اطبع هذه الصفحة


نحو محيط ثقافي ناضج (1)
صفات المثقف بين الواقع والطموح

خباب بن مروان الحمد


كثيراً ما نرى أناساً يعدُّون أنفسهم بالمثقفين ، وكثيراً ما يكون بعض هؤلاء المثقفين عبئاً على الأمَّة المسلمة ، وكثيراً ما يكون المثقف أبعد عن الصفات المؤهلة لأن يكون مثقفاً !
وفي خضم الكثير يوجد القليل من مثقفي هذه الأمَّة الذين كان لهم دور ريادي في الإيقاظ الصحوي ، والإيقاد الفكري ، والإقلاع الحضاري .
وهكذا الدنيا يستحيل أن تجمع الناس في بوتقة واحدة ، بل إنَّك حتماً ستجد تلك المتناقضات والتجاذبات المتغايرة ، فيتأكَّد حينها أن يكون لدى المثقف صفات ترعاه ويرعاها ، ويُربِيها في ساحة العقل وحركات الأعضاء ....
فقد صرنا ـ ويا للأسف ـ نلحظ في خطابات ومواقف وتحركات بعض المثقفين اختراقاً قيمياً أخلاقياً وفكرياً ، ولا غرابة إذا سمعنا وقرأنا لمثقفين يمهِّدون في خطاباتهم بأحاديث تشي بضرورة استدعاء المحتل إلى أقطار إسلاميَّة ، أو مثقفين يحاولون غرس قيم بلا قيم ، وبذور يتعاهدونها ويسقونها بأفكار الخبال، و مثقفين يشكِّكون في علماء الإسلام ويطعنونهم في خواصرهم ومن خلف ظهورهم متهمين ومقزِّمين لهم.
ولست أستطرد بذكر الأمثلة فلعلِّي فتحت روزنة في ذهنية القارئ العربي والمسلم يلج من خلالها ليتفكر في جهود ثقافيَّة تطوِّح بقيم الدين الإسلامي باللمز والهمز ، بالتزامن مع السباق على الكارزمية للظهور عبر الفضائيات والبرامج الإعلاميَّة ، بتوصيفهم بأنَّهم:(مثقفون مسلمون)!!
لقد أعجبني ما ذكره المفكر الجزائري الإسلامي مالك بن نبي بأنَّ الثقافة تعني السلوك ! وصدق ؛ فإنَّ من لا يحمل السلوك الراقي ، ويندمج هذا السلوك في بنيته النفسية ، أياً كان مستوى النفس ومعرفتها ، فأولى به أن لا يكون مثقفاً فإنَّ ذلك أمر يحول دونه خرط القتاد !
وعبر هذه الأكتوبة أحبّ أن أكتب حالة وصفية للمثقف المسلم...
كيف يتحلَّى .....
وبماذا يتحلَّى ...

وما الأشياء التي يتميَّز ويتَّسم بها ..... لعلَّ الله أن ينفع بها ، ويجعلها مضيئة على دروب النهضة الثقافية ، وهي على النحو التالي :

الأدب الجم ، الناشئ عن قيم الإسلام وتعاليمه العظيمة ، فالمثقف المسلم رجل مؤدَّب ، عفيف النفس ، دمث الخلق ، كريم السجايا ، متواضع ، لا يتكبر على الغير ، ولا يزدري قلَّة علمهم ، بل يتواضع للكبير والصغير ، ويعطف على الأمِّي ، ويستفيد من المتعلم.
ولقد أخبر أهل السير أنَّه كان في عصر الإمام أحمد يجلس خمسة آلاف شخص يستفيدون من الإمام أحمد ، وأنَّ خمسمائة رجل منهم كان يكتب العلم ، والبقية (4500) رجل يلتمسون من الإمام أحمد الهدي الحسن ، والسمت الراقي ، والخلق الكريم.
وكان الإمام ابن المبارك يقول : نحن إلى كثير من الأدب أحوج منَّا إلى كثير من العلم ، ولهذا فقد ابتدأ الله ـ سبحانه ـ في آياته حين إرسال رسله إلى الخلق بأنَّهم يربّون الناس على الأدب وتزكية النفس قبل العلم فقال ( ويزكِّيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) فالتزكية والتربية للنفس ، قبل العلم والتعلم والثقافة والمعرفة.
إنَّ المثقف عليه أن يعي ضرورة انسجام ظاهره وباطنه مع بعضهما البعض ، أمَّا إن كان ظاهره يخالف باطنه أو العكس ، فإنَّ ذلك يؤدِّي إلى انفصام بالشخصيَّة ، ويعني ذلك أنَّ المثقف لم يتشرَّب حقيقة الثقافة ومعانيها.

التكامل والتوازن ، فالمثقف المسلم رجل متوازن في ثقافته ، متكامل في بنائه الثقافي والمعرفي ، فلا يقتصر على فن أو ثقافة بعينها ، بل يأخذ من كل فن شيئاً ، وإن أحبَّ أن يتخصَّص في علم فليأخذ من هذا العلم كل شيء ، كما يقوله الإمام أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ .
وليعلم أنَّ هذا البناء المتواصل في ثقافته ، سيعود بالدرجة الأولى على تكامل شخصيته ، ويعرف أنَّ وراءه علماً ومعرفة وثقافة كثيرة يجهلها ، فكلَّما اتسعت دائرة المعلوم كلَّما اتسع من وراءها دائرة المجهول ، وقد أحسن من قال:
كلَّما أدَّبني دهري *** أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علما *** زادني علماً بجهلي

الصبر والمثابرة على نيل الثقافة ، فالثقافة تؤخذ من المهد إلى اللحد ، ومن المحبرة إلى المقبرة ، ولا يزال المرء يتعلم ويتثقف حتَّى إذا ظنَّ أنَّه لا يحتاج إلى العلم والثقافة والادَّخار المعرفي فقد جهل كما قاله علماؤنا.
وقد قال تعالى :( والله أخرجكم من بطون أمَّهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) وهذه الثلاثة ( السمع ـ الأبصار ـ الأفئدة) هي الأدوات التي تنال بها الثقافة وتستوعب ، والتي حثَّ الله ـ سبحانه ـ على الارتشاف من قبلها لأي ثقافة أو معلومة تهم المرء المسلم.
فعلى من يريد استقاء الثقافة ، والارتشاف من بحرها المائج ألاَّ يقنط ولا يمل بل يصبر ويصابر ، ويجتهد في نيل المطالب الثقافية العلى ، ومرامي المعلومات العليا ، ليقوى باعه ، ويصلب فكره ، وتُصقل نفسه ، وقد سئل أديسون ـ مخترع الكهرباء ـ كيف نلت العلم والمعرفة فقال : 99% عرق جبين ، و1% ذكاء .
لقد تعلَّم هولاكو من نملة وتثقَّف منها المضي والإصرار على نيل الهدف المرسوم ، فقد كان جيشه من أقوى الجيوش في عصره ، إلاّ إنَّه في معركة من معاركه التي خاضها هُزِمَ جيشه فرجع كئيباً يائساً ، وجلس يفكر في خلوة بينه وبين نفسه وهو جالس على الأرض ، وفي وقت تفكيره عن أسباب الهزيمة ، التفت عن يمينه فرأى نملة واقفة على صخرة ملساء وكلَّما صعدت انزلقت مرّة أخرى وتواصل صعودها وانزلاقها مدَّة 17 مرَّة، فتحرَّكت همَّة هولاكو وقال : ( لن أجعل هذه الحشرة الحقيرة تكون بهمَّتها أفضل منِّي) فقام وأكمل قتاله وهزم عدوَّه الذي كان يحاربه .
فالقضيَّة تحتاج لمثابرة ومواصلة ، وبذل وعطاء من قبل نفسك ، لترى ما لديك من معلومات تفرحك وتسعدك إن احتجت إليها .

الإيجابيَّة والفاعليَّة في العمل لهذا الدين ، والعملية في تطبيق الأفكار لتكون غير مختزنة في العقل ، بل تكون منتقلة ومتدحرجة (من عالم الأفكار إلى عالم الأشياء) كما كان يعبِّر الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله عن ذلك في الكثير من كتبه.
والإشكالية في كثير من مثقفينا المسلمين قلَّة اندماجهم في عالم الواقع ودنيا الناس ، بل حديثهم وكلامهم مع النخب المثقَّفة ، وأحياناً ينشغلون في جدل لا طائل من ورائه.

الاستقلاليَّة والبعد عن العصبيَّة الضيِّقة العمياء ، التي تعطي للمثقف ضيقاً في الأفق ، واضمحلالاً في التصور ، والسطحيَّة في الرؤية ، وقد شاهد بعضنا كيف أنَّ جماعة النور في تركيا تحظر على أتباعها والمنتمين لها ألاَّ يقرءوا إلاَّ في كتب قادتها ، فصارت في رؤاها وتصوراتها غير منضبطة ، ممَّا أدَّى لبعض منتسبيها إلى أن يستقلَّ عنها ليكمل بناءه الفكري ، وطوابقه الثقافيَّة.
ومن الاستقلاليَّة أن يكون المثقف حرَّاً في آرائه بدون تأثيرات داخليَّة أو خارجيَّة أو جانبيَّة ، فله رأيه الخاص المنطلق من عمق معرفته ، وقوَّة ثقافته ، وسعة إدراكه ، فلا يكون للسلطة مثلا تأثير على رأيه ، ولا يكون لعوام الناس والجماهير الحاشدة تأثير على رأيه مادام أنَّه مبني على المنهجيَّة والموضوعيَة تحت ضابط الكتاب والسنَّة المطهرة.

المنهجيَّة والموضوعيَّة والبعد عن العشوائيَّة والمزاجيَّة ، مع عمق التحليل، وأن تكون له عقلية التصور الناضج لآليات المعرفة والثقافة ، لتكون آراؤه ذات ضبط وانضباط ، بلا شطط أو انفراط .
فمهم للمثقف أن يكون ذا معرفة بأصول التخطيط ، وهندسة الأفكار ، وإدارة نظم المعلومات ، ليستوي باعه ، وتنضح معرفته.
ومن الحسن أن يربِّي المثقف في شجرة المعارف التي ينمِّيها في شخصيته ، مهارة التحليل والتركيب في عقليته ، وكيف يستقي المعلومة ، ومن ثمَّ يحلِّلها ويفقِّطها إلى عدَّة تراكيب ، ويفهم كل معلومة على حدة ، ومن ثمَّ يعيد بناء المعلومة في ذهنيته بالشكل الصحيح لتكون مبنيَّة ومستوعبة بتفكر وتدبر.
أمَّا أسلوب التلقين الببغائي فإنَّ هذا أمر لا يصنع تلك العقليَّة المبدعة ، ذات النهج الموضوعي ، والفهم العميق ، بل لابد أن يمتلك المثقف العقلية التي تهتم بفرز الأفكار ودراستها ، واستخراج الحسن من الرديء الذي يلفًّها ، وقد قيل الإمام أبو حاتم الرازي : إذا سمعت فقمِّش ، وإذا حدَّثت ففتِّش .

القراءة الواسعة في كتب المعارف والمعلومات بشتَّى أنواع العلم من شريعة وعلوم عربية ولغوية وفلكيَّة وهندسية وفكرية وتربوية ونفسية واجتماعية وتجارية وصناعية وطبية وعلوم الطاقة والتاريخ والجغرافيا وعلوم الأرض إلى غير ذلك من علوم رب الكون ، أو معارف الأرض التي اكتشفها بنو الإنسان.
ومن الجدير بمكان التذكير بأنَّ المثقف ليس شرطاً أن يكون جامعياً فإنَّ 90% من حاملي الشهادات الجامعية غير مثقفين ، وقد نجد هناك من لا يحمل شهادة جامعية وعنده من العلم والثقافة أضعاف ما لدى بعض من يتَّسم بالثقافة والمعرفة من حاملي الشهادة الجامعيَّة ، وليس هذا يعني عدم أهميَّة نيل الشهادة الجامعية فإنَّ هذا أمر لا يُجادلُ فيه !
إنَّ من المهم مواصلة اطِلاع المثقف على كنوز المعلومات ، وذخائر الكتب ، وزيارة قلاع المعرفة ، والاطِّلاع على ما فيها من كتب ومخطوطات .
وحقَّاً فإنَّه كما قيل :(أمَّة اقرأ لا تقرأ) فقلَّة قليلة من الناس هي التي تقرأ ، وما دمنا نطلب ثقافة تزداد ولا تضمحل ، فيتأكَّد الحث على المواصلة في الاستقاء المعرفي والثقافي ، وعدم الإبقاء على المعرفة الذاتية التي أخذها الإنسان بعد برهة من الزمن ، فالعلم البشري كثيراً ما تتغيَّر أسسه وقواعده ومعلوماته ، فما البال بالثقافة فمن المؤكد أنَّ شيئاً منها سيتغيَّر فترة بعد أخرى ، ومن جميل الأقوال : إن الطبيب الذي لا يقرأ ويتابع الجديد في اختصاصه يصبح نجاراً !

المحافظة على الهويَّة الإسلاميَّة ، والاعتزاز بهذا الدين العظيم ، فقد رأينا كثيراً من المثقفين العرب ، يكفرون بهويتهم ، وينقلبون على واقعهم الإسلامي بالهمز واللمز ، بل ويذوبون في المشروعات الغربيَّة المناهضة للمشروع الإسلامي.
فمن المهم ألاَّ يكون المثقف متشبهاً بأعداء الإسلام ، بل يعتز بهويته وقيمه وخصوصياته ، ولا يرتضي التهجّم المناوئ للثقافة الإسلاميَّة أو أن تخترق حصونها ، أو تهدد قلاعها.
ومن المزعج أن نجد بعض المثقفين المنتسبين للدين الإسلامي يمالؤون كفَّة أعداء الإسلام ، ويكونون مروجين ومؤيدين للفيل الأمريكي كحال أبي رغال مكَّة الذي مهَّد لجيش أبرهة الثرى لهدم الكعبة الشريفة بحجج ساقطة.
ومن المؤلم أن نرى مثقفين ينتمون للإسلام ، من أشدِّ الناس طعناً في خاصرة المسلمين ، مع انعدام المحافظة على خصوصيات المسلمين ، واستقطاب الوافدات الغربيَّة المغايرة للمنهج الإسلامي، ولهذا فإنَّا نجد بعضهم يناكف الجدل، ويلاسن المحافظين على هويَّة الإسلام بقولهم : ليس هناك شيء اسمه الغزو الفكري بل ما يسمَّى بذلك فهو وهم لا حقيقة له ، ولا ينبغي في نظرهم أن نعبأ بهذه المصطلحات ؛ لأنَّنا بنظرهم نعيش في قرية واحدة و كل يستقي من الآخر، ويرتشف ويمتزج مع ثقافته!
ولو نظرنا في ثقافة وتاريخ غيرنا من الأمم الكافرة لوجدنا أنَّهم من أحرص الناس على هويتهم ، فمثلاً بعض الدول الأوروبيَّة لم تدخل إلى الآن في الاتحاد الأوروبي بسبب محافظتها على هويتها وخصوصياتها.
وهاهم اليابانيون حين ضربتهم أمريكا بالقنبلة النووية ودمَّرت ناجازاكي وهيروشيما ، رأوا أنَّ من أسباب ضعفهم عدم قدرتهم على مواجهة الأمريكان ، وقلَّة المعلومات التقنيَّة التي لديهم ؛ فأرادوا تحقيق المناعة واستقطاب المعلومات التي يجهلونها فأرسلوا البعثات للتعلم في بلاد الغرب والنهل من علومهم الطبيعية ، حتى يرجعوا إلى اليابان وينقلوا على أرضها تلك التجارب الغربية الطبيعية فتنهض دولتهم ، وحين بعثت أول بعثة يابانية إلى دول الغرب رجعوا إلى بلادهم متحللين من مبادئهم ، ذائبين في الشخصية الغربية ، فما كان من اليابانيين إلاَّ أن أحرقوهم جميعاً على مرأى من الناس في طوكيو ، ليروا عاقبة من تنكر لأمته وقيمه ، ولم يرعَ المسؤولية التي أنيطت به ، وبعد ذلك أرسل اليابانيون بعثة أخرى ، وأرسلوا معها مراقباً يراقبهم أولاَّ فأول ، من ناحية ثباتهم على عقيدتهم وخصوصياتهم البوذية ، ومراقبة انهماكهم في استقطاب واجتذاب المعلومات التي يجهلونها لينقلوها في واقع بلادهم ، وتمضي الأيام وتكون اليابان من أكبر الدول التقنية في العالم أجمع ، بل والمنافسة والمسابقة لأمريكا وأوروبا في كثير من التخصصات التقنية.
فهل يعي مثقفونا أهمية المحافظة على الخصوصية والهوية الخاصَّة بالأمة الإسلامية ، ويرعوا هويتهم حقَّ رعايتها ؟!

الشعور بهموم الأمَّة المسلمة ، والاعتناء بشأنها العام ، والانضواء تحت رايتها ، والعمل على تحريك واقعها لإيجابيَّة فعَّالة ، مع مناصرة المثقف لثقافة المقاومة ، و المجاهرة بأهميَّة مواجهة المحتل الذي يضرب بأطنابه يوماً بعد يوم في ديار الإسلام ، وفضح مخطَّطاتهم ، وتبيين سبيلهم الإجرامي ، ومكافحة كيدهم ، والمجاهدة له جهاداً كبيرا.
وإذا كان جان بول سارتر يقول : مهمَّة المثقفين الأولى إزعاج السلطات والطغاة، فإنَّه سبحانه وتعالى يقول :(وجاهدهم به جهاداً كبيراً) ويقول :( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرّض المؤمنين على القتال).
فالمثقف يتبنَّى المقاومة ، وينضوي تحت لوائها لعلَّه يكون من أنصارها بالحجَّة والبيان ، إن لم يكن من أنصارها بالسيف والسنان ، وقد كان رسول الهدى عليه الصلاة والسلام يقول لحسَّان بن ثابت :( اهجهم وروح القدس معك) ويقول : ( إن شعرك أشد عليهم وقعاً من وقع النبال) فإنَّ لحديث ولكتابة المثقف المسلم الملتزم صدى قوياً وكبيراً في هذه الأيام عبر وسائل الإعلام بكافة أطيافها.

10ـ التواصل مع الغير أو الآخر مع الحصانة الفكرية الراسخة عنده ، وبناء ثقافة الممانعة والمناعة في تكوينه الفكري ، وهذا ما يؤكِّد أهميَّة تلقي العقيدة تلقياً أوَّلياً قبل نيل أيَّة ثقافة ، وذلك لأنَّ كثيراً من المثقفين تكون القاعدة الصلبة العقدية لديهم ضعيفة ما يؤدِّي إلى الوقوع في مزالق فكرية خطيرة.
ومن جميل ما أوصى به شيخ الإسلام ابن تيمية تلميذه الإمام ابن القيم قوله :(لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلاَّ بها ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه).
نعم ... من الحسن أن يكون لدى المثقف عقلية الاستيعاب لفكر الآخرين ، والارتشاف من علومهم ، والاستقطاب من أفكارهم ، ريثما أنَّه من المهم أن يكون على حذر من الوقوع في انحرافاتهم ، فيكون حاله كمن يبني قصراً ويهدم مصراً .
ومن هذا القبيل ما ذكره ابن عبد ربه في العقد الفريد أنَّ ابن المبارك كان خارجاً للجهاد في سبيل الله ، وكان يتأسَّى على الأيام التي فوتها بقرض الشعر ، ويقول فوَّتنا أياماً في قرض الشعر ونظمه وتركنا هذا العمل العظيم ـ يقصد الجهاد في سبيل الله ـ ثمَّ مرَّ بجانبه سكران ، قد رفع صوته يغني قائلاً :
أذلني الهوى فأنا الذليل * وليس إلى الذي أهوى سبيل
فأخرج ابن المبارك رزنامجا( أي ورقة) فكتب البيت ، فقال له أصحابه : أتكتب بيت شعر سمعته من سكران ؟! فقال : أما سمعتم المثل : ربَّ جوهرة في مزبلة!
وصدق ! فلا يضر أن يأخذ الإنسان من علوم غيره ومن أفكارهم مع ما عند بعضهم من فساد في الفكر وخلل في الاعتقاد وقصور في السلوك .
وقد أخذ أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ آية الكرسي من الشيطان ، وحين علم رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بذلك قال : صدقك وهو كذوب.
وكفى بقوله عليه الصلاة والسلام :( الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها كان أحق الناس بها) أخرجه الترمذي.

11ـ المثقف صاحب فكر وهدف ، باحث عن الحقيقة شجاع في اكتشاف المجهول ، لا يرديه قول قائل ، ولا تخذيل مخذل ، بل يجهد نفسه للوصول إلى المطلوب ، ليحقق طموحاته وأهدافه ، وقد قيل :
وما نيل المطالب بالتمنِّي * ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

12ـ المواكبة للعصر ، والوعي لظروفه ، وتقديم الإسلام بلغة يفهمها أهل العصر بدون غلو وشطط ، أو تخاذل وغلط .
لعل هذه بعضاً من صفات المثقف الحريص على شخصيّته لتتوائم مع فكره وسلوكه ، والله من وراء القصد ، وهو الهادي إلى سواء السبيل .

يتبع

 

خباب الحمد