اطبع هذه الصفحة


نحو محيط ثقافي ناضج (2)
دور المثقف .... جهود لا ركود

خباب بن مروان الحمد


كتبت في حلقة سابقة حول صفات المثقف ، مبيناً بأني أقصد مخاطبة المثقف المسلم ، وذكَّرت بأهمِّ الصفات التي يتأكد على المثقف المسلم أن يتحلَّى بها ، حتَّى يكون متميزاً عن غيره من المثقفين العاديين ، وهذه الحلقة مكمِّلة وموضحة لدور المثقف ومسؤوليته تجاه نفسه وأمَّته ومجتمعه ، والله من وراء القصد .....

_______________________

إن المثقف الحق هو من يقوم بدوره كاملا وذلك عبر التحمل والأداء فإن قيمة المعلومات التي اختزنها والمعرفة التي أتيح له الاضطلاع عليها = لن تظهر إلا حين يؤدي زكاة ما جمعه وما اكتنزه من ثقافة امتدت على طول سنوات الخبرة في جامعة الحياة ، ولن يشفع له أنه قارئ نهم أو مطلع بل عليه أن يعطينا ثمار معرفته وإلا كان علمه مما يتعوذ منه فقد استعاذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من علم لا ينفع .
إنَّ للمثقف دوراً كبيراً في واقع الناس ودنياهم ، لأنَّ المثقف الذي جمع من المعلومات قسطاً كبيراً ، ينبغي ألاَّ يقتصر على الجمع والاستقصاء والارتشاف والاستقاء للمعلومات فحسب ، بل يطمح بأن يكون له دور ريادي في إصلاح الواقع الذي يعايشه ، وعدم اعتزاله ، وفي هذا المقال أستكمل الحديث موضِّحاً لدور المثقف في المجتمع...
ووظيفته في بثِّ أفكاره ...
ومسؤوليته أمام الله حول المعلومات والعلم الذي استقاه ، و كيف يبلوره لواقع عملي ..........
وما دور المثقف في الأزمات والملمَّات التي تقع على الأمَّة المسلمة .....
وكيف يكون مساعداً في إخراج الأمَّة من كبوتها ، أو قل مبصراً لها بما هي مقدمة عليه ، وإنقاذها من الوقوع في أوحال الانزلاق.....
فلهذا كانت هذه المقالة استمراراً في البحث عن حلول مفيدة ، لعلَّ الله يكتب لها القبول ، إنَّه خير مأمول .

* الدور المأمول ، والأمل المنشود :
لقد قال مرَّة الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى :( المثقفون اليوم هم جنرالات المعركة المقبلة وقادتها ومحددو نتائجها ، لقد بات عليهم من الآن فصاعداً القيام بدور محوري في معركة الدفاع عن الأمة وحضارتها).
وحديثه في محلَّه ـ بغض النظر عن سياق الكلام ـ فإنَّه إن لم يكن للمثقف المسلم وخصوصاً في هذه الحقبة الزمنيَّة دور فعَّال وأكيد في القيام بمهامِّه ومسئولياته = فإنَّ ثقافته وعلمه لن تفيد الواقع البشري ، بل قصارى ما يمكن أن يقال بأنَّه زادت نسخة ثقافيَّة جديدة في البلد ليس إلاَّ !
وقبل البدء بعرض ما في جعبتي من الدور المأمول للمثقف السلم ، فإنِّي أنبِّه على قضية ذات أهميَّة للمثقف نفسه ، وهي أوَّل دور ينبغي أن يعتني به ، وذلك بإصلاح ذاته ، والقيام بالعبوديَّة لله ، والالتجاء لركنه الركين ، والتقرب منه بأنواع العبوديَّة ، فكثير من المثقفين ـ يغفر الله لي ولهم ـ مفرِّط في حقوق الله تعالى، أو على الأقل نصيبهم من العبادة ضعيف ، مع أنَّهم قدوة يقتدي الناس بفعالهم ، وأقوالهم وحركاتهم .

* دور المثقف تجاه الأمَّة وقضاياها:
من أولويات المثقف في القيام بدوره الريادي والقيادي تجاه أمَّته ما يلي :
ـ تبصير الأمَّة بالحقوق والواجبات ، وتسليحها بالعلم والمعرفة ، ونشر الثقافة الإسلاميَّة بين المسلمين ، والدعوة إليها ، وتوعيتهم بما يجهلونه منها ؛ فإنَّ أمَّة تعيش على الاهتراء الثقافي ، والنسيان أو التناسي لعلمها وقيمها فضلاً عن التنكر لذلك ، مصيرها محتوم بالفشل وتكون بذلك قد حجزت لنفسها مقعداً بين الأمم المتخلفة وابتعدت عمّا من شأنه أن يرقى بفكرها وثقافتها.
ـ أن يكون له وقع وأثر فعَّال في إدارة الأزمة التي تمرَّ بها الأمَّة الإسلاميَّة ، ومن أروع ما قاله "جيري سيكيتش" في كتابه :( كافة المخاطر) عن تخطيط إدارة الأزمات :"لا تختبر أي إدارة اختباراً جيداً إلا في مواقف الأزمات".
فالرجل المثقف يستشعر وجوده في مجتمع الأزمة ، ويحاول قدر المستطاع ، أن يبذل قصارى جهده لبث الروح الفعَّالة ، وصدق طرفة بن العبد حين قال :

فإن قِيل مَن فتى خِلتُ أنني *** عُنيتُ فلم أكسل ولم أتبلدِ

والمثقف لا يكل ولا يمل في محاولة بذر روح الأمل والعمل في قلوب الأمَّة ، ورفع المعنويات للجماهير المسلمة ، التي أصيب بعضها بروح اليأس والقنوط.
ـ الوقوف بجانب الحق ، ومقاومة الظلم ، ومصاولة الباطل ، وإذا كان المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي يرى أنَّ المثقف هو من يحمل الحقيقة في وجه القوَّة ، فإنَّ دين الإسلام أتى بمفهوم عجيب لنصرة الظالم والمظلوم ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" فقال رجل: أنصره إذا كان مظلوما أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال "تحجزه أو تمنعه من الظلم فإنّ ذلك نصره" أخرجه البخاري .
فالمثقف له دوره الفعَّال في نصرة الحق ، والمجاهرة بقوله ، ولو على حساب نفسه ، ومن العجب أن يكون أصحاب الباطل جريئين في قول باطلهم ، وأهل الحق ضعفاء بالجهر بحقِّهم ، فعلى المثقف أن يحترم ذاته وعلمه ولا يسمح بأن يكون أداة مؤجرة مهما كان الثمن ، ولله درّ من قال :
قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وضرورة أكيدة للمثقف بأن يضحي لنشر أفكاره بالغالي والنفيس ، وليس على الترزق والأكل والشرب بأفكاره ، أو أن تكون أفكاره مواداً يتاجر بها فحسب .
وإذا أصبح المفكر بوقا يستوي الفكر عنده والحذاء
إنَّ المثقف هو قلب الأمَّة النابض ، وهو الذي يشعر بهموم الأمة ، ولا بدَّ أن يكون له موقف أخلاقي نابع من دينه تجاه ما يحدث فيكسب رضا الله ورضا الناس ويمنح التخليد في التاريخ ، وتعجبني كلمة قالها المفكر الإسلامي محمد الأحمري حين قال مرة في إحدى مجالسه : المعرفة والموقف يرفعان أقدار الرجال ... وصدق لله درًّه !
ـ المثقف يواجه عواطف الجماهير بروح عمليَّة حركيَّة وخصوصاً أنَّ العاطفة تكون سيدة الموقف في كثير من القضايا ، فهو في خطاباته لا يشحن العواطف ويحركها فحسب ، بل إنَّه يواجهها بعقلانيَّة وعمل مثمر بنَّاء ، وتسخير للطاقات في خدمة هذا الدين .
وعليه فإنَّ من المهم أن يكون المثقف لديه وعي اجتماعي ويتبعه دور اجتماعي، يصلح به الواقع المعاش، ودنيا الناس ، ولا بأس ... فليكن مثقفاً ورجلاً شعبياً في الوقت نفسه .
لهذا نجد أنَّ كفَّار قريش استغربوا كيف أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعاشر الناس ويخالطهم في منتدياتهم وأسواقهم ، حيث كان رجل عامَّة مع أنَّه الرسول الذي يوحى له من قِبَلِ الله ـ سبحانه وتعالى ـ وكفى به من شرف ، ومع هذا فكان قريباً من الناس ، ممَّا دعى كفار قريش لأن يقولوا كما أخبر تعالى عنهم:(وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) !
فالمثقف هو من يكون جامعاً بين نفع نفسه ونفع الناس ، مع علم وفكر ومعرفة، فهو كما يقول محمد إقبال :

نيِّر الفكر يقود العملا *** مثل رعد بعد برق جلجلا

والحقيقة أنَّ بعض الناس يظنُّ أنَّ المثقف يقتصر دوره على الكتابة أو الاستقاء الثقافي ، لذا صار كثير من المثقفين يعيشون في صومعة فكرية ، ودورهم في المجتمع ضامر ولا يظهر إلا من خلال كتاب أو مقالة أو رسالة فحسب ، ولا ريب أنَّ هذا خلل في المفهوم ، فالمثقف إن كان قصده المعرفة والثقافة فحسب ، فإنَّه لن يكون له دور إصلاحي ريادي في المجتمع وهو ما نسعى له !
ـ من واجبات المثقف أن يجيب على تساؤلات الناس ، ويعالج مشكلاتهم ، فلا يكون كالكثير ممَّن يطرحون الإشكاليات التي يعجَّ بها العالم الإسلامي ، ولا يعطون لها حلاً ، أو يفكرون بطرق عملية تفيد السائل ، وتثري المجتمع ، وفي الحقيقة فإنَّ كثيراً من المثقفين يعيشون في أزمة وتكمن في إثارة الإشكاليات الثقافيَّة أحياناً في وجوه المخاطبين ، دون تبيين حلول لتلك الإشكاليات، لذا وصف كثير من المثقفين بأنَّهم يعيشون في واد والناس يعيشون في واد آخر.
لكن ما نرجوه أن يكون المثقف كالطبيب الذي يعالج مشكلات الجسم ، وهو يعالج مشكلات الروح والمجتمع ، فضلاً عن تعزيزه لذوات الناس والمجتمعات ، وزرع روح التكافل والتضامن الروحي والاجتماعي فيما بينهم .
فهو كما قيل : "شخص همه أن يحدد ويحلل ويعمل من خلال ذلك على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ نظام اجتماعي أفضل ، نظام أكثر إنسانية و أكثر عقلانية" انظر: محمد عابد الجابري : المثقفون في الحضارة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية ، ص 25.
ولا يعني ذلك أنَّ المثقف يجب عليه أن يجيب على كلِّ سؤال ، حتى يوصم بأنَّ لديه شهوة الكلام والجواب والخطاب ، وهو بهذا يظنُّ أنه يريد أن يحقق الموسوعية وهذه مشكلة قد يضر من خلالها أكثر ممَّا ينفع ، فبعضهم يريد أن يكون شيخاً وواعظاً ومفتياً ومحللاً سياسياً ومنظراً اجتماعياً وطبيباً نفسياً، وأتذكر بهم قول الشاعر :

رام نفعاً فضرَّ من غير قصد *** ومن البر ما يكون عقوقاً

إلاَّ أن المثقف الصادق يقول لما لا يعرفه لا أدري ويكثر من هذا القول ، ولا يتنافي هذا بأن يكون مثقفاً ألبتة.

* دور المثقف حيال بناء الأمَّة الثقافي:
لابدَّ وأن يكون للمثقف دور في بناء الهيكل الثقافي للأمَّة المسلمة ، وتزويدها بكلِّ ما يرفع من كيانها وقدراتها ، ومن ذلك :
ـ ممَّا يلزم المثقف أن يكون له دور في الإصلاح الفكري والديني والاجتماعي وغيرها ، وأن يفرض رأيه بالإقناع لا بالإخضاع ، فهو ليس حاكم أو قاضي ، بل هو مبلغ وداعية وموصِّل للثقافة التي استقاها إلى شرائح المجتمع.
مع أهميَّة أن يتسع صدره لمن يخالفه ، ويعامله بالحسنى ، ويعاشره بالمعروف، ويربي الناس على أهميَّة التخلٌّق بأدب الخلاف ، والتعامل مع الناس في طروحاتهم الفكرية والثقافيَّة بأدب ، ويخبرهم بأنهم الرابح الكبير من وراء ذلك ، وصدق الله إذ يقول :( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً).
ـ من الأمور المهمة للمثقف المسلم أن يبني نظاماً ثقافياً لمن يريد أن يزداد من رصيده الثقافي ، ولو تنادى جمع من المثقفين لعقد جلسات بين أرباب الثقافة وأولو الفكر والمعرفة الذين يمتازون بالتنوع في التخصصات فيما بينهم ، مع الاتساع المعرفي ، والعمق المنهجي ، واختطوا منهجاً ثقافياً شاملاً عاماً يجمع بين القراءة والتدبر والتحليل والتأمل والدورات والتجارب والأشرطة والمحاضرات والندوات والأفلام الوثائقية والمناهج المتغايرة المختلفة ، وحاولوا أن يضعوا للمبتدئين وكذا للمتوسطين والمتقدمين ، منهجية ثقافية شاملة ، لكان أمراً متميزاً ، ويكون ذلك عبر خطة شمولية منهجية متكاملة في جميع العلوم والتخصصات .

وقد يقول قائل : قد يحصل هناك اختلاف ما بين الرؤى والتصورات في النظر إلى تلك المنهجية الثقافية الصاعدة ، ويكتب آخرون منهجيَّة أخرى تغاير وتخالف ، فجواباً على ذلك : لا بأس .... فليكن مثل هذا فإنَّا نريد أن تكون قضايانا الثقافية موضع نقاش وفائدة وتبادل للخبرات والمعارف وتنوع في الفهم والتحليل وهو ما يمكن أن يطلق عليه التلاقح الثقافي ، وقد قيل : العقول ينقح بعضها بعضاً ، ولا يعني ذلك إقرار التضارب بين المناهج المرسومة لذلك ، بل هذا من قبيل اختلاف العقول المحمود ، وقد قيل : اختلاف العقول ثراء واختلاف القلوب وباء.

ـ مخاطبة كل فئة بما يناسبها من الخطاب الثقافي ، فليخاطب كبير السن ، خلاف ما يخاطب صغيره، وحين يخاطب ويتحدث إلى النخب ، غير حديثه لرجل الشارع العامي ، وهكذا ... فليعط لكل مقام مقاله الذي يخصَّه ، ويتحدث بالحديث المناسب للرجل المناسب في المكان المناسب ، اقتداء بما قاله علي بن أبي طالب :( حدثوا الناس بما يعقلون أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله) وبقول عائشة :( ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلاَّ كان لبعضهم فتنة).
ـ تعميق الحس النقدي لدى آحاد الأمَّة ، وتربية العقول على أن تكون موضوعيَّة في التلقي والاستماع ، ودراسة القضايا بروح المنهجية لا العواطف غير المؤصَّلة.
لهذا عرَّف مجمع اللغة العربيَّة بأنَّ الثقافة :( كل ما فيه استنارة للذهن وتهذيب للذوق ، وتنمية لملكة النقد والحكم لدى الفرد والمجتمع) مجمع اللغة العربية ، المعجم الفلسفي ، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية ، القاهرة ، 1979 ، مادة ثقف.
فمهم وحسن أن يكون لدى المثقف دور في تنمية ملكات النقد البنَّاء لدى المجتمعات المسلمة ، وكيف تتلقَّى الأخبار وتمحِّصُها قبل أن تشيعها وتذيعها.
ـ تشجيع روح الإبداع والابتكار في قلوب الشباب اليافع ، ومحاولة الإشراف على مراكز تعتني بهم ، وترفع من قدراتهم الإبداعيَّة ، والسعي لتمويلها وتشغيلها ، وحتماً فستنتج تلك المراكز كفاءات عالية نشيطة وذات همم وطموحات ، تفيد الأمَّة المسلمة .
ـ إشعار الناس بأهمية اللغة العربية، والتحدث والاعتزاز بها ، وأن يغرس المثقف في المسلمين حب اللغة العربية ، لأنَّها اللغة التي نزل بها القرآن فهي لغة الإسلام ، وممَّا يؤسف له أن نجد أناساً من مفكري الإسلام ومثقفيه لم يتعلموا اللغة العربية ، بل كتبوا كتبهم بلغاتهم الخاصة بهم ، كأبي الأعلى المودودي ، ومحمد إقبال ، بل كان مالك بن نبي وهو من كبار مثقفي الإسلام ، يكتب كثيراً من كتبه باللغة الفرنساوية !
وعلَّة ذاك الاهتمام باللغة العربية ؛ أنَّها تلاقي الآن وقبل الآن حرباً ضروساً بلا هوادة من دعاة العامية ، أو من المستشرقين ، والمستغربين ، ولا ننسى ما كان يردده سلامة موسى وغيرهم من أذيال الغرب بالتحاكي والتلاسن باللغة العامية ، متحججين بأن اللغة العربية لا تستوعب الأشياء الحديثة ، وأنَّها لغة ضعيفة مهلهلة ، كانت تصلح لزمن حجري ، وليس لزمن النهضة.
فهم يحاولون صرف المسلمين عن لغتهم بتشجيعهم على الدخول للمدارس العالمية ، ويشجعون على أن تكون اللغة الانجليزية لصيقة بالتلميذ منذ دخوله للمدرسة ، ونجد كثيراً من الناس يصفقون لذلك الأمر ، وهم لا يعلمون أن المسألة ينظر لها الغربيون بمنظار آخر ، وإن كان تعلم اللغات مهم ، وقد قيل : من تعلم لغة قوم أمن مكرهم .
ولنلاحظ اليهود كيف أنَّهم شجَّعوا لغتهم العبرية مع أنها كانت ميتة ، بل إنَّ اليهودي العربي لا يرطن ولا يتكلم إلاَّ بها ، فضلاً عن أنَّها هي اللغة العلمية التي يتعلم بها الطلاَّب في جامعاتهم في الأعم الأغلب.
وبما أنَّنا نتحدث عن موضوع اللغة ، فمن مهمات المثقف السعي إلى إيجاد مؤسَّسات تعنى بترجمة الكتب غير العربية ، والتي يجد بها معلومات مهمَّة تفيد عموم الشعوب العربية المسلمة ، وكذلك ترجمة ما لدى غير من المسلمين من أفكار بثوها في كتبهم ، وحرمناها في واقعنا العربي المسلم ، بسبب عدم ترجمتها !
ـ محاولة تقديم البديل الإسلامي المنضبط بقيم الإسلام وتعاليمه ، فالله تعالى يقول لمحمد ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ :( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً) وقد كتبت في ذلك دراسة مختصرة وافيه ـ بإذن الله ـ سميتها:( البديل الإسلامي بين الانضباط والتسيب) من الحسن الرجوع لها ، وقد نشرت على العديد من مواقع الإنترنت.

* دوره حول ثقافات الغير:
ـ تحصين الأمَّة وحمايتها من الغزو الفكري أو الثقافي الذي يراد لها من خلاله أن تنسلخ من عقيدتها وقيمها وثوابتها.
ومن القضايا التي يجب على المثقف المسلم أن ينتبه لها ما يسمَّى بأسلمة المصطلحات ، فهذه القضيَّة يريد المثقفون الليبراليون أن يمرروا من خلالها كثيراً من المصطلحات الغربيَّة والمهترئة التي مجَّ بعضها الغرب فقذفوه لنا ، ليتلقفها الليبراليون ويبشِّروا بها ويدندنوا على أهميتها في الواقع الإسلامي .
كما أنَّ بعض الإسلاميين يحاولون أن يحققوها في الوجود الإسلامي ولكن بغير (فلترة) لما فيها أو إصلاح خللها فينتج من ذلك مفاسد في التصورات ، وعطب في المفاهيم.
ومن أروع من كتب عن ذلك محمود شاكر في كتابه (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)، ومحمد قطب في كتابه (نحو تأصيل إسلامي للعلوم الاجتماعية) ، ومحمد محمد حسين في كتابه (حصوننا مهددة من داخلها).
ـ تنقية الثقافات ممَّا يعتريها من خلل ، أو تشويش ، فنحن نعيش في زمن الانفجار المعرفي والذي جعل الكم الهائل من المعرفة والمعلومات متاحة لنا في كل وقت ، ومن المؤكَّد أنَّها تحوي الغث والسمين ، ووظيفة المثقف حيال ذلك أن ينقي المعلومات من مصدرها ، ويقدمها بصورة جيدة سلسة خالية من العيوب والنقائص ، وهذا ما نحتاجه في زمن الاتصال الفكري = أن يكون هناك علاج للثقافة الوافدة إلينا وتمييز طيبها من خبيثها ، فثقافة الأرض لكلِّ الأرض ، ومن المهم الانفتاح عليها ، ولكن الدور الذي على كاهل المثقف هو التنقية والتصفية لجميع الثقافات وإدخال الحسن منها إلى دائرة المحيط الإسلامي واستبعاد رديئها.
ـ التحذير ممَّا يسمَّى بـ :(عولمة الثقافة) وإشعارهم بخطورة هذه الفكرة ، وأنًَّ فحواها ومحتواها طمس الخصوصيات الإسلاميَّة ، وإشغال الأمًَّة المسلمة بما لدى الأمم الغربيَّة والأمريكيَّة على وجه الخصوص من ثقافات جديدة ، وإغراقهم في المستنقع الثقافي لما يسمَّى بالقرية الكونية [وإذا كانت وزيرة الثقافة الدنماركيَّة اشتكت من هيمنة الثقافة الأمريكيَّة ، وقالت :"لم يعد يحتمل هذا الغزو" وإذا كان الرئيس الفرنسي السابق (فرانسو ميتيران) وقف يخطب في الجموع المحتشدة محذِّراً من تفشِّي ظاهرة لبس الجينز بين الشباب الفرنسي لأنَّه مظهر من مظاهر الغزو الأمريكي)مقطع مأخوذ من كتاب العولمة : للدكتور : إبراهيم النَّاصر صـ27ـ صـ11.
فإنَّا كمسلمين يلزمنا ، أن نحذر من ذلك ونكون أشدّ إصراراً على المحافظة على هويتنا وخصوصياتنا وقيمنا ، وعدم التشبه والاقتداء بأعداء الإسلام ، كيف ورسولنا ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ حذَّرنا من ذلك وقال :( من تشبَّه بقوم فهو منهم) أخرجه أحمد وجوَّد إسناده ابن تيمية وحسَّنه ابن حجر.
ـ من مهمَّات المثقف ( استرداد المصطلحات المغتصبة ) وتعديل المفاهيم عند الناس ، ومنازعة المثقفين في بعض المصطلحات ، ومن ذلك كلمة (المثقف) فقد كانت تطلق في السابق على أتباع الفكر الماركسي الشيوعي ، والآن تطلق على أصحاب الفكر الليبرالي العلماني المتحرر من ربقة العبودية لله، فكلمة المثقف هي أولى بالمثقف المسلم .

* المثقف والمستقبل :
ـ على المثقف أن ينتهز فرص قراءة المستقبل ، والرؤى القادمة ، ودراستها ، واستنباط وإبراز القضايا التي قد ينشأ منها إشكاليات في واقع الثقافة ومصادرها، وأن يسبق الباطل بخطوات قبل وقوعه ، بالإصلاح والنصح المبكر، لا أن ينتظر وقوعه حتى يبدأ بالإصلاح والنصح وربما يتحول هذا الإصلاح بسبب بعد نظره إلى حق دون أدنى خسارة فيتحول الباطل إلى حق لحسن تدبير المثقف وعلمه وأسبقيته بمعرفة وقوع الخطر قبل قدومه .
فيكون بهذا مقتدراً على توعية الشعوب بالمخاطر التي قد تواجهها ، وإعطائها اللقاحات الثقافية المضادة ، والأمصال الواقية من التأثر بقضايا تسبب فيما بعد مشاغبات ثقافية مؤثرة على الجو الثقافي والبيئة العامة .
وذلك حتى لا تكون أفعال المثقفين أو قراءاتهم في الواقع أو دورهم في المجتمع ناشئ عن ردود أفعال فحسب ، بل لابد أن يكون للمثقفين دور في قراءة مستقبلية للفعل والتشخيص له قبل علاجه وصناعة الدور الذي يناسبه.

* وأخيراً : هل المثقف داعية ؟!
قد يقول بعض القرَّاء : إنَّ بعضاً ممَّا كتبت حول دور المثقف يشترك مع دور الداعية ، والجواب عن ذلك : بأنَّ المثقف إن قصدنا به ذلك الشيء المركَّب الذي يطلق على شخص حمل العلم والمعرفة وازدان بالسلوك الراقي الذي اختلط بشخصيته فحسب ... أي باختصار ... ذلك المثقف الذي تكونت لديه معلومات فصار شبيه قوالب جامدة !
إن كان هذا ما يدور في بال ويسنح في خيال كثير من القرَّاء فليس ذلك هو المقصود ... إنَّ المثقف الذي تريده أمتنا ذلك المثقف الداعية لأفكاره وثقافته التي يحملها ، فهو داعية بقوله ، وداعية بفعله ، وداعية بتصرفاته ، وأي مثقف ليس داعية فإنَّ أمتنا لن تستفيد منه شيئاً .
تلك ومضات مهمَّة لعلَّها تكون مفيدة ، ونوراً يضيء ، وسراجاً يشتعل ، ونجوماً تضيء ؛ للمثقف المسلم مريد الثقافة والعمل معاً ، فالمثقف رائد والرائد له دور في مجتمعه ، وهو لا يكذب أهله ..

يتبع

 

خباب الحمد