اطبع هذه الصفحة


أمَّتنا ... وكتَّاب الأرائك !!

خباب بن مروان الحمد


في مجتمعاتنا الدعويَّة أو الفكريَّة ، وفي كثير من الكتب أو المقالات أو المحاضرات والمؤتمرات ، يُحْسِنُ بعض المثقفين والمفكرين ـ نحسبهم ممَّن يحملون همَّ الدعوة والعمل الإسلامي ـ يحسنون تشخيص الداء ، ووصف الخطر الداهم على الأمَّة المسلمة ، ومن ثمَّ يخرجون بمجموعة طلبات وتوصيات ، ونصائح يقترحونها للمخاطبين أو المتلقين.

ولا ريب أنَّ ذلك أمر مهم وجدير بالعرض والدراسة ؛ ذلك أنَّ كثيراً من المواقف والأعمال ، تستفيد من تلك الكتب والمقالات والخطب والكلمات، التي تنشأ بعدها ردود ومواقف تكون ظاهرة ملموسة في الواقع الإسلامي، بسبب الأخذ والنهل من تلك التوصيات والاقتراحات ! وقد قيل :

الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ *** هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني
فإذا همَا اجْتَمَعَا لنَفْسٍ حُرّةٍ *** بَلَغَتْ مِنَ العَلْياءِ كلّ مكانِ
وَلَرُبّما طَعَنَ الفَتى أقْرَانَهُ *** بالرّأيِ قَبْلَ تَطَاعُنِ الأقرانِ
لَوْلا العُقولُ لكانَ أدنَى ضَيغَمٍ *** أدنَى إلى شَرَفٍ مِنَ الإنْسَانِ

ولكنَّ المتابع لبعض المثقَّفين يرى أنَّ طروحاتهم الفكريَّة ، على طريقة الخطاب "الينبغاوي" فيخرج الخطاب أو الكتاب أو المقال بعدَّة توصيات في عدَّة كلمات من قبيل: (ينبغي ) أو ( يجب ) أو (المتحتِّم) أو ( يلزم ) أو ( لا بدَّ ) فإذا ما فتَّشت عن مسار ذلك الذي ( يجب ) و( يلزم ) و( يتحتم) وأين دوره في مسار الدعاة والمفكرين ، ومن الذي طبَّق تلك المتحتِّمات والواجبات واللوازم ممَّن قال بذلك ، وأوصى به ؛ فستجدهم كما قيل : أندر من بيض الأنوق ! [ الأنوق : طائر نادر قلَّ أن يوجد ، فإذا كان هو نادراً فإنَّ بيضه أندر منه بقياس الأولى ]

إنَّ بعضاًَ من المقالات والخطب والكتب ، تنجح في التوصيف الدقيق لتلكم الأخطاء أو الممارسات المنتقدة في الواقع الإسلامي ، إلاَّ أنَّه ينقصها النظرة التربويَّة التي تعنى بدراسة أي الحلول الأفضل ، وأي الواجبات الأنسب ، وكيف تستثمر وتجري في قنطرة العمل، ومسار الحركة الإسلاميَّة ؟ وما الطريقة المثلى لحلِّ تلك الأخطاء والممارسات ؟ وكما قال الآخر :

مالم تقم بالعبء أنت *** فمن يقوم به إذن
كم قلتَ : أمراض البلاد *** وأنت من أمراضها
والشؤم علَّتها فهل*** فتَّشت عن أعراضها ؟

إنَّ كثيراً من المثقَّفين والدعاة ـ في تقديري ـ لا ينقصهم الوعي بقدر ما ينقصهم امتلاك الإرادة، والعزيمة والإصرار في تحويل المكتوب في القرطاس إلى واقع حي ، فنحن بحاجة إلى أن نفعل ما نقول وما نكتب، فما احترق لسان بقوله نار ، وما اغتنى إنسان بقوله ألف دينار، والحلول التي كتبها كثير منا في الإصلاح ، ومواجهة الأعداء صحيحة، لكنَّها عملياً ليست ملموسة في أرض الواقع !.

إنَّ داء الكلام والتنظير بلا عمل وتطبيق ، أمر قدْ حذَّر الله منه ومقت فاعليه قائلاً في محكم التنزيل [ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون]الصف[2] ولهذا فلا يستغرب أن تجد أنَّ أكثر من يكثر الكلام لا يحسن إلا ذلك، وليس لديه تجاه تلك النوازل إلاَّ الكلام والمقال ، وصدق الحسن البصري إذ قال :[ إنَّ هؤلاء مَلُّوا العبادة ووجدوا الكلام أسهل عليهم وقلَّ ورعهم فتحدثوا] وقال الأوزاعي: [ إنَّ المؤمن يقول قليلاً ويعمل كثيراً وإنَّ المنافق يتكلم كثيراً ويعمل قليلاً] وما أحسن ما قاله عثمان بن عفَّان- رضي الله عنه- موصياً قوماً لقيهم : [أنتم إلى إمام فعَّال؛أحوج منكم إلى إمام قوَّال].

وعليه فما أحسن الخطاب إذا كان مذيَّلاً بعرض المشكلة ! وتقديم علاجها الناجع، ومصلها النافع الذي يرسم طريق النهضة الإصلاحيَّة بنظرة واقعيَّة عمليَّة، ومن ثمَّ الربط بين ذلك وبين من يبتدئ التنفيذ و التخطيط ، مع الإشراف على تلك البرامج ، أمَّا أن نبقى نكرِّر ونعيد المشكلة وخطر المشكلة ، من دون رسم لحلولها ، والبدء للشروع في تطبيقها ، فإنَّ هذا الخلل ـ في ظنِّي ـ من الضروري بمكان أن يعاد النظر في آليته ، حتى لا نكون جزءاً من المشكلة ، فالأفضل أن نخرج من هذه البوتقة الضيِّقة إلى الدائرة الأوسع؛ دائرة الحلول العمليَّة الواقعيَّة.

إنَّ دور ووظيفة روَّاد الإصلاح ، وقادة النهضة التوعويَّة من العلماء والمفكرين والدعاة ، إبرازُ المشكلة ومآسيها ، بالتزامن مع عرض السبل الصحيحة المبرِزة للحلول والعلاجات المفيدة لهذه الأمَّة الإسلاميَّة المنكوبة.

إنَّ أمَّتنا اليوم تعاني في الحقيقة من قلَّة وجود المنظِّرين والمفكِّرين العاملين في الواقع، والمتميِّزين في إيقاظ الهمم بالطرق العمليَّة ، وبالنماذج الباذلة لنفسها، وغير المتقوقعة حول كينونتها.

إنَّ من المفيد والجيِّد أن نقرأ تجارب الدعاة والمفكرين العملييِّن الأقدمين والمعاصرين ، ولعلِّي أقتصر بالتمثيل على تجربة الإمام عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ حيث باشر بن باديس تأسيس المدارس و تولّى بنفسه مهمة التعليم ، و ركزّ على تعلم الكبار بفتح مدارس خاصة بهم لمحو الأمية ، كما اهتم بالمرأة من خلال المطالبة بتعليم الفتيات إذ أنشأ أول مدرسة خاصة للبنات بقسنطينة سنة 1918 ، واعتبر تعليم المرأة من شروط نهضة المجتمع لكن تعليم المرأة لا يعني تجاوز التقاليد و الأخلاق الإسلامية ، ومن ثمَّ فقد وسع بن باديس نشاطه ليفتتح عدة مدارس في جهات مختلفة من الوطن بالتعاون مع عدد من شيوخ الإصلاح أمثال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي و غيره ، كما ساهم في فتح النوادي الثقافية مثل نادي الترقي بالعاصمة الإصلاح ؟

حتى لا أعرض مشكلة بمشكلة...!
حتى لا يكون كلامي ـ كذلك ـ تنظيريَّاً فإنَّ هناك عدَّة مقترحات لعلَّها تكون مسهمة في التأكيد على الحذر من الإبقاء على طريقة الواجبات والمتحتِّمات و اللوزام القطعيات ، وأهميَّة بناء سواعد العمل ، وفتح آفاق للعمل الجاد وبناء أسس التطبيق :
المخالطة للناس والشعور بشعورهم ومعايشة أوضاعهم ، وهذا من سنن الأنبياء والمرسلين ، ولهذا فقد ظنَّ مشركو قريش أنَّ الرسول يكون متقوقعاً على نفسه ، منكفئاً على ذاته، ولهذا فقد استغربوا معايشته لوضع الناس وأحوالهم ، بله الدخول في أماكن بيعهم وشرائهم :(وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) الفرقان(7) ولهذا فمن صفة الرجل الذي يسعى لبناء منهج تغييري رصين ، أن يسند قوله بعمله ، وكلامه بتطبيقه ، وإلزامه للناس بالأسبقيَّة لهم بالفعل والفعال .

تفعيل جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والانخراط في واقع الناس والجماهير العريضة في الأمَّة الإسلاميَّة ، وتوجيههم وخدمتهم والسعي في مصالحهم وما هم بحاجة إليه ، وقد جاء في الحديث :( لأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا) أخرجه الطبراني وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع برقم(176).

إن استطاع الداعية والمفكِّر أن يصنع موقفاً يمكن أن يعالج به مشكلة تعترض الجماهير أو العامَّة ، بصنع موقف إيجابي ، وتحويل الحدث المأساوي إلى صياغة عمليَّة موفَّقة فإنَّ هذا سبيل مهم ، ودليل على التربية بالموقف والقدوة الفعَّالة ، وقد سلكه رسول الهدى ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ فقد قال : " لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به عن الناس : خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه ، ذلك بأن اليد العليا خير من اليد السفلى" أخرجه مسلم.

وحين جاءه رجل يطلب منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مالاً ويشكو إليه داء الفقر وقلَّة ذات اليد ، صنع عليه السلام موقفاً إيجابيا ، وحوَّل فيه النقمة إلى نعمة ، فعن أنس بن مالك أن رجلاً من الأنصار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم- يسأله فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى:حِلْس (الحلس : كساء يوضع على ظهر البعير أو يفرش في البيت تحت حر الثياب). نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقعب (والقعب: القدح - الإناء). نشرب فيه الماء. قال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، وقال: من يزيد على درهم؟ -مرتين أو ثلاثًا- قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعامًا وانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدومًا فائتني به، فشد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عودًا بيده ثم قال له: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يومًا فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشر دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا وببعضها طعامًا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة. إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع (والفقر المدقع: الشديد، وأصله من الدقعاء وهو التراب، ومعناه: الفقر الذي يفضي به إلى التراب، أي لا يكون عنده ما يتقي به التراب)، أو لذي غرم مفظع (والغرم المفظع: أن تلزمه الدية الفظيعة الفادحة، فتحل له الصدقة ويعطى من سهم الغارمين، أو لذي دم موجع" (الدم الموجع: كناية عن الدية يتحملها، فترهقه وتوجعه، فتحل له المسألة فيها) أخرجه أبو داود في سننه 2/120 ، والترمذي في جامعه (3/522) وقال: حسن .

فهو هنا عليه السلام صنع له البديل الأفضل ، والطريقة الأمثل لعلاج ما به من فقر وفاقة، وكما يقول المثل الدارج: "لا تطعمني كل يوم سمكة ولكن علمني كيف أصطاد"•
مع أنَّه ـ عليه الصلاة و السلام ـ بإمكانه أن يقول له : يجب عليك أن لا تكثر السؤال، وينبغي عليك أن تعمل ، ولا بدَّ أن تفكِّر في حلِّ مشكلتك ، ويلزمك .... إلى غير ذلك من العبارات التي يتَّسم بها بعض الدعاة والمفكِّرين بدون تقديم حلول واقعيَّة ، وخطط عمليَّة.

صناعة الحلول العمليَّة ، والتنسيق بين جهود الدعاة لتحويل (كلامهم) برامج عملية واقعية يُنقِذ هذا الجيل ، ورسم البرامج الممكن تحويلها لقنطرة العمل والإصلاح الميداني لإعلاء كلمة الله حتى لا نبقى في حيِّز التنظير.
وختاماً : فالأمَّة اليوم بحاجة إلى رجال عمليين ، وبحاجة إلى رجال الساحة ، وبحاجة إلى رجال الجماهير الذين ينخرطون في واقعهم ، ويوجِّهونهم وهم في ساحة العمل والبناء ... وذلك في رأيي أفضل من التوجيه الفوقي الذي سئمت الأمَّة الإسلاميَّة من لغته "الينبغاويَّة"، وشعرت بأن القضيَّة مجرَّد كلام وكلام وكلام !!


ملاحظة : نشرت المقالة في شبكة المشكاة الإسلامية
 

خباب الحمد