اطبع هذه الصفحة


خطأ في التدريس
حدِّثوا الطلاَّب بما يفهمون

خبَّاب بن مروان الحمد


"كنت ـ عافاكم الله ـ ممَّن ابتلي في درسه باستجلاب المسائل المختلفة الفنون وأتوكَّأ على أدنى مناسبة حتَّى أفضى الأمر إلى أن لا أتجاوز في الدرس شطر بيت من ألفيَّة ابن مالك مثلاً، ثمَّ أدركت أنَّها طريقة منحرفة المزاج عن الإنتاج".

كان هذا مقطعاً للشيخ محمد الخضر حسين* ؛ حيث كتب ذلك في مقالات رحلته الجزائريَّة[1]، ثمَّ أضاف الشيخ الإمام محمد الطاهر بن عاشور قائلاً:"وأنا أيضاً عرض لي مثل ذلك في تدريس المقدِّمة الآجروميَّة ؛ فكنت آتي في درسي بتحقيقات من شرح  الشاطبي على(الألفيَّة) ، وفي درس (مقدمة إيساغوجي) ـ كتاب من علم المنطق ـ فأجلب فيه مسائل من (النجاة)لابن سينا ثمَّ لم ألبث أن أقلعت عن ذلك"[2]

      وقد كان يتحدَّث عن أهميَّة التدرج في طرق طرح مسائل العلم والتعليم تجاه الطلاَّب، وهذا الأمر ـ وللأسف الشديد ـ يكاد يكون قليلاً جدَّاً في الأوساط العلميَّة التأصيليَّة  في هذا الزمن الحاضر؛ إذ إنَّ كثيراً من أهل المشيخة والعلم في بداية تصدُّرهم للتعليم يثقلون على مسامع طلاَّبهم من المسائل الكثيرة والعسيرة التي لا تدركها عقولهم وأحلامهم ، بل قد يضيعون بين ركام المسائل العلميَّة ، ولا يفقهون من الأمر إلاَّ نادراً !

وقد حصل هذا كثيراً معي في بعض الدروس التي حضرتها على مشايخي ـ حفظهم الله ورحم من مات منهم ـ فأذكر مرَّة أنَّ شيخاً قرأت عليه زاد المستقنع في الفقه الحنبلي وقال لي ولجمع من الطلاَّب: "سننهي هذا الكتاب ـ بإذن الله ـ تعالى ـ خلال سنة ونصف" بيد أنَّ الأمر حقيقة قد فرط ؛ فشيخنا كثير العلم وقد جمع الله له بين علم الفقه والحديث ، ولكنَّه جلس قرابة السنة وهو لم ينهِ شرحه لكتاب الطهارة ! حيث كان يفصِّل ويعلِّل ويدلِّل ، وفي مسألة واحدة جلس قرابة الساعة يشرح : هل يضع المصلي يديه قبل ركبتيه أو ركبتيه قبل يديه حين الهوي إلى السجود ، وذكر خلاف العلماء وآراء الفقهاء والخلاف الدائر في تصحيح الحديث الذي مدار المسألة تعود عليه ، وكان يسأل إخواني الزملاء من طلبة العلم: هل فهمتم؟ فيهزُّون رؤوسهم ويقولون : أي نعم ! وأنا أجزم أنَّ أكثر من كان حاضراً لم يفهموا ولم يفقهوا ما يقوله الشيخ! بل كانوا يقولون ذلك للشيخ على سبيل الاستحياء كما أفضى إليَّ أحدهم  بذلك !

ولو أنَّ طالب العلم في المرحلة المتوسِّطة أو المبتدئة أخذ كتاب (المغني)لابن قدامة الحنبلي، أو(المجموع) للنووي الشافعي ، أو (شرح السير الكبير) للسرخسي الحنفي ، أو شرح (مختصر خليل) لعلِّيش أو الدردير أو ابن حطَّاب المالكيَّة ؛ لو أخذ طالب مبتدئٌ في العلم أحد تلك الكتب ، ثمَّ طلب من الشيخ الفقيه المتخصص في أحد تلك المذاهب وطلب منه أن يقرأ عليه كتاباً من تلك الكتب، لَرَفَضَ الشيخ وقال : إنَّ هذا الكتاب من الكتب المتقدِّمة في الفقه ؛ فينبغي عليك أن تقتصر على المختصر ، ومن حفظ وأتقن الأصول نال الوصول .

وهذا جميل ! بيد أنَّ الواقع يخالفه في شروحات كثير من الفقهاء والعلماء ؛ حيث يطنبون في مفارق الخلاف ومفاصل الأقوال ، وقد يكون شرحهم أكثر تفصيلاً وتعليلاً وتدليلاً وتصحيحاً وتضعيفاً للأحاديث من الكتب المذكورة قبل قليل ؛ فيضيِّعون طالب العلم وهو لا يشعر مع أنَّهم يريدون تأصيله في العلم.
وهذا يكمن ـ في تفسيري ـ في سبب أرى أنَّه من الأسباب المهمَّة في سرِّ ضعف التأصيل العلمي لدى طلاَّب العلم ، حيث إنَّ الانهمار المعرفي ، والإمطار العلمي في عقول الطلاَّب ، قد يسبِّبان نُفْرَةً  أو اختلاطاً في المسائل والعلوم ، ممَّا يؤدِّي ـ غالباً ـ إلى  ضعفٍ في التلقي ، وقلَّة إدراك لمرمى تلك المسألة وعلَّة هاتيك القضيَّة العلميَّة ، ولهذا فمن الأهميَّة بمكان أن يعاد النظر في طرق التدريس ، ومهارات التعليم .

لقد ذكر الإمام البخاري في صحيحه ـ أنَّ من معاني العالم (الرباني):(هو الذي يربِّي الناس بصغار العلم قبل كباره)[3] ، وصدق من قال: (غذاء الكبار سم الصغار) أي: لو أن رضيعاً أعطيته قطعة من اللحم فإنه سيختنق بها وقد تؤدِّي إلى قتله، وكذلك المبتدئ في العلم لو أعطيته مسألة كبيرة وضخمة فإنها تؤذيه !
لقد استغربت كثيراً حين حدَّثني أحد من أعرفهم بالهمَّة في طلب العلم وقد قارب الخمسين سنة قائلاً لي : لقد مكثت عند شيخ من أشياخي يشرح لي أنا ومجموعة من طلبة العلم صحيح مسلم ، قرابة ثلاثين سنة .

نعم ! إنَّها همَّة محمودة وممدوحة من ذلك  الطالب الذي صبر طوال هذه المدَّة ، ولكن أليس هذا ـ أيها النجباء الفطناء ـ استهلاك لوقت طويل للغاية ، وكان بإمكان ذلك الشيخ أن يشرح صحيح مسلم ـ على أكثر تقدير ـ بخمس سنين ، وأن يقوم بشرح كتب أخرى في علم الحديث أو غيره ويفيد طلاَّب العلم ، بدلاً من تلك السنوات الطوال ! ومن كان من طلاَّبه ذا همَّة فسيرجع لأمَّهات[4] الكتب وشروحها ويقوم بجردها قراءة وفهماً ، أو على الأقل يبحث فيما أشكل عليه من مسائل متعلِّقة بشرح ذلك الكتاب !

ولهذا نلاحظ أنَّ الوجوه في تلك الدروس تتغيَّر ، وأناس تموت وأناس تحيا خلال ثلاثين سنة ، والعلم كثير والعمر قصير ، والمرء بحاجة لأن يُوَسِّعَ دوائر العلم والمعرفة لديه، ولا يقتصر في زمن معيَّن على بضعة كتب شرحاً وتفصيلاً وتدليلاً؛ وخصوصاً إن كان طالب العلم رجلاً مهتماً بالعلم ويأخذ من كل علم بطرف إلى جانب تخصُّضه.
 
* الأسباب القائدة إلى تلك المنهجيَّة :
حين أتأمَّل في تلك الطريقة والمنهجيَّة الطويلة والمغرقة في جزئيات دقيقة من مسائل العلم التي لا يحتاجها طالب علم مبتدئ أو متوسط في التحصيل ـ أجد أنَّ من أهمِّ أسباب تلك الطريقة وجود شريحة كبيرة ممَّن  يقومون بشرح العلم من المبتدئين في التعليم، أو لِنَقُلْ: المشايخ والعلماء الشباب ـ حفظهم الله ـ فيكثر العديد منهم من تلك المنهجيَّة ، وكان الأولى لهم  أن يقتصروا على ما يعقله طالب العلم أمامهم .
وقد نبَّه إلى هذا الشيخ الإمام محمد الطاهر بن عاشور فقال:"يعرض كثيراً لمن اتَّسعت معلوماتهم من المتصدِّرين للتدريس في مبدأ تصدُّرهم ؛ فيدفعهم حبُّ إظهار ما لهم من المزيَّة، ثمَّ لا يلبث أن يستيقظ من بهجته ويصير إلى وضع المقادير في نصابها"[5].

ومن الأسباب المهمَّة في ذلك ـ ولنكن صرحاء ـ أنَّ بعض أهل العلم الكرام ـ حفظهم الله ـ يقومون بالتحضير الجيد والنافع في شرح الكتاب المراد شرحه لطلاَّب العلم ، ويجمع قدراً كبيراً ، وكمَّاً هائلاً من مسائل العلم ، وحين شرح الكتاب يجد أنَّه يجب أن يقول كلَّ ما جمعه من مسائل العلم فيطول الشرح لذاك الكتاب ؛ لأنَّ الشيخ يجد حسرة حين يجمع تلك المعلومات ثمَّ يقول نصفها أو أقلَّ منها لطلاَّب العلم ، وكان في ـ تقديري الشخصي ـ أن يدوِّن هذه المسائل التي جمعها ، ويهتم بمراجعتها ، وحين سؤال أو استفسار أحد طلبة العلم عن مسألة لم يشرحها الشيخ يكون للشيخ جوابه الواضح والجميل على تلك المسألة ؛ لأنَّ تحضيره كان موسَّعاً لطلاَّب العلم ، وأذكر أن بعض شيوخي الكبار ـ جزاهم الله خيراً ـ كانوا يقولون لي : إنَّ هناك حلقات علميَّة تضطرنا اضطراراً لكي نحضِّر تحضيراً قوياً للمسائل العلميَّة لوجود طلاَّب علم نجباء قد يسألون عن مسألة مشكلة متعلِّقة بموضوع الدرس المشروح ، وهو ما يؤدي إلى أن نقلِّب صفحات الكتب التي تحدَّثت عن هذه المسائل ونحشد لها كمَّاً هائلاً من المعلومات ، حتى إذا سئلنا من قِبَلِ الطلاَّب كان لدينا الجواب  فكان طلاّبنا يحفِّزوننا لمراجعة كتب العلم لجديَّتهم.

* نماذج معاصرة حبَّذا لو يُستفاد من منهجيتها في التعليم :
لا أكتم القارئ سرَّاً أنِّي حين كنت أستمع لدروس بعض (كبار العلماء) أجد أنَّ توسعهم في مسائل الخلاف وتشقيقهم للقضايا الفقهيَّة ليس كثيراً ، وخذ مثلاً على ذلك بسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ـ عليه رحمة الله ـ فمن يستمع لشرحه منتقى الأخبار ، أو الفتوى الحمويَّة الكبرى ، أو غير ذلك ، يجد البساطة في الطرح والشرح ، والسلاسة في الأسلوب ، والبعد عن التقعُّر في الكلام ؛ ولهذا كان يأتيه المبتدئ والمتقدم في العلم ، وكلٌّ يستفيد منه ، مع أنَّه كانت لديه جلسات خاصَّة في المسائل المتقدِّمة الفقهيَّة كالتعليق والشرح على فتح الباري وغيرها من الكتب الضخمة الكبرى للخاصَّة من طلاَّبه؛ الذين أيقن مَكَنَتَهُمْ بالعلم ،وتقدمهم في الفهم .

ولنأخذ مثالاً آخر لعالم معاصر ، وهو بذاته ـ رحمه الله ـ منهجية علميَّة حبذا لو يستفيد منها طلاَّب العلم والمشايخ في شرحهم للكتب والمتون العلميَّة ، ذلكم هو الشيخ الفقيه محمد  بن صالح العثيمين ـ أجزل الله له المثوبة والأجر والرحمة ـ فقد كان أباً تربوياً لطلاَّبه ، وكان يعطي لكلِّ طالب ما يناسبه ، ويقسِّم حلقاته العلميَّة إلى ثلاث حلقات ، ولا يسمح لأيِّ طالب أن ينضم إلى الحلقة التي لا تناسبه ؛ فحلقة للمبتدئين في العلم ، وحلقة للمتوسطين ، وحلقة للمتقدمين ، ولهذا نجد أنَّ طلبة الشيخ من ناحية التأصيل نالوا حظَّاً جيداً وطيباً.

وكان ـ رحمه الله ـ يعطي لكلِّ طالب ما يناسبه من الشرح والتفصيل والتعليل ، وهذا سرُّ نجاح الشيخ في إنتاج جيل من طلبته مؤصَّل وواعٍ ، وبحق فقد كان الشيخ ـ رحمه الله ـ مدرسة تأصيليَّة معاصرة.
وقبل الختام  فتلك كلمة من طالب علم ، عانى في فترة ما معاناة جمهرة من طلاَّب العلم من تلقي الدروس على المشايخ بشكلها الطويل والمُمل، ويتمنَّى أن يكون لها تأثيرها وصداها بين مشايخنا وعلمائنا ـ بارك الله فيهم ـ لكي  تكون تلك الدروس ذات بُعد منهجي ، واستقراء واقعي للطلاَّب الذين بين أيديهم ، ليصل لهم العلم وهم يشعرون بمتعة وفائدة وفهم ، فهناك بعض الطلاَّب نَفَرَ ـ وأعرفهم شخصياً ـ لعسر المسائل الفقهيَّة التي كانت تلقى عليهم ، فشعروا أنَّ العلم صعب وعسير ، وهو ليس بذلك ، ولكن المنهجيَّة التدريسيَّة لبعض المشايخ والعلماء كانت عسيرة بحق ومنفِّرة لطالب علم أمرد صغير لم يفقه من العلم شيئاً؛ فينفر إلى غير رجعة من تلك المدارس والمجالس العلميَّة ، وقد يكون لهم عذر في ذلك وقد لا يكون كذلك ولكنَّه أمر واقع بين طلاَّب العلم.

وأخيراً :
ما أحلاها من كلمة للإمام الشافعي ! من الأفضل أن يتمثَّلها العلماء وطلبة العلم سوياً وهي :

(ازدحام العلم في السمع مضلّة للفهم).


--------------------------------
* أحد علماء تونس المعاصرين الكبار ، انتقل إلى مصر وأعطي جنسيتها وأسندت إليه إدارة الأزهر في بداية الخمسينيات ، وحينما تدخَّلت الحكومة في شؤون الأزهر شعر بالإهانة لعدم احترام حريَّة العلماء واحترام ذلك الصرح الكبير قدَّم استقالته ، رحمه الله رحمة واسعة.
[1] صفحة(300) من مجلَّة السعادة العظمى الصادرة بتونس عدد(19) المنشور في شوَّال سنة(1323هـ)، بواسطة : أليس الصبح بقريب ؟ للشيخ محمد الطاهر بن عاشور :صـ17.
[2] أليس الصبح بقريب ؟ للشيخ محمد الطاهر بن عاشور :صـ17.
[3] صحيح البخاري م1  ـ  ج1ـ صـ25 ، باب العلم قبل القول والعمل.
[4] يرى الإمام الفارسي أنَّه يقال لغير العاقل:(أمَّات) وأمَّا للعاقل فيقال:(أمَّهات) ، ويرى آخرون أنَّه يجوز أن يكون ذلك للجميع سواء كان عاقلاً  أو غير العاقل فيقال لهما(أمَّات) أو(أمَّهات) ، وعلى ذلك شواهد شعريَّة (انظر: لسان العرب: 1/217)
[5] أليس الصبح بقريب ؟ للشيخ محمد الطاهر بن عاشور :صـ17.
 

خباب الحمد