اطبع هذه الصفحة


احذروه فإنَّه خائن.. بل عميل!

خبَّاب بن مروان الحمد


الجماعات الإسلاميَّة جزء من المجتمعات الإسلاميَّة ، يعتريها بعض مظاهر الخلل والخلط والغلط بحكم البشريَّة التي لا تنفصم عن الخطأ، إلاَّ أنَّ هناك أموراً من المهم بمكان أن تكون على قمَّة الإحساس وتحري المسؤوليَّة ، وأن يتعامل المرء المسلم معها بالميزان القسط وبالعلم والعدل ، الذي ينبغي أن ينتهجه الإنسان الموصوف من عند الله تعالى بقوله:( إنَّه كان ظلوماً جهولاً).

ونقد تصرُّف جماعة ما ، دون أن يكون هناك تتبُّع لزلاَّتها لا يعني أبداً أن يكون الناقد لها حاقداً عليها، أو متحاملاً كما يظن بعضهم، فليس هذا من دين الحق، الذي أمر بالنصح للمسلمين ، وحب الخير لهم ، وقد قيل:صديقك من صَدَقَك لا من صدَّقك ، وكما جاء في الحديث: ( المؤمن مرآة أخيه) أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة ، وصحَّحه الألباني والصنعاني.

هناك مشكلة أجدها ـ وللأسف ـ تنتشر في أوساط بعض الحركات الإسلاميَّة؛ فحين يأتي أحدهم لمجالسة أحد المنتمين لجماعة أخرى لها جهودها العلميَّة والفكريَّة التي لا تنكر، يأتي آتٍ من جماعة إسلاميَّة أخرى ويقول لذلك المرء: إيَّاك أن تجالس هذا الشخص فإنَّه (عميل ـ خائن ـ جاسوس ـ مخابرات) إلى غير ذلك من التهم التي تحتاج لتوثيق وبيِّنة وبرهان!

وقد يُصاب هذا الشخص بنوع من الصدمة والوعكة النفسيَّة ، ويتساءل محتاراً: يالله كيف يكون هذا الشخص عميلاً وخائناً ، وقد حدَّثته بأحاديث ، وأفضيت له بأسرار، ويفتأ يعاتب نفسه ويحاسبها كيف تكلَّمت مع ذلك الرجل (العميل) !

وقد يقول : لقد وقعت في الفخ ! ووقعت في شباك ذلك الخائن ! كم أنا غبي حين وثقت بهذا أوذاك! ويبقى قائماً بعمليَّة(جلد الذات) وعتابها ، التي قد تنعكس عليه سلباً بل رفضاً للعمل الدعوي الذي توجد فيه مثل تلك المآخذ ، وهذا جزء من سلبيات تلك الدعاوى القائمة على الظن والافتراء !

وقد تملي عليه نفسه الحائرة حلاَّ تراه الأفضل في تجاوز تلك الأزمة؛ بأن يتنحَّى عن هذا الشخص (العميل) و(الخائن) و(المخابراتي) وأن يجانبه ويحاذره، ولعلَّ الحكمة تقضي عليه بأن لا يسلِّم على ذلك الرجل، قياساً على الداعي للبدعة وهجره في كلام أهل العلم ، وحتى لا يظن الظان بذلك المرء أنَّ له ارتباطات مع جهات مشبوهة.

ويأتي الأخ الذي قام بعض شباب تلك الجماعة بالتحذير منه إلى صاحبه من تلك الجماعة الذي دامت بينهما عشرة في العمر ، فيكفهر الصديق بوجه صاحبه المتَّهم بالعمالة!ويبقى ذلك المتَّهم يعيش في صدمة الاستغراب !

تلك مشكلة أيها الكرام لها وجودها في واقعنا الإسلامي ، وظاهرة التصنيف الظالم والتخوين والاتهام بالعمالة والخيانة، صارت مشكلة تتضاعف ظاهرتها من بعض المنتمين للجماعات الإسلاميَّة، الذين يستهينون في مدلولاتها ، وخطورة اتهام الشخص بتلك الأوصاف دون برهان أو دليل يوثق به.

سيقول قائل : وهل تنفي أن يكون بين الجماعات الإسلاميَّة خونة وعملاء لدهاقنة الشرق والغرب والطغاة ؟ فأجيب : لست أنكر ذلك ألبتة ، وكم قفز هؤلاء العملاء فوق رؤوسنا ، يوم كنَّا سذَّجاً وقاموا بثوراتهم ومخطَّطاتهم ونحن مبهورون من تلك التصرفات!

وأرجو ألاَّ يزايد المزايدون على كلامي ، فإنَّ الخونة والعملاء والجواسيس ، معروف خطرهم، ونحن مأمورون بالحذر منهم ، حتَّى لا يميلوا علينا ميلة واحدة !
لكنَّ الذي أقصده ذلك الوله العجيب من بعض الفئات (المتطرفة) من بعض المنتسبين للجماعات الإسلاميَّة ـ سدَّدها الله ـ حين يقوم أحدهم ، سواء أكان قائداً أو عضواً بإطلاق تلك الدعاوى التي لم تثبت على ذلك الرجل الذي وُصِمَ بتلك الشناعات ظلماً وعدوانا!

ثمَّ يسري الكلام كما تسري النار في حرق السعفة من النخل ، دون حجة أو برهان ، بل بالشبهة المحضة أو حتى الدعاية المغرضة ، بل ربما يكون الأمر خلافاً شخصياً ويتسامع أعضاء هذه الجماعة بأنَّ فلاناً من تلك الجماعة الأخرى ، أو ممَّن يجالس بعض شبابنا رجل (خائن وعميل) ، حتَّى تبدو التهمة على ذلك المسكين كأنَّها ثابتة، وإذا شكَّك أحد المشكِّكين في هذا الخبر،يعارضه المتحذلقون قائلين : ما من دخان إلاَّ وله نار ، والحيطة أولى ، والحذر متحتِّم ، والهجر أفضل وأسلم وأحكم!

ويذهب الدليل القاطع في إثبات تلك التهمة أدراج الرياح، بل قد يُشكَّك في ذلك الرجل المشكِّك في تلك الرواية (المكذوبة) التي تتحدث عن ذلك العميل وقد يلقى من بعض أصحابه تقريعاً وتوبيخاً ؛ إذ كيف تشكك في تلك الرواية التي لقيت قبولاً واسعاً !

إنَّ ظاهرة كهذه ـ وأقولها بكل أسف تحتاج لعلاج حاسم لقطع دابرها ، حفاظاً على أمانة الكلمة، ونصحاً للنفوس ، وتيقناً قبل بثِّ الخبر ونشره.

لقد جاء القرآن الكريم بآيتين عظيمتين جد عظيمتين، كثير من يحفظها ، وقليل من يطبقها :

(1) في قوله ـ تعالى ـ:(يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإٍ فتبيَّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين).وفي قراءة(فتثبَّتوا).
(2) وفي قوله ـ تعالى ـ:(إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم).

إنَّ آيتين عظيمتين كهاتين ، ينبغي أن نتخذهما قاعدة نلتئم عليها ،ونعضّ عليهما بالنواجذ ، ونتعامل على ضوئهما مع الأراجيف والأكاذيب والشبهات والشائعات ، وخصوصاً على عباد الله المؤمنين ، فما بالك بمن عداهم!

إنَّ اتهام أحد بوصف مشين ، وليس عليه بيِّنة أو دليل وبرهان ، داخل في الغيبة المحرَّمة، المعدودة عند أهل العلم من كبائر الذنوب، وقد أخرج الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ في صحيحه، من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنَّ رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قال:((أتدرون ما الغيبة؟)) قالوا : الله ورسوله أعلم، قال:((ذكرك أخاك بما يكره)) قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال:((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته)).

وإن من تصحيح المسيرة الدعويَّة للعاملين في الحقل الإسلامي أن يحاسبوا الكلمة التي تخرج من أفواههم، أو من ادِّعاءات بعضهم، وأن يعلموا أنَّه (ما يلفظ من قول إلاَّ لديه رقيب عتيد)، وأنَّ الله ـ تعالى ـ سيقف مع كل فرد يسأله ، وليس بينه وبينه ترجمان !

ومن المهم أن يكون لدى عقلاء الجماعات وحكمائها مساءلة لهؤلاء المذيعين لتلك الدعوى ، من أين أخذتم تلك الدعوى ؟ وما دليلكم القاطع عليها؟ وذلك لئلاَّ يكون هناك استهانة بقدر تلك الدعاوى وحرمتها عند الله تعالى ، والتي يكون غالبها ادعاءات تهدف في الغالب للإساءة والهدم ليس إلاَّ ، لمجرَّد المخالفة في الرأي !

كما ينبغي أن يعلم أنَّ هذا الاتهام المرسل من الدليل أو البرهان يتناقض مع مقتضيات الإخوة الإسلامية التي منها أن لا يظن المسلم بأخيه إلا خيرا ، وتتعارض كذلك مع القاعدة التى تنص على أن الأصل في المسلم براءة الذمة.

إنَّها مفاهيم بحاجة لأن تنتشر في أوساطنا نحن الإسلاميين والعاملين لهذا الدين ، وأن يكون لنا موقف تجاه ظاهرة التخوين للأشخاص ما لم يقم عليها دليل أو برهان ، يكون موقفنا الحسم تجاه من قال ذلك ، وتذكيره بالله تعالى ، ومطالبته بالحجَّة والدليل، أمَّا أن يُلقى الكلام على عواهنه ويطلقه جزافاً بلا قيد ولا خيط فإنَّ صاحبه متعرض لعقوبة الله تعالى.

نعم ! للفرد منَّا إن شعر من شخص معيَّن ريبة ـ وقد لا يكون كذلك ـ فإنَّ له أن يستيقن منه الخبر، وأن يصارحه؛ فإن شعر بغموض يتنافي مع الثوابت الإسلاميَّة؛ فللمرء أن يحتاط لنفسه ، مع أهميَّة استشعار القاعدة المعروفة عند أهل العلم بأن نعامل الناس بظواهرهم وندع سريرتهم إلى الله تعالى ، خصوصاً وأنَّ الموضوع قد يكون نتيجة سوء في علاقة شخصيَّة،أو يكون غلواً حزبياً وتعصباً مذموماً ،أو تناكراً في الأرواح وتقاربهما، وهذا قد يحصل بين القريب وقريبه، فليس ذلك أمراً مستنكراً، وقد قال ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ فيما روته عنه الصحابيَّة الجليلة عائشة ـ رضي الله عنها ـ:((الأرواح جنود مجنَّدة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)) أخرجه البخاري ومسلم.

ولو بحثنا في آثار تلك المشكلة على صفاء العلاقات بين المسلمين بعامة والجماعات الإسلامية بخاصة ؛ فسنجد ما يعكر الأجواء ، ويبث الشكوك والاتهامات المضادة أحيانا ، الأمر الذي قد يحول دون تضافر الجهود والتوحد حول الأهداف التي تشغل بال الجميع .

غير أنَّ الخطير أن تبني فوق تلك النظرة لذلك الرجل تصور معين ، أو من خلال نظرة وجدت لم يرتح قلبك له في تصرفها ، فحاولت أن تبني عليها قلاعاً من مفاهيم ومواقف، إلى أن يصل الأمر إلى الاتهام بالعمالة والخيانة لذلك الرجل لموقف رأيته قد لا ينمُّ عن حقيقة ما تقول،وحقاً إنَّها مشكلة تحتاج لتقوى الله فحسب ، وكفى بالله حسيباً ورقيبا !
(وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم)


ملاحظة
نشر هذا المقال في موقع الألوكة على هذا الرابط:
http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?CategoryID=65&ArticleID=986

 

خباب الحمد