اطبع هذه الصفحة


مفهوم الأمَّة الواحدة
(مناقشة هادئة للشيخ الدكتور القرضاوي)

خبَّاب بن مروان الحمد


     كنت يوماً أشاهد برنامجاً فكرياً في إحدى القنوات الفضائيَّة ؛ فرأيت أحد المفكِّرين يقول بأنَّ النصارى الذين يسكنون في بلاد المسلمين يُعَدُّونَ من أمَّتنا الواحدة ، واستدلَّ على كلامه بقوله ـ تعالى ـ :(وإنَّ هذه أمَّتكم أمَّة واحدة وأنا ربكم فاتقون) (المؤمنون: 52).فاستغربت في الحقيقة !
وتذكَّرتُ كلاماً للشيخ الدكتور : يوسف القرضاوي ـ وفَّقه الله ـ حين كان يتحدَّث عن الأقباط النصارى ، ويقول بأنَّهم من أمتنا ؛ بل إنَّه في أحد برامجه القديمة قال متحدِّثاً عن النصارى : " فكل القضايا بيننا مشتركة ، فنحن أبناء وطن واحد ، مصيرنا واحد ، أمتنا واحدة ، أنا أقول عنهم : إخواننا المسيحيُّون ، البعض ينكرُ عليَّ هذا كيف أقول إخواننا المسيحيون؟ ( إنَّما المؤمنون إخوة) نعم نحن مؤمنون وهم مؤمنون بوجه آخر"[1]!
لقد أعدت النظر مراراً في كلام الدكتور القرضاوي وكلام ذلك المفكِّر، محاولاً أن أجد لكلامهما حجَّة ؛ فلم أجد!
وقد بحثت فيما بين يديَّ من مراجع لعلِّي أجد أصلاً لكلامهما ، حيث إنَّ علماءنا قالوا: ( لا تعتقد فتستدل فتضل) بيد أني أقول: إنَّ في كلام الدكتور القرضاوي وذلك المفكِّر خطأً ولبْسَاً ظاهراً، ومخالفة للفهم الصحيح الذي عليه علماؤنا من أهل السنَّة !
وكثيراً ما يذكر الشيخ القرضاوي وغيره من العلماء أو المفكِّرين تلك المفاهيم في عدد من المحاضرات والملتقيات الفكريَّة والعلميَّة ، ولم أرَ ما يسند قولهم ، فأحببت أن أساهم بهذه الأكتوبة لعلَّ فيها توضيحاً وتصحيحاً :
فحين قال الشيخ القرضاوي : (فكلُّ القضايا بيننا مشتركة) فإنَّ في هذا الكلام تجاوزاً واضحاً ، فكيف تكون القضايا كلُّها بيننا نحن والنصارى مشتركة ؟!
 أليس لكلِّ أحد منَّا قيم وخصوصيات يفترق بها عن الآخر؟
وأتساءل عند قول الشيخ ـ وفَّقه الله ـ:(مصيرنا واحد) فأقول : كيف يكون مصيرنا نحن والنصارى واحداً ؟ أفيكون هذا موافقاً للقرآن وهو ينصُّ في آيات كثيرة بخلاف ذلك! ومنها قوله ـ تعالى ـ : (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون)( الجاثية:21).
ولا شكَّ أنَّ نصوص الشريعة الإسلاميَّة قضت بأنَّ مصير الكفَّار جميعهم ومنهم النصارى النار ـ عياذاً بالله منها ـ ومصير المسلمين الجنَّة ـ نسأل الله من فضله ـ .
نعم ! بالإمكان أن يُحْمَل كلام الشيخ القرضاوي على وجه آخر بأن يُقَال : إن مقصده بأنَّ مصير المسلمين والكفَّار جميعاً الموت ـ مثلاً ـ ، أو إنَّه إذا دَهَمَ العدو أرض المسلمين فقد لا يفرِّقُ في عداوته للمسلم والنصراني كما يفعل اليهود اليوم مع نصارى فلسطين ، وإن كان القتال الأصلي ضدَّ المسلمين .
ولهذا فإحساناً بالظنِّ أقول : إنَّ كلام الشيخ القرضاوي ( في هذه القضيَّة) مُحْتَمَلٌ ؛ إلاَّ أنَّه كان ينبغي عليه أن يُفصِحَ عن مراده في ذلك ؛ حتى لا يُفْهَمَ كلامه خطأً ، وخصوصاً أنَّه كان يتحدَّث في برنامج حواري يشاهده العامي والجاهل والعالم والمتعلم وصاحب الهوى وغير المسلم.
ومن المهم أن أذكِّر بأنَّ (مفهوم الأمَّة) مفهوم شرعي أتى به الإسلام ، ووضع له معنى خاصَّاً ومن معانيه : القوم الذين اجتمعوا على دين واحد ، وانظر تفصيل ذلك في كتاب: ( بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) للإمام الفيروز آبادي ـ رحمه الله ـ .
إلاَّ أنَّ الشيخ القرضاوي وغيره من المفكِّرين ذكروا أنَّ النصارى الذين يعيشون في بلادنا الإسلاميَّة من أمَّتنا الواحدة كما تحدَّث بذلك في محاضرة له كان يلقيها في مصر أيام الحرب السادسة في لبنان في صيف عام (1427هـ) واستشهد على ذلك بقوله تعالى:( وإنَّ هذه أمَّتكم أمَّة واحدة).

لقد قسَّم العلماء الأمَّة إلى قسمين :
1ـ أمَّة الدعوة : وهم الذين دعاهم الله ـ تعالى ـ للإيمان برسالة الإسلام ولكنَّهم لم يؤمنوا بها .
2ـ أمَّة الإجابة : وهي الأمَّة التي أجابت دعوة ا لحق ـ سبحانه وتعالى ـ ؛ فانتظمت في سلك الإسلام.

فكيف نكون نحن والنصارى ، أو غيرهم من ملل الكفر ونِحَل الضلال ، أمَّةً واحدة ؟    خصوصاً وأنَّ ظاهر الآيات تدلُّ على أنَّ المراد من ذكر الأمَّة فيها بأنَّها أمَّة الإجابة لا أمَّة الدعوة .
نعم ! لو أراد الشيخ الكريم القرضاوي وقصد بقوله (الأمَّة) أي الجماعة التي تعيش في مصر مثلاً كالأقباط النصارى والمسلمين باعتبارهم جميعاً يعيشون في ذلك البلد فإنَّه هذا المفهوم مقبول ـ وإن كان لا يدخل في قوله تعالى :(وإنَّ هذه أمَّتكم أمَّة واحد) ـ ، لأنَّ من معاني الأمَّة عند العرب :( الجماعة من الناس أو الطائفة ) كما في قوله ـ تعالى ـ :(ولمَّا ورد ماء مدين وجد عليه أمَّة من الناس يسقون) أي : جماعة ، وكذلك قوله تعالى :( كلَّما دخلت أمَّة لعنت أختها) يعني طائفة أو جماعة .( وانظر شرح ذلك في كتاب :(بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) للإمام الفيروز آبادي     ـ رحمه الله ـ .
ومن هنا فإنَّه يتبيَّن خطأ من قال عن المسلمين و النصارى بأنَّهم جميعاً أمَّة واحدة ، وخصوصاً أنَّ الآية التي يستدلُّون بها ، وهي قوله ـ تعالى ـ :( وإنَّ هذه أمَّتكم أمَّة واحدة وأنا ربُّكم فاتقون) إنَّما هي في الحقيقة حجَّةٌ عليهم لا لهم ، وهذا يسمَّى في علم أصول الفقه :(مصادرة) حيث إنَّ معنى الأمَّة في هذه الآية : الأمَّة التي تدين بدين الإسلام وليس المقصود بها الأمَّة التي تدين بدين النصارى ، وكلام المفسرين واضح في ذلك ؛ فإنَّهم ـ رحمهم الله ـ بيَّنوا أنَّ المقصد من قوله ـ تعالى ـ :( وإنَّ هذه أمَّتكم أمَّة واحدة) أي : الأمَّة المسلمة التي تدين بدين الإسلام.
فهذا الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ يقول في تفسيره :" قوله تعالى :( وإنَّ هذه أمَّتكم أمَّة واحدة) المعنى: هذا الذي تقدَّم ذكره هو دينكم وملَّتكم فالتزموه . والأمَّة هنا الدين ؛ وقد تقدَّم محامله؛ ومنه قوله ـ تعالى ـ :( إنَّا وجدنا آباءنا على أمَّة ) ( الزخرف : 22) أي : على دين . وقال النابغة :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة * وهل يَأْثَمنْ ذو أمَّة وهو طائع ؟"
 ( أحكام القرآن للقرطبي : 12/86).
وقال في تفسير الجلالين عند قوله ـ تعالى ـ :"(وإنَّ هذه) ملَّة الإسلام ( أمَّتكم) دينكم أيُّها المخاطبون ، أي : يجب أن تكونوا عليها".
وكذا فهم الإمام الشوكاني فقال :"والمعنى : أنَّ هذه ملَّتكم وشريعتكم أيها الرسل ملَّة واحدة ، وشريعة متحدة يجمعها أصل هو أعظم ما بعث الله به أنبياءه وأنزل فيه كتبه ، وهو دعاء جميع الأنبياء إلى عبادة الله وحده لا شريك له . وقيل : المعنى : إنَّ هذا الذي تقدَّم ذكره هو دينكم وملتكم فالزموه على أنَّ المراد بالأمَّة هنا : الدين كما في قوله      ـ تعالى ـ :( إنَّا وجدنا آباءنا على أمَّة) " فتح القدير(3: 483).
وهذا خلاف ما فسَّر به بعض المفكِّرين والمشايخ المعاصرين حيث قالوا بأنَّ المراد بالأمَّة الواحدة ( البشرية جمعاء) ، فلا ريب في خطأ هذا التفسير ، وحرفه عن المنهج الصحيح الذي أراده الله من هذه الآية.
وقد يستدلُّ بعضهم على ذلك بما جاء في وثيقة المدينة المنورة التي أبرمها رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في السنة الأولى من الهجرة بين المهاجرين والأنصار واليهود ؛ حيث نصَّت الوثيقة بأنَّ : (يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ؛ لليهود دينهم وللمسلمين دينهم).[2]
ولكنَّ هذا لا يعدُّ دليلاً لهم بل هو دليل عليهم كذلك ، لأنَّ الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال في بدء هذه الوثيقة : هذا كتاب من محمد النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم : أنَّهم أمَّة واحدة من دون الناس.
ولاحظْ قوله ـ عليه السلام ـ فإنَّه واضح بأنَّ هذا الكتاب بين المسلمين والمؤمنين ممَّن آمن من قريش وأهل المدينة ، أو من تبعهم من أهل الإيمان وجاهد معهم ، ثمَّ أمعن وأنعم النظر في قوله ـ عليه الصلاة والسلام : (أنَّهم أمَّة واحدة من دون الناس) ؛ فقد كان يتحدَّث عن المسلمين فقط ، وأكَّد ذلك واستثناهم باعتبارهم أمَّة واحدة ، فقال :( من دون الناس) أي : إنَّ الناس الآخرين الذين ليسوا على ملَّته ليسوا من هذه الأمَّة الإسلاميَّة.
والاتبِّاع هنا معناه : الدخول في سلك الإسلام والهداية كما قال ـ تعالى ـ : (واتبعت ملَّة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ) أي : وافقتهم على دين الإسلام.
ولهذا فحين انتهى ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ من ذكر العهد الوثائقي مع من أسلم من المهاجرين والأنصار وسمِّيت بعدها بـ( صحيفة المدينة أو وثيقة المدينة) فصَّل ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد ذلك العهد الذي بينه وبين اليهود الذين يقطنون المدينة المنوَّرة فقال :( وأنَّ يهود بني عوف أمَّة مع المؤمنين ...) ولاحظ قوله :(مع) فلم يقل (من) المؤمنين ؛ لأنَّهم أهل ذمَّة ؛ فما دام أنَّهم تحت حكم الإسلام ؛ فعليهم أن يكونوا مع المسلمين في حال اعتدى على هذه الدولة المسلمة عدو أو محتل.
ولهذا قال الإمام ابن زنجويه وقوله:" إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين" إنما أراد نصرهم المؤمنين، ومعاونتهم إياهم على عدوهم، بالنفقة التي شرطها عليهم ؛ فأما الدّين فليسوا منه بشيء، ألا تـراه قـد بيَّن ذلك فقال:"لليهود دينهـم وللمـؤمنين ديـنهم")[3].
وقد وردت العبارة في كتاب الأموال " أمة من المؤمنين " مما جعل أبا عبيـد يقـول:     "فإنما أراد نصرهم المؤمنين ومعاونتهم إياهم على عدوهم بالنفـقـة التي شرطها عليهم ؛ فأما الدين فليسوا منه في شيء ؛ ألا تراه قد بيَّن ذلك ؛ فقال : لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم"([4]) أما ابن إسحاق فقد قال: "مع المؤمنين" وهو أجود، ولعل ما في كتاب الأموال مصحّف ! ويبقى كلاماً متشابهاً فيُرْجعُ فيه إلى النصوص المحكمة، وخصوصاً أنَّ هذه الوثيقة نقلها الأكثر بلفظ :(مع المؤمنين) والله أعلم .
وخصوصاً إذا علمنا أنَّ كلَّ الآيات التي قالها ـ سبحانه وتعالى ـ كقوله ـ تعالى ـ:(وإنَّ هذه أمَّتكم أمَّة واحدة وأنا ربكم فاتقون) (المؤمنون: 52) ، وكذا قوله ـ تعالى ـ :(إنَّ هذه أمتكم أمَّة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (الأنبياء :92) وقوله :( كنتم خير أمَّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) وقوله :(وكذلك جعلناكم أمَّة وسطاً لتكونوا شهداء على النَّاس ويكون الرسول عليكم شهيداً) (البقرة : 143) فكلُّ الآيات تدلُّ على أنَّ الأمَّة المقصود بها هي الأمَّة المسلمة .
وقبل الختام : فإنَّ للدكتور يوسف القرضاوي ـ وفَّقه الله ـ جهوداً فكريَّة وعلميَّة ، وصولات وجولات مع العلمانيين والمنافقين ، وهذا أمر لا شك فيه ، وأسأل الله ـ تعالى ـ أن يأجره عليه بميزانه العادل ، إلاَّ أنَّ ديننا الكريم لا مجاملة فيه على حساب العقيدة ، وصدق الأستاذ سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ حين قال :"تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج "[5].
وليس مرادي ـ بإذن الله ـ من هذا التعقيب على كلام الشيخ القرضاوي إلاَّ النصح والتوضيح ، لا التشهير والتوبيخ ، فليس هذا من سمت طلاَّب العلم ، وقد قال رئيس جمعيَّة علماء المسلمين الجزائريين (الشيخ البشير الإبراهيمي ـ رحمه الله ـ) :( إذا لَزِمَ النقد فلا يكون الباعث عليه الحقد ، ولكن موجَّهاً إلى الآراء بالتمحيص ، لا إلى الأشخاص بالتنقيص).والله المستعان ، وعليه التكلان ، والحمد لله ربِّ العالمين.
 

---------------------------
[1] برنامج الشريعة والحياة في قناة الجزيرة ، حلقة بعنوان :( غير المسلمين في ظلِّ  الشريعة الإسلاميَّة) بتاريخ : 12/ 10/1997م.
[2] هذه المعاهدة ورد ذكرها في كتاب الأموال لأبي عبيد ص 292 – 295 ، والأموال لابن زنجويه 2 / 466 - 470 ، وسيرة ابن هشام 2 / 92 ، والروض الأنف 4 / 293 ، وقد قام بتحليل هذه المعاهدة أ. د. أكرم بن ضياء العمري .
[3] الأموال 2 / 472.
[4] أبو عبيد: الأموال ص 296.
[5] من فقه الدعوة ( موضوعات في الدعوة والحركة) لسيد قطب ـ رحمه الله ـ ، واختارها من الظِلال الأستاذ أحمد حسن.

نشر هذا المقال في موقع الألوكة على هذا الرابط:
http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=477

 

خباب الحمد