اطبع هذه الصفحة


جهاد فلسطين  . . أمال عظيمة رغم الألام الجسيمة

د.عبدالعزيز بن مصطفى كامل


عد أربعين عاماً على ضياع القدس وأسر الأقصى، وما يقرب من ستين عاماً على اغتصاب اليهود لفلسطين، ونحو تسعين عاماً من احتلال الإنجليز لها، وما يزيد عن قرنٍ ونصف من بداية التآمر عليها، بالتخطيط لما صار يسمى بـ (أزمة الشرق الأوسط)، وبعد تضحيات ضخمة في حروب كبرى فاشلة، وتنازلات فادحة في عمليات (سلام) خاسرة..، بعد كل ذلك؛ هانحن نرى تلك الأزمة تقـف بأطـرافها عنـد طـريـق مغلق وأفـق مسدود، وأمـل لا رجاء به إلا في رحمة الله اللطيف بعباده.
 
حصار متواصل يُشارك فيه القاصي والداني، وتآمر جديد يتحالف فيه القريب مع البعيد، وأعداء جُدد في الداخل لا يقلون شراسة عن أعداء الخارج، وأعباء حياتية إلى جانب التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية، وتلاعب ومكر ونفاق على أعلى مستوياته الرسمية، وابتزاز وانتهازية من الفرق البدعية.. قتل وأسر، هرج ومرج، ونار وتضييق ودمار، دون قدرة على نصرة من قريب أو بعيد! ولم يعد هناك مخرج إلا الهروب.. نعم.. الهروب إلى الله، بل الفرار إليه، فهذا هو المخرج أيها المجاهدون والمرابطون: {فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50].
إنَّ الفرار إلى الله في هذه المرحلة ليس سيراً إلى مجهول، أو ذهاب إلى عدم؛ بل إنه انطلاق جديد مطلـوب، وفق خـطٍّ إلهي محسـوب؛ أظهرته الآيات، وفصَّلـته الأحاديث، وبيَّنـتْه مجريـات السـنن الإلـهية في القديم والحديث. إنه طـريـق لا يمكن أن تكـون له نهـاية إلا النصـر بـإذن الله، بل النـصر القريب؛ لأنه طريق طائفة اقترن اسمها بالنصر؛ هي الطائفة المنصورة التي أخبر النبي أنها ـ وإن تفرقت بعض الأزمان في بعض الأمصار ـ ستتركز مع مـرور الزمن في بلادكم وحول بلادكم.. يا أهل فلسطين!
 
لن أخوض في هذه المقالة في تحاليل السياسة وتشعباتها وتقلباتها، وبخاصة في الآونة الأخيرة؛ فقد أصبح الأمر أكبر من حِيَل الساسة وأعقد من دهاليز السياسة التي لم تعد توصل إلا إلى طريق التيه، ومع تلك الورطات والارتباكات فإن الأمر يتجه بقوة نحو الوضوح العقدي الصارخ على المستويات العالمية والإقليمية والمحلية، بحيث صارت المواقف واضحة وضوح الشمس: قوم معتدون مغتصبون كافرون؛ هم اليهود وحلفاؤهم من النصارى، يتواطأ معهم ويدخل في حلفهم ظاهراً أو باطناً أقـوام زائغـون منافقـون، في خطة فساد وعناد، تهدف في النهاية إلى إسكات صوت الإسلام في فلسطين، ولكن.. هيهات!
سأخصص هذه المقالة في تلك العجالة للتذكير بأمور، أعلم أن الكثير منها ليس بجديد، ولكن متى كانت الذكرى تحتاج لجديد؟! فأعظم الذكرى التي تنفع المؤمنين إنما تكون بالأمر العتيد الذي كثيراً ما نغفل عنه في زحمة الأحداث وتقلبات المراحل وتلبيسات الشياطين.
 
معانٍ عظيمة في النصر والهزيمة:
لا ريب أن كل جهود واجتهادات المجاهدين في فلسطين وغيرها إنما تروم في النهاية إلى تحقيق النصر أو بعض النصر، بالتغلب على المشكلات سياسية كانت أو عسكرية أو أمنية أو اقتصادية، ولكن البُعد شبه الغائب عند بعضنا؛ هو إدراك أن أي نجاحات ـ بالمنظـور الإسلامي ـ لا بد أن تستند أو تنطلق من رؤى شرعية واضحة تُبنى عليها السياسات وتُتخذ على وفقها المواقف؛ فلسنا مخـيرين ـ ما دمنا مسلمين ـ في أن نخالف بين الموازين، أو نغير في المعايير التي نفصل بها بين الأعداء والأولياء، والتي تُحدد على أساسها المنطلقات والسياسات.
طريق الانتصار ـ إخوتنا ـ ليس مجرد بذلٍ وتضحيات، أو رسم مخططات وسياسات؛ فكل ذلك إن لم يستند إلى: (قال الله وسَنّ رسول الله) فإنه لا يُوصل إلا إلى المزيد من إطالة زمن الأزمة، وزيادة أمد المحنة.
لا شك ـ أيها المجاهدون ـ أنَّ النصر مطلب المؤمنين جميعاً في كل عصر ومِصْر؛ إذ به يحق الله الحقّ ويبطل الباطل؛ وتتحقق العزة ويزول الذل، وتدول دولة الباطل؛ حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.
لذلك فهو الأمنية الباقية في القلوب، والأمل الشاخص أمام الأعين؛ ينتظره الصادقون، ويتشوق إلى قربه الشرفاء، ضعفاء كانوا أو أقوياء؛ فالنصر قد يكون قريباً وقد يطول طريقه فيكون بعيداً، لكنَّ النفوس تتوق إلى النصر القريب: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْـمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13]. صحـيح أن العـاقـبـة للمتـقـين، ولو بعد عشرات السنين، ولكنْ للنصر القريب أسباب تطوِي بُعدَه وتُقدِّم وقته، كما أن هناك من الأسـباب ما يؤخـرِّه، بل ما يرفعهُ ويمنعه.
إنَّ قول الله ـ تعالى ـ: {وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} [الأنفال: 10]، يقـدِّم بدهـيةً عقـدية، وحقيقةً رسالية، وسنةً إلهية، إذا نُسيت أو أُهملت فإنها تتسبب في فصل صـفة القرب عن وصف النصر، مع أن قُرْبَ النصر نعمة لا تقل عن نعمة النصر نفسه. والنصر القريب يزداد قرباً كلما اختصر طريقه، ولا سبيل إلى اختصار طريق الانتصار إلا بتحقيق أسبابه (الشرعية)، ونُكرر: (الشرعية!)؛ فإذا كان النصر من عند الله فلا بد أن تُستمد أسبابه من شريعة الله، وقد قال الله ـ تعالى ـ: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40]، أي: ينصر مَنْ نصر دينه ونبيه - صلى الله عليه وسلم - .
بوسـعــنـا إذن أن نقـتـرب مـن النـصر ـ بـإذن الله ـ أو نبتعد عنه ـ عياذاً بالله ـ ولهذا دعانا الله للأخذ بأسباب الاقتراب فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
قال الطبري في تفسيرها: «إن تنصروا الله؛ بنصركم رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم -  على أعدائه من أهل الكفر به، وجهادكم إياهم لتكون كلمته العليا؛ ينصركم عليهم ويظفركم بهم؛ فإنه ناصر دينه وأوليائه»(1).
 
 
حقيقة النصر:
نعلم أن المجاهدين في فلسطين يجتهدون ـ زادهم الله توفيقاً ـ في الاقتراب من تلك المعاني، و لذلك فإن الكلام هنا عام، لا نخص به الفصائل المعروفة الآن فقط، بل هي وغيرها ممن سينضم إليها أو يلتحق بها، فلا يزال الطريق طويلاً، وستظل الحاجة ماسةً للتأسيس على معانٍ صحيحة.
جوهر الانتصار في الإسلام هو ما أشارت إليه غايات القتال والجهاد في سبيل الله، وأهمها ألا تكون فتنة بسبب علو الشرك والكفر، وأن تكون الدينونة لله، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، وعندما تتحقق هاتان الغايتان فإن طرق الخير تنفتح، وأعظمها: باب الهداية والاستقامة على الدين، وبذلك يكون النصر لدين الله، ويكون مفتاحاً للطريق إليه وعودة الناس له عز وجل. وقد حَوَتْ (سورة النصر) إشارة باهرة إلى هذا المعنى، في قول الله ـ تعالى ـ: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر: 1 - 3].
ففتح الطريق إلى الله وتيسير السير إليه هو المعنى الأساس لأنْ يكون الجهاد (في سبيل الله)، ولهذا اقترنت آيات الجهاد والقتال في نصوص الوحي بِذكر (سبيل الله). وسبيل الله ـ كما قال المفسرون ـ هو: «طاعة الله». وعلى هذا؛ فكل جهاد لا يكون في طاعة الله ووفق دين الله فإنه لا يكون في سبيل الله.
وقد سُئل رسول الله: أي العمل أفضل؟ قال: «الصلاة على ميقاتها»، فقال السائل ـ وهو عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ـ: ثم أي؟ قال: «ثم بر الوالدين»، قال: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»(2).
ولما سُئل: أيُّ الناس أفضل؟ قال: «مؤمنٌ يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله»(3).
وقد سُئل النبي عن الرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليُرى مكانه؛ أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العُليا فهو في سبيل الله»(4).
والقـتال في غير سبيل الله لا يوصل إلى نصر الله، ولا يُبلِّغ الناس رضى الله ـ سبحانه وتعالى ـ بل يؤدي إلى السخط والحبوط وميتة السوء، قال رسول الله: «من قاتل تحـت رايـة عمـية، يغضـبُ لعَصَـبَة أو يـدعو إلى عَصَبَة أو ينصرُ عَصَبَة، فقُتِل فقِتلة جاهلية»(5).
وفي رواية: «من قُتِل تحت راية عمية، يدعو عصبـية أو ينصـر عصـبية، فقـتلته جـاهـلية»(6). والرايـة العمـية ـ بضم العين وكسر الميم وتشديدها ـ هي عكس الراية الواضحة؛ فهي الاجتماع على أمر مجهول، لا يُعرف إذا كان حقاً أو باطلاً، قال النووي ـ رحمه الله ـ: «هي الأمر الأعمى لا يتبين وجهه، كذا قال الإمام أحمد. وقال: «هي أن يُقاتل لشهوة نفسه وغضبه لها، ويُؤيد هذا الحديث المذكور: (يغضب للعصبة، ويُقاتل للعصبة)، ومعناه: إنما يُقاتل عصبيةً لقومه وهواه». وإذا كان هذا يقال فيمن يقاتـل علـى أمر مجهـول، أو على عصـبية جاهلية قبلـية أو عنصرية أو حزبية غير شرعية؛ فما الحال فيمن يقاتل مع الكفار، أو يقاتـل نـيابة عنـهم؟! هـل يُعـدُّ هـذا أخـاً، أو شريكاً، أو رفيق سلاح؟!
إن غياب هذه المعاني الشرعية (البدهية) وإحلال الشعارات الدنيوية اللادينية الدخيلة محلها عند بعض الناس، هو ما يهوِّن قضايانا، ويفضّ الصادقين عنها، وهذا ما حدث للقضية الفلسطينية طوال العقود التي رُفعت فيها الرايات العمية العلمانية، وغابت فيها الرايات الإسلامية.
ولما بدأ ظهور الأُطروحات الإسلامية، بظهور الفصائل الجهادية على أرض فلسطين في أواخر عقد الثمانينيات الميلادي، أي بعد أربعين عاماً من احتلال اليهود لها، مسَّت الحاجة إلى ترشـيد هـذا الجـهاد وتقـويمـه ودعـمه؛ حيث إن النُقلة من القاع إلى القمة لم تكن بالمهمة السهلة، والمجاهدون دائماً يحتاجون إلى التسديد والتقويم والتناصح والتعاون على البر والتقوى، ولا عصمة لشخص أو فصيل أو جماعة بحيث لا تحتاج إلى نصح أو تذكير أو تقويم.
إن الجهاد عندما يكون في سبيل الله حقاً فإن الانتصار هنا يكون للمنهج المنَزَّل من السماء، قبل أن يكون للجنود المرصوصين على الأرض؛ ولذلك فإن انتصار المنهج ـ ولو كُسِرت الجيوش واستُشْهِد الجنود ـ لا يُسمى هزيمة؛ فالمنهـج الحـق لا يهزم، ولذلك لـم يُهـزم رسـولٌ قــط، وإنما يُبتلى أو يُصاب.
أما الأتباع فإن حاملي الحق منهم لا يُهزمون أيضاً هزيمة تطول أو تعم في الأرض، وحتى لو ارتفعت أرواحهم إلى السماء مع الشهداء؛ فإن قضيتهم تبقى الأساس في هداية الناس؛ فأصحاب الأخدود لم يُهزموا، وغلام الأخدود لم يُهـزم، وأصـحاب النـبي لم يُهـزموا هـزيـمـة عامة، وإنما تلقوا درساً في طريق الانتصار كان سبباً في انتصارات أعظم، وكذلك فإن الشهداء المشهود لهم بالصدق في عصرنا لم يُهزموا، وإنما ابتلوا أو أُصيبوا؛ لأن المناهج التي حملوها وحموها بدمائهم وأشلائهم لم تسقط ولم تُهزم. {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِـمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ}[آل عمران: 146 - 150].
إن الهزيمة بمعناها الثقيل الصريح لم تنسب للمؤمنين أبداً في القرآن، ولكنها نُسبت للكافرين، كما جاء في قول الله ـ تعالى ـ عن هزيمة العماليق الوثنيين في فلسطين أمام داود ـ عليه السلام ـ وجنوده: {فَهَزَمُوهُم بِإذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة: 251].
لقد بدت أمامي من خلال استعراض الآيات التي ذُكر فيها النصر في القرآن ملاحظة عجيبة! حيث وجدتُ أن النصر لم يُنسب بلفظه قط إلى الكفار! قصارى ما يُمكن أن يُنسب إليهم هو (الغَلَبة)، والغلبة قهر قوة مادية لقوة مادية. صحيح أن بعض الكفار قد ينتصر بعضهم على بعـض، لكـن نصـوص الوحـي تُعـبِّـر عـن ذلك بالـغلـبـة أو الظهور فقط؛ لأن الأمر كما قال الله: {وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]، وقال: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40]، ولذلك لم يقل الله ـ تعالى ـ: انتصر الفرس، أو انتصر الروم، وإنما قال ـ سبحانه ـ: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ} [الروم: 2 - 4]، وقد لاحظت أيضاً أن النصر يقترن دائماً باسم الله ويسـند إليه سـبحانه، مما يُفـهم مـنه أن نصره ـ عز وجل ـ لا يُمنحُ لمن حـاد عـن منـهـجه؛ فـهو سـبحـانـه (الـنَّاصـر) و (النَّصير)، ولعل هذا هو السبب في أن كثيراً من المفسرين ذهبوا إلى أن قول الله ـ تعالى ـ في آية الروم: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْـمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 4 - 5]، إنما المقصود به نصر الله للمؤمنين المسلمين في غزوة بدر على مشركي قريش؛ حيث كان هذا النصر متزامناً مع ما وقع من غلبة الروم على الفرس(7).
ومع أنَّ الكفار قد ينتصر بعضهم على بعض انتصاراً مادياً محسوساً، غير أنهم لا ينتصرون على المؤمنين أبداً وإن غلـبوهم أو نـالوا منـهم في الميادين في بعض الأحايين، وهـذه الغـلبة أو المصيبة التي تصيب المؤمنين أحياناً لا تكون أيضاً إلا بنوع من التفريط في أسباب النصر الشرعية؛ كما قال الله ـ تعالى ـ: {أَوَ لَـمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْـجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْـمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 165 - 166].
ويلاحظ هنا أيضاً أن لفظ الهزيمة لم ينسب لهم، وإنما سُمي ما حدث مصيبة.
 
للنصر أقوام:
هناك من يهيئهم الله ـ تعالى ـ لتَنَزُّل النصر الإلهي عليهم، وهؤلاء هم أصلحُ الناس أعمالاً وأقربهم امتثالاً للحق وأخذاً به، ثم الأمثل فالأمثل، وهؤلاء يكرم الله الأمة بهم من أجل إخلاصهم. ولذلك كان أبو الدرداء يقول لأصحابه قبل المعركة: «عملٌ صالحٌ قبل القتال؛ فإنما تقاتلون بأعمالكم»(8). وقد بوَّب البخاري ـ رحمه الله ـ في كتاب الجهاد باباً بعنوان: «عملٌ صالحٌ قبل القتال»(9). فالنجاة من فتنة الأعداء والانتصار عليهم إنما يكون بكثرة الصلاح وقلة الخَبَث، ليس في صفوف المجاهدين فحسب، ولكن في عـمـوم الأمة التي تُمنَح النصر عن استــحقاق، أو تخضع لسنن الابتلاء والتمحيص والتطهير.
وليس من قبيل الصدف أن يستقر وصفُ خلاصة الفرقة الناجية من هذه الأمة بـ (الطائفة المنصورة)، والوارد ذكرها في الحديث المتواتر: «لا تزال عصابةٌ من أمتي يُقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة وهم كذلك»(10).
وحتى لا يقول قائلٌ: إن الحق هو كل ما يمكن أن يكون دفاعاً عن قضيةٍ عادلة، ولو كانت قوميةً أو وطنيةً أو تحت أي راية عمية علمانية؛ فإن الرواية الأُخرى من الحديث تُبين أن هذا (الحق) ـ الذي ينصر الله المتمسكين به والقائمين عليه ـ هو دين الإسلام نفسه؛ ففي رواية أبي أُمامة من ذلك الحديث جاء قول الرسول: «لا تزال طائفة من أُمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، إلا ما أصابهم من لأْواء، فهم كالإناء بين الأكـلة، حتـى يأتيهم أمر الله وهـم كذلك»(11). ونلاحـظ هنا ـ أيضاً ـ أن الهزيمة لم تلحق بهم كوصف، وإنما جاء وصف اللأواء، وهو المصيبة أو البلاء الناجم عن شدة التربص بهم.
ووصفهم بالظهور هو وصف بالانتصار؛ فوصف (الطائفة المنصورة) مأخوذ من ذاك الظهور «على الحق ظاهرين»، «على الدين ظاهرين»، وهذا معناه أنهم لا يُهزمون هزيمة كاسـرة قـاهـرة أبـداً، وإنمـا يبتلون بقدر ما يُصلحهم. وقد كان من دعاء وثناء النبي على ربه ـ عز وجل ـ أن يقول: «اللهم لا يُخلف وعدك، ولا يُهزم جندك»(12).
انتصار الطائفة المنصورة لا يكون إلا بالحق وللحق؛ فالحق مقترن بمنهجهم وبغايتهم وبرايتهم، لهذا وُصفوا في الحديث بأنهم «على الحق ظاهرين»، وأنهم «يُقاتلون على الحق».
وهذا الحق ليس شيئاً آخر غير ما كان عليه النبي وأصحابه، ولذلك فإنه عندما أخبر عن افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، بعد افتراق اليهود ثم النصارى على إحدى وسبعين ثم اثنتين وسبعين فرقة، سُئل ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن تلك الفرقة الناجية؛ فقال: «من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي»(13).
إن رابطـة المـنهج الحـق هـي الرابـطة الوحـيـدة للطائـفـة المنصـورة والفرقـة الناجـية من أهـل السـنة؛ وإن اختلفت لغاتُهم، وتفرقت أوطانهم، وتعددت قضاياهم، ولهذا لا يمكن القول بأن شعباً بعينه، أو جماعة بخصوصها، أو بقعةً بذاتها، هي موضع أو موطن الحق في كل الأحوال، وقد قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ عن تلك الطائفة: «ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونوا متفرقين في أقطار الأرض»(14)، وإن كان هذا لا يمنع من تجمُّعهم بحسب ظروف وصروف الزمان من مكان إلى مكان؛ حيث يكثرون في أزمان في أمكنة، ويكثرون في غيرها في بقاع أخرى.
قال ابن تيـمية ـ رحـمه الله ـ: «دلَّ الكتاب والسـنة وما روي عن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ مع ما عُلِم بالحس والعقل: أن الخلق والأمر ابتداءً من مكة أم القرى؛ فهي أم الخلق، وفيها ابتدأت الرسالة المحمدية التي طبق نورها الأرض، وهي التي جعلها الله قياماً للناس: إليها يُصلون ويَحجُّون، ويقوم بها ما شاء الله من مصالح دينهم ودنياهم؛ فكان الإسلام في الزمان الأول ظهوره بالحجاز أعظم، ودلت الدلائل المذكورة أن ملك النبوة بالشام والحشر إليها، فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر، وهناك يحشر الخلق، والإسلام في آخر الزمان أظهر بالشام»(15)، وقال أيضاً وهو يعدد فضائل الشام كما دلت عليه النصوص: «وفيها المسجد الأقصى، وفيها مبعث أنبياء بني إسرائيل، وإليها هجرة إبراهيم، وإليها مسرى نبينا ومنها معراجه، وبها ملكه وعمود دينه وكتابه، وطائـفـة منصـورة مـن أمته، وإليها المحشر والمعاد كما أن مكــة المبدأ؛ فمكـة أم القـرى، مـن تحتها دُحيت الأرض والشـام إليها تُحشـر الناس، كما في قوله: {لأَوَّلِ الْـحَشْرِ} [الحشر: 2] نبه على الحشر الثاني، فمكة مبدأ وإيليا ميعاد في الخلق وكذلك في الأمر؛ فإنه أُسريَ بالرسول من مكة إلى إيليا، ومبعثه ومخرج دينه من مكة، وكمال دينه وظهوره وتمامه حتى مملكة المهدي بالشام؛ فمكة هي الأول والشام هي آخر في الخلق والأمر في الكلمات الكونية والدينية». ا. هـ.
 
لواء الإسلام.. ومسؤولية أهل الشام:
كثيراً ما يراودني سؤال؛ فحواه: «هل الأمور القدرية الغيبية كلها مجرد غيب ينتظر، أم أن منها ما هو شرع يُمتثل وواجب يُستحضر؟».
إن سلفنا الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا لا يتعاملون مع أمور الغيب كلها على أنها أمور مستورة وينبغي أن تظل مستورة حتى تُظهرها الأقدار، بل إن منها ما كان عنـدهم يُسـتدعى ويُتسـابق إلـيه. فلما علموا مثلاً أن الله ـ تعالى ـ سـيورِّثـهـم خـزائـن كسـرى وقصور قيـصر، ولما سمعوا بأخبار فتح مصر، ودخول العراق، وانضمام الشام، وخضوع اليمن؛ تسارعت طلائعهم بُعيد وفاته - صلى الله عليه وسلم -  إلى استخراج ذلك الغيب الصادق إلى عالم الشهادة الواقع، وعندما نُقلت إليهم أخبار فتح القسطنطينية، والمناقب العظيمة المذكورة لفاتحيها؛ سارعوا وسارع من بعدهم إلى اقتناص الفرصة لنيل ذلك الشرف، وتسابقوا جيلاً بعد جيل، غير مبالين بالإخفاقات أو المعوقات لتحقيق وتطبيق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :
«لتفتحن القسطنطينية؛ فلَنِعْم الأمير أميرها، ولَنِعْم الجيش ذلك الجيش!»(16).
وقد كان هذا الحديث دافعاً ووازعاً لأمراء المسلمين في التسابق إلى فتح القسطنطينية؛ للفوز بتلك المنقبة المذكورة للجيش الذي سيفتحها.
قال بشير الخثعمي ـ راوي الحديث ـ: «فدعاني مَسْلَمة بن عبدالملك، فحدثته؛ فغزا القسطنطينية»، وكان معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ قد وجَّه حملة بحرية إلى القسطنطينية عام 49 هـ، الموافق للعام 669 ميلادية، وقد شارك فيها جَمْعٌ من كبار الصحابة وقت ذاك، منهم عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس، وأبو أيوب الأنصاري ـ رضي الله عنهم ـ ولكنَّ تلك الحملة لم تُحقق أهدافها، واستُشهِد أبو أيوب الأنصاري فيها، فبعث معاوية حملةً أُخرى عام (54هـ ـ 674م)؛ ففتح المسلمون عدداً من المدن المحيطة بالقسطنطينية.
وحملات معاوية ـ رضي الله عنه ـ إلى القسطنطينية هي التي استشهدت فيها الصحابية الجليلة (أم حرام بنت ملحان)؛ حيث إنها كانت قد حدَّثت عن النبي أنه قال: «رأيت قوماً من أُمتي يركبون ثَبَجَ البحر كالملوك على الأسِّرة»، فقالت: يا رسول الله! اُدع الله أن يجعلني منهم! قال: «أنتِ منهم»(17)؛ فأرادت أن تتحقق هذه البُشرى، فخرجت مع جيش معاوية ـ رضي الله عنه ـ لغزو القسطنطينية، فماتت هناك ودُفنت بالقرب منها.
ثم وجّه الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك حملةً أُخرى في جيشٍ قُوامه نحو مائة ألف جندي، على رأسهم أخوه مَسلمة بن عبدالملك، وكان ذلك عام (98هـ، 717م)، غير أن حصار القسطنطينية لم يُفلح في فتحها هذه المرة أيضاً، رغم استمرار الحصار عاماً كاملاً. ولما جاء الخليفة عمر بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ وجد أن دولة الخلافة الإسلامية في عصره أحوج إلى جيوشها من فتح القسطنطينية؛ فأمر باستقدام القوات المرابطة حول القسطنطينية لِيُقوي بها دولة الخلافة، تاركاً هذا الفتح لجيلٍ قادم. وقد تحقق ذلك الأمر القدري في شكله الشرعي على يد السلطان العثماني (محمد الفاتح) عام (857 هـ ـ 1453م).
هذا مثالٌ تفصيليٌّ واحد يدل على كيفية تعامل المسلمين مع أخبار الغيب من الأمور القدرية التي تتعلق بها تكاليف شرعية، وأمثلة التسابق في هذا المضمار كثيرة، ومع كل ما حدث من تسابق لفتح القسطنطينية في الأزمنة السابقة فإنها تظل تنتظر فتحاً آخر سيكون في آخر الزمان، وهو ما أخبر عنه النبي في قوله: «الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر»(18).
الشواهد كثيرة ـ لمن أراد أن يستقصيها ـ عن تطلُّع الصحابة الأخيار إلى تحقيق ما فيه خيرٌ مما صحت به الأخبار، والمقصود هنا: أن إخبار الرسول باتجاه رايات الحق وانتصابها في أرض (إيلياء) أو بيت المقدس، في زمان علو اليهود، لَهُو من البواعث الجاذبة للفوز بهذه المنقبة، ممن يستطيعُ ذلك من المؤمنين الأطهار، القادرين على خرق حاجز الانتظار؛ الذي يحْجرُ الكثيرين عن المشـاركة في هـذا الفضـل بدعـوى ترك القضية لأهـلها، أو بزعم أن أهل مكة أدرى بشعابها!
إننا في زمان أعتقد ـ غير جازم ـ بأنه الزمان الممتد إلى وقت الصدام الأخير مع اليهود في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، بل في سائر الأرض، عندما يتحقق (العلو الكبير) الذي أخبر الله ـ تعالى ـ عنه في أوائل سورة الإسراء في قوله ـ تعالى ـ: {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً} [الإسراء: 4].
حيث إن معالم ذلك العلو يتضاعف ظهورها مع الأيام، وبخاصـة مع ركوب اليهود للأمريكان، وتحالفهم مع غـيرهم مـن أطـراف القوى الكـبرى، وهـو ما يـقـود حتماً ـ والله أعلم ـ إلى علو كبير ربما يفوق علوهم الشاخص اليوم على كل ما حولهم من قوى إقليمية. وليس من الممتنع ـ قبل دحر اليهود الأخير ـ من أن تكون الحرب معهم سجالاً؛ فيتقلب شأنهم ما بين خفض وارتفاع، لكن الطائفة التي سترغم آنافهم دائماً هي الطائفة المنصورة من هذه الأمة، التي حدد النبي - صلى الله عليه وسلم -  حقيقـتهم فـي قـولـه: «هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي»(19).
لا ينبغي أن ننسى هنا ـ بالمناسبة ـ أن (دولة الدجال العالمية) التي أخبر النبي عن ظهورها هي دولة يهود، وفيها صولة اليهود؛ فهي إمبراطورية يهودية؛ لأن الدجال قائدَها هو نفسه يهودي وأمه يهودية، ويخرج من بلدة تدعى (اليهودية) في إيران، وذلك في قوله عن الدجال: «يخرج الدجال من يهودية أصبهان»(20).
وأما أن هذه الدولة ستكون عالمية؛ فيدل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «يبلغ سلطانه كل منهل، لا يأتي أربعة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد الطور، ومسجد الرسول»(21).
إن وصف (بني إسرائيل) يشمل، من حيث الأصل، الضالين من النصارى إلى جانب المغضوب عليهم من اليهود؛ لأن موسى وعيسى ـ عليهما السلام ـ أرسلا إلى بني إسرائيل، ولكن التسمية غلبت على اليهود وعلى من كان على ضلالتهم في التدين بالتوراة المحرفة. ولذلك فإن العلو المذكور في سورة (الإسراء) المسماة أيضاً بسورة (بني إسرائيل) هو علو للطائفتين معاً ـ والله أعلم ـ وهو مايؤكد أن صداماً حتمياً سيقع بين الأمم الثلاث التي اختلفت في شأن المسيح الحق ومسيح الضلالة على أرض فلسطين وما حولها.
 
طلائع الدجال وطلائع الطائفة المنصورة:
أعود لما ذكرته من أن بعض أخبار الغيب ليست قدراً ينتظر بقدر ما هي شرع يُمتثل ويُستحضر، لأُذكِّر أيضاً بأن الأحاديث الدالة على بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق، والمستوجبة لفرضية السعي لتكوينها أو تطـويـرها أو الالتحاق بها ـ هي نفسها الأحاديث التي يدل بعضها على أن وجود هذه الطائفة سيتركز ـ كلما تقارب الزمان ـ في بيت المقدس وما حوله، كما أخبر النبي في إحدى روايات ذلك الحديث؛ حيث سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم -  عن مكان وجود هذه الطائفة فقال: «هم ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس»(22).
إن هناك دلائل وقرائن كثيرة تدل على أن الفصائل المجاهدة في فلسطين اليوم وما حولها هي طلائع ومقدمات هـذه الطائفة المنصورة المذكورة في الأحاديث، كما أن هناك دلائل وقرائن على أن عصابات اليهود الموجودة الآن في فلسـطين ومـا حولها هي طلائع دولة الدجال العالمية التـي لا يعلـم إلا الله متـى ستـقع فتنتـها، والتي لن تعـمر كثـيراً ـ بإذن الله ـ كما دلت الأحاديث. لكن مقصودنا في هذا المقال ليس في الجدال حول تفاصيل هذا النزال المستقبلي والحتمي، ولكن النقاش في مقدماته وإرهاصاته التي يأتي على رأسها: الجواب على سؤال: كيف يستجمع المجاهدون في بيت المقدس وما حوله أوصاف تلك الطائفة المنصورة؟
 
لتلك الطائفة خصائص وصفات لا بد أن يتمثلها اليومَ كل المجاهدين، وبخاصة في فلسطين التي تأخر النصر فيـها كثيـراً بسـبب اخـتلاف الرايـات والزعـامات والمناهج. ومع أن كثيراً من صفات وخصائص الطائفة المنصورة بدأ يتجمع ويتوزع على فصائل المجاهدين بمجموعها، غير أننا نرى أن من المهم تكرار استحضار هذه الصفات؛ ليتعلم متعلم، ويتذكر متذكر، ويعود عائد، علماً بأن تلك الخصائص قابلة للتحقق في أي طائفة تقوى على استجماعها في نفسها؛ لأنها في الأصل تكاليف شرعية موجهة إلى عموم الأمة الخيرية في صورة فروض تُؤدى، وواجبات تُقام، وأخلاق تُلتزم، يفوز بفضلها من استقام عليها. وأهم هذه الخصائص والصفات:
1 ـ الاستمساك بالحق: لوصف النبي أهل هذه الطائفة بأنهم «على الحق ظاهرين»، أو «ظاهرين على الحق». ومعنى ظهورهم على الحق: التزامهم الظاهر بالدين كتاباً وسنة، على أُسس النهج القويم المبني على الدليل الشرعي الصحيح، والتوجه القلبي السليم؛ إخلاصاً لله، واتباعاً لرسول الله؛ فالاتباع والإخلاص هما ركنا قبول الأعمال، كما قال الله ـ عزَّ وجلّ ـ: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِـحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
وهنا لا يمكن أن نتصور أن يتنزَّل النصر والتمكين على غير المنتسبين للحق من أصحاب الرايات الضالة؛ قوميةً كانت أو بعثيةً أو يساريةً أو ليبرالية، أو على أي صيغـة علمانـية لا دينية، وكذلك لن ينتصر الدين القويـم أو يتمكن بطائفة ضالة خارجة في مُعتقدها عن منهاج الفرقة الناجية المتبِّعة لمنهاج الصحابة؛ إذ إن الوصف الرئيس لطائفة الحق المنصورة هو ما أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -  في قوله: «ما أنا عليه وأصحابي»، أما الذين يُكفرون الصحابة بدلاً من تعظيمهم والتزام هديهم، مع الادعاء بتحريفهـم للوحـي كِتـابـاً وسنة؛ فإنهم ـ وإن أحرزوا الغلبة في بعض الجولات ـ فإن هذا لا يُعدُّ نصراً للدين، وإن ادعى أصحابه أنهم (حزبُ الله)، أو تلقب زعيمهم بـ (نصر الله).

2 ـ القيام بالحق : فالطائفة المنصورة لا تلتزم بالحق فقط اعتقاداً أو تصديقاً، بل تقوم به تنفيذاً وتطبيقاً، ولهذا جاء وصفُ هذه الطائفة بأنها «قائمة على الحق، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك»(23). ومعنى ذلك أنهم أهل استقامة ظاهرة كما أنهم أهل سلامة باطنة، وأن دينهم دعوة يحملونها ويدعون الناس إليها؛ أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، لا يخشون في الله لومةَ لائم، وهم على هذا يجتمعون، وحوله يتحزبون.
{أَلا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]. فالقـيام بـأمـر الـديـن، هـو المـهـمــة العـظـمــى للرسل وأتباع الرسل، قـال ـ تعالى ـ: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْـكَ وَمَا وَصَّيْـنَا بِهِ إبْرَاهِيـمَ وَمُوسَـى وَعِيسَـى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].

3 ـ الدفاع عن الحق : فالطائفة المنصورة لا تعتقد الحق نظرياً فقط ولا تمتثل له عملياً فحسب، وإنما تُدافع عنه وتبذل دونهُ المُهَج والنفس والنفيس؛ فمن أبرز خصائص أهلها المذكورة في الحديث أنهم: «يُقاتلون على الحق»(24)، وفي رواية: «يُقاتلون على أمر الله»(25). وهو قتال في الميادين، وليس فقط على صفحات الكتب والدواوين: «يُقاتلون على أبـواب دمـشق ومـا حـولـه وعلى أبـواب بـيـت المـقـدس وما حولها»(26) فهي طائفة علم وعمل، جدالاً بالحق وقتالاً على الحق، وسيظل هذا شأنهم حتى تضع الحرب أوزارها في آخر الزمان، كما دل على ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : «حتى يُقاتل آخرهم المسيح الدجال»(27).

4 ـ الظهور بالحق: فوصفُ النبي لهم بأنهم «على الحق ظاهرين»، يفيد معاني زائدة عن معنى الاستمساك بالحق، وهذه الصفة تحتمل ثلاثة معانٍ:
أولها: أنهم بارزون للناس، معروفون بهويتهم المنهجية الثـابــتة على الحـق والمقـاتلة علـيه، دون مهادنة عاجـزة أو مداهنة فاجرة.
وثانيها: ظهور حجتهم على الناس؛ فهم منصورون بالحجة والبيان، قبل نصرهم بالسيف والسنان.
وثالثها: أنهم في موقع الغلبة والعلو والتمكين بهذا الحق ومن أجله.
والواضح أن الظهور بالمعنى الثالث هو ثمرة الظهور في المعنيين الأولين. والثابت في ذلك أن الطائفة المنصورة، وإن اختلفت درجات ظهورها من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان، غير أنها تستعصي على القهر والزوال والاختفاء علمياً وعملياً.

5 ـ المصابرة على الحق: فالصفات السابق ذكرها تُبيِّن كلها أن أهل الطائفة المنصورة يأخذون أنفسهم بالعزيمـة ويـتـواصـون فيـما بيـنـهـم بالثـبـات، وهـذا ما لا يستطـيعه المخـذولون المُخـذِّلون، الذين لا يلقى المجاهدون منهم إلا التحبيـط والتثـبيط، بـل الوشـاية والتــشـويــه، أمـا شـأن المنـصـوريـن حـيال ذلك فإنـهـم ـ كما أخبـر النـبي صلى الله عليه وسلم  ـ «ولا يُبالون من يخالفهم»(28)، «ولا يضرهم من خذلهـم»(29)، ويستمرون على نهج المصابرة والمرابـطـة، امــتثــالاً لقـول الله ـ تـعـالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].

6 ـ البقاء على الحق : فالطائفة المنصورة قديمة الوجود، لم ينقطع وجودها عبر مراحل رسالات السماء، ولن ينقطع حتى تقوم الساعة؛ ففي كل الأجيال والقرون الإنسانية كانت هناك دائماً بقية تمثلها هذه الطائفة النقية، {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ } [هود: 116]، وهي امتداد للفرقة الناجية في كل ملة، كما دل على ذلك حديث افتراق الأمم الثلاث إلى أكثر من سبعين فرقة من كل ملة، ليس في كل منها إلا فرقة واحدة ناجية. وأول أجيال الفرقة الناجية في هذه الأمة هم أصحاب النبي الذين يُمثلون ذروة الخيرية في الأمة الخيرية، والمخبرون بأنهم خير القرون.
وقد استلزم هذا أن يكون شرط تعظيم الصحابة والاقتداء بهم أبرز شروط الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، التي سيظل أهلها يتعاقبون كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «حتى يُقاتل آخرهم المسيح الدجال»(30) و«حتى تقوم الساعة وهم على ذلك».
إن المهام الجسام الملقاة على عاتق جيل النصر، القادم قريباً، ليست خاصةً بحماس وحدها أو غيرها من المنظمات الجهادية الفلسطينية، بل ليست خاصةً بالفلسطينيين وحدهم، ولا بالعرب دون غيرهم، بل إنها مهام كل إنسان رضي بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً وسولاً؛ فمجموع هؤلاء ـ وإن كانوا متفرقين في أنحاء العالم ـ هم الذين اليوم، وغداً، سيُمثلون تمكين تلك الطائفة واقعاً محسوساً، بعد أن كان أملاً .
ويظل البقاء القدري للطائفة المنصورة مُسهِّلاً عملية بعثها ولمَّ شعثها وتوحيد صفها.
ولهذا نقول: إن إعداد أو استعداد أي طائفة مسلمة في أي عصر من العصور، وفي أي مكان من الأمكنة، لأَنْ تكون مستوفية لخصائص الطائفة المنصورة ـ لَهو أمرٌ مقدور شرعاً ومشروع قدراً، كيف لا وكل خصائص الطائفة المنصورة ما هي إلا تكاليف شرعية وواجبات دينية، يُعرِض عنها الأكثـرون، ويَتَشبث بها الأقلون، الذين يتعوض ضعفهم العددي والعـتادي بقـوتهـم العملية والعلمية؛ كما حدثت بذلك السنة الإلهية التي جاء الإخبار عنها في قول الله ـ تعالى ـ: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]؟!
إن الطائفة الصابرة المنصورة التي سيُقاتل آخرها المسيح الدجال تواجه اليوم مسؤولية الوقوف أمام دجاجلة العصر الذين يمهدون الطريق للدجال الأكبر، وليست مواجهة الدجال على أبواب بيت المقدس غداً بأولى من مواجهة طلائعه من الكفار والمنافقين داخل بيت المقدس اليوم.
 
[] اختصار خطوات الانتصار:
لديَّ يقين يتأكد على مر الأيام والسنين، وهو أن الاستقامة على منهاج الله تختصر المسافات وتطوي المراحل وتوفر وقت التجارب أمام المؤمنين، في أي نوعٍ من أنواع المواجهات والصراعات التي يخوضونها؛ فالتخبط المنهجي، والدَّخَنُ العقدي، والاضطراب القيمي والسلوكي..، كل ذلك يُؤخر النصر ويُعقد القضايا ويُطيل من عمر الأزمات، ولنا في هذه القضية بالذات ـ قضية فلسطين ـ أعظم العظة والعبرة؛ فليس أكثر من الحق فيها وضوحاً، وليس أشد من الأعداء فيها ظهوراً، وليس أعظم من المتعـاطفين والأنصار لها حماساً وعدداً، ومع هذا وعبر أكثر من مائة عام ـ هي عُمر القضية ـ منذ وُضِع كتاب (الدولة اليهودية)(31).
فإن ما سُمي بـ (أزمة الشرق الأوسط)، كانت ولا تزال، أعقد وأطول وأكثر أزمات العصر استعصاءً على الحل والحسم، في حين أن أزمات احتلال غيرها بدأت وانتهت، وأخرى كادت تنتهي في سنوات معدودة وأزمنة محدودة، وآخر ذلك ما حدث في العراق، الذي لم يمر على احتلاله إلا أربع سنوات ونيف، ومع ذلك فإن الطريق إلى قهر العدو المحتل فيه قد اختصر اختصاراً؛ مع ضخامة العدو، وضآلة العون، وضحالة الإمكانات لدى المجاهدين، إلا من مدد النصر الإلهي المبين!
الأمة في حاجة إلى استحقاق العون الإلهي لطلائع الطـائفـة المنصـورة على أرض بيـت المقـدس، كما رأيـنـا ذلك العــون لطـلائـعـه عـلـى أرض الـعـراق: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَـن يَنصُـرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَـوِيٌّ عَـزِيــزٌ * الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْـمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْـمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 40 - 41].


------------------------
 
نقله لصيد الفوائد محمد جلال القصاص
 
 

عبدالعزيز كامل
  • كتب ورسائل
  • الصفحة الرئيسية