء..! (4) مصارع التواضع..!

خالد عبداللطيف


قبسات وهمسات.. نفحات ولفحات.. في زمن زاد فيه "دبيب البغضاء"!
مدارها: شوائب تكدّر الصفاء، وتشوّه وجه الإخاء!
ومدادها: قطرات ندى للأخلاّء.. وعبرات من عيون الأوفياء!

قبسـات
قال الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} (الفرقان: 63).
وقال جل وعلا: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ..} (المائدة: 54).
وقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ..} (آل عمران: 159). إلى غيرها من الآيات الكريمة في مدح التواضع وأهله.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد" (رواه مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه).
وقال صلى الله عليه وسلم قال: "ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزّاً، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله" (رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه).
ولدى أبي نعيم في الحلية عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "من تواضع لله رفعه الله" (وصححه الألباني).

مصارع.. وتوابع..!

إنها مصارع التواضع.. التي يهدر فيها دمه؛ فيتفرق بين حيلة نفسية واهنة.. وحجة خاوية واهية!

ولهذه المصارع آثار وتوابع:
ما بين فضيلة مطوية أو سنة منسية.. وبين نكت في القلب وران يتراكم؛ بإيثار الهوى والتشفي على ما هو خير وأبقى!
كيف لا وهذا الوحي المطهر تمتلئ نصوصه الكريمة بمدح التواضع واللين وأهله، وذم ما يقابله من الكبر والتعاظم والغلظة؟!
فما بال أقوام ذوي فضل وخير يفرّطون في هذه المنقبة العظيمة والخصلة الكريمة؟!
فترى أحدهم في غضبه يفقد صوابه، ويطيش جنانه، وينفلت لسانه، ولا يبالي بإظهار التعالي؟!
وما بال إخوان متحابين بجلال الله – والله حسيبهم – تأخذهم عزة لا تكاد تؤول إلى عفو يليق بالمتحابين في الله؟!
فمن مصارع التواضع في مشاهد الحياة وتقلبات القلوب:
قول القائل: إذا انكسرت لا أنجبر!
يشير إلى أنه إذا نالته إساءة فإنه لا يكاد يصفو قلبه للمسيء وإن ندم واعتذر!
فهلا استشعر في المقابل لو كان هو المسيء؟! هل يطيق نفور كل من تناله إساءته.. أم يزعم عصمته من الإساءة (وليس بمعصوم)؟!
وهلا تذكر أن صدّيق الأمة رضي الله عنه خاطبه المولى جل وعلا بقوله: {ألا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} في شأن الصفح عمن خاض في عرضه المصون..!
فماذا بلغت الإساءة بمن لا ينجبر؟!

ومن مصارعه:

احتقان داخلي وتأثر خفي للفاضل جرّاء ذم مـرّ بساحته، أو مدح فائت يرى استحقاقه!
وحسبُ هذا قول ابن القيم: "علامة المخبت ألا يحزن بذم الناس ولا يفرح بمدحهم"!
إن كان ممن يحب أن يأخذ بحظه من الإخبات لرب الأرض والسموات!

وفي صورة أخرى أجلى:

ظهور شدة الغضب (لذلك الذم العابر، أو المدح الفائت) في قسمات الوجه، وفلتات اللسان، والحال والأفعال، بما قد يربو على ما عـدّه إساءة أو تفريطاً في حقه المزعوم!
وحقيقة الأمر أنه إنما أساء لنفسه؛ بشدة غضبه، وتفريطه في نصيبه من التواضع الرفيع!

وأشد مما سبق:
توطين النفس على التشفي، وإضمار الانتصار لها!
فيظهر أحدهم التغافل والتواضع، وقد يبالغ.. فيقابل الإساءة بابتسامة؛ وقد انطوى قلبه على التربص بساعة للانتقام!
وإن تعجبْ فاعجبْ لمن يعظ الناس في التواضع واللين وخفض الجناح؛ ثم يخالفهم في أحواله مع من يعاشرهم ويعاملهم إلى العنف والمراء والصياح، فلا يطيق في جانبه هفوة، وقد يرد على الكلمة بعشرة!
وأعجب منه: واعظ بأفعاله قبل أقواله؛ يعلم الناس بدأبه في اللين وخفض جناحه للمسلمين، فمنهم متشبه بحاله، ومنهم مستحِ من مخالفة مثاله!

غفلة أم تلبيس؟!
هل هي غفلة عن منقبة {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ..}؟!
أم هو تفريط مبين في فضل التواضع العظيم، يميل بصاحبه (عاجلاً أو آجلاً) إلى الوقوع في ضده من الكبر المشين؟!
أم أنه تلبيس من إبليس على أهل الفضل والفضائل يزيّن به الحمية والانتصار للنفس؛ فيلبسهما لباس القوة والحزم وشدة البأس؟!
نعم.. قد يحرّش الشيطان – بل هذا دأبه! – فتنفلت كلمة، أو تقع زلة، أو تصيب أخاً من أخيه هفوة، وهو ما لم يسلم منه أفضل الناس بعد الرسل، أصحاب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم، لكنهم – لله درُّهم! – كانوا - مع ندرة هذا فيهم – سبّاقين – إن شجر شيء بينهم - إلى التواضع والتسامح والتغافر؛ بما يبدّد الزلّة، ويبدل السيئة إلى حسنة!

فهل يرجع إلى هذه الأسوة من يرتعون في رياض الأخوّة.. والمتنادين بالارتقاء في مدارج الرفعة؟!
فأما انقباض عابر يعقبه تسامح، أو غضب عارض يزول بتغافر، فهذا لا يكاد يسلم منه أحد، وما منا إلا وله منه نصيب؛ فيُصاب أو يُصيب!
لكن الخلل والخطر بحق هو في نفوس أدمنت على أنها لو تأذت؛ نفرت وجفلت، وطال على ذلك الأمد فتجافت وأبغضت... إلى سلسلة شائكة على درب وعر؛ لا يعلم مداها إلا مقلب القلوب!

التغافل بابه..!
إن قلوباً مؤمنة علمت أن خفض جناحها للمؤمنين من لوازم التقوى ومحبة المولى.. لينبغي لها أن تتقن فنون: إقالة العثرة، والإغضاء عن الكبوة، والصفح عن الزلة.
وإن شئت أن تجمعها في كلمة فهي "التغافــل"!
كلمة جمعت جُـلّ شمائل حسن الخلق، حتى قال إمام السنة، الذي ثبت الله به الأمة يوم الفتنة، أحمد بن حنبل رحمه الله: "تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل"!
ودفع الحسن البصري رحمه الله شبهة التباسه بالضعف والهوان؛ فعـدّه من شيم "الكبار الكرام"، فقال: "ما زال التغافل من فعل الكرام"!
وذهب الشافعي إلى أبعد من ذلك، فعدّه "كياسة وفطنة" على النقيض من ظاهره! فقال رحمه الله: "الكيس العاقل هو الفطن المتغافل"!
وأبدع أبو شهاب الأندلسي في بيان ذلك كله بأوجز عبارة تجمعه شعراً، فقال:

تغافل ولا تغفل فما ساد غافل --- وكــن فطناً مستيقظاً متغافــــلا
وبهذا يتجلى سبب الإمامة والريادة للكبار الكرام الذين يسودون في الناس بهذا الخلق، في قول الشاعر (الذي سار مثلاً):
ليس الغبي بسيد في قومه --- لكن سيد قومه المتغابي!
إنه إذن: تغافل على سبيل الحلم وكرم النفس، والترفع عن السفاسف والخوض فيها، وتمرير الهفوات والزلات؛ رفقاً بمن وقعت منه، وإغضاء عن الكبوة التي لا تُعهد من تعثر بها!
فما أسعد من فقه هذا الفن "التغافل"، وأخذه بحقه؛ فهو باب إلى "التواضع" مفتوح على مصراعيه ينتهي – بفضل الكريم المنان – إلى رفعة وجنة.

والحكمة ثمرته..!
وكما أن لمصارع التواضع آثاراً وتوابع.. فإن للتحلي به – بلا ريب - ثماراً ومنافع؛ من أظهرها: "الرفعة" التي نصت عليها السنة النبوية المطهرة، وهو جزاء من جنس العمل؛ فالذي يخفض الجناح ويتواضع يجازيه أكرم الأكرمين بالرفعة والتشريف!

ومن آثاره كذلك:

الحكمة، فما يتواضع إلا حكيم، وبالتواضع تزداد الحكمة، كما في الحديث: "ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك، فإذا تواضع قيل للملك: ارفع حكمته، وإذا تكبر قيل للملك: دع حكمته" (رواه الطبراني عن ابن عباس وحسنه الألباني).
فهذه آثار في الدنيا يُلبسها الله جل وعلا أهلَ التواضع.
ولأجرُ الآخرة خير وأبقى؛ فالتواضع من أظهر علامات حسن الخلق، وثواب حسن الخلق أثقل ما يوضع في الميزان، وسبب لقرب العبد من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنان، فيا لها من رفعة في الآخرة!
من آثار التواضع يوم الحساب – كما في الحديث أيضاً - أن: "من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها" (رواه الترمذي عن معاذ بن أنس وحسنه الألباني).
فأين المشتاقون إلى الدرجات العلى في جنات النعيم؟!

دعوة للتجديد..!
إنها دعوة إلى تجديد صفاء الإخاء.. السالم من الدغل، النقي من الزغل، الذي من ركائزه ومعالمه: التواضع واللين وخفض الجناح للمؤمنين.
دعوة إلى: سباق عظيم، في ميدان كريم؛ وفضاء فسيح، تطرح فيه النفس هواها؛ لتهنأ بسعادة الدارين، الدنيا والآخرة:
ففي الدنيا: راحة بال وسكينة، وصفاء وطمأنينة، ومواساة بثواب الله تجاه إصابات الحياة؛ فإنما المصاب من فقد الثواب!
وفي الآخرة: ما أعده الله الكريم المنّان في درجات الجنان مما لا يخطر على قلب إنسان!
وإنها لدعوة للفضلاء النبلاء.. إلى خصلة من خصال المروءة، وسمة من سمات الإخاء، كما وصفها عمرو المكي رحمه الله بقوله: "من المروءة التغافل عن زلل الإخوان"!

وقبل هذا..
هو خلق عظيم يحبه الله ويرضاه، ووحي أوحاه الله إلى نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم:
"أن تواضعوا"!
فأين المفر؟! ومن يشمِّر؟!

 

خالد عبداللطيف
  • إصلاح البيوت
  • نصرة الرسول
  • زغل الإخاء
  • استشارات
  • أعمال أخرى
  • الصفحة الرئيسية