اطبع هذه الصفحة


مبحث في حكم إعادة صلاة الظهر بعد أداء صلاة الجمعة

خبَّاب بن مروان الحمد
@khabbabalhamad


يقوم بعض الفضلاء في بلدانهم، بإعادة صلاة الظهر بعد أداء صلاة الجمعة، زيادة في الاحتياط، ويرون وجوب إعادتها لتعدد أداء صلاة الجمعة في البلد، فيكون تعددها عندهم مبطلاً للجمعة.

لهذا يوجبون بعد الانتهاء من صلاة الجمعة وجوب إعادة صلاة الظهر، أو أنَّهم يرون وجوب إعادتها لاختلال شرط من شروط أداء صلاة الجمعة.

ويحتجون بما ورد عن الشافعي رحمه الله أنه قال : ( لا تقام جمعتان في مصرٍ وإن كبُرَت) مع أنَّ الشافعية اختلفوا في تفسير هذه الكلمة فحمله بعضهم على الإطلاق مثل السبكي، وقال بعضهم مراده :إذا لم يكن مشقة ، وقال بعضهم: يجوز التعدد بقدر الحاجة .

من المعلوم أنّه حينما كبرت البلدان، وكثرت الناس، فإنَّه يستحيل أن يجمعهم مسجد واحد، وقد تحدث بعض العلماء عن أول مرة حصل فيها بناء مسجد جامع آخر يصلون فيه الجمعة غير المسجد الجامع الأصلي الذي يصلون فيه صلاة الجمعة.

يقول السبكي :
"وَبُنِيَتْ بَغْدَادُ وَحَدَثَ فِيهَا جَوَامِعُ أَوَّلًا جَامِعُ الْمَنْصُورِ ثُمَّ جَامِعُ الْمَهْدِيِّ ثُمَّ غَيْرُهُمَا ، وَكَانَتْ بَلْدَةً عَظِيمَةً فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا جُمُعَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ رَأَى بَغْدَادَ وَبَيْنَ جَامِعِيهَا نَهْرٌ فَرَأَى جَوَازَ جُمُعَتَيْنِ إمَّا لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ بَلَدَيْنِ فَالْجَانِبُ الشَّرْقِيُّ بَلَدٌ وَالْجَانِبُ الْغَرْبِيُّ بَلَدٌ وَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ وَلِهَذَا مَا كَانَ يُوضَعُ الْجِسْرُ الَّذِي عَلَى النَّهْرِ وَقْتَ الْجُمُعَةِ وَعَلَى هَذَا لَمْ يَقُلْ بِتَعَدُّدِ الْجُمُعَةِ فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ وَإِمَّا لِأَنَّ حَيْلُولَةَ النَّهْرِ فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ الْمُحْوِجِ إلَى السِّبَاحَةِ يَشُقُّ مَعَهُ حُضُورُ الْجُمُعَةِ مَعَ أَنَّ كُلَّ جَانِبٍ تُقَامُ فِيهِ الْحُدُودُ فَأَشْبَهَ الْجَانِبَانِ الْبَلَدَيْنِ وَإِنْ كَانَا بَلَدًا وَاحِدًا، وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ لَا يَقُولُ هَذَا فِي غَيْرِ بَغْدَادَ كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ غَيْرَهَا لَا يُشَارِكُهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى فَلَوْ وَجَدْنَا مَا يُشَارِكُهَا بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ .

وَرَأْيُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ يُرِيدُونَ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ مِنْ الشَّرْطِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ أَنَّ مَذْهَبَهُ هَذَا عِنْدَ الْحَاجَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ فَيَتَقَيَّدُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى إجَازَةِ تَعَدُّدِهَا مُطْلَقًا فِي كُلِّ الْمَسَاجِدِ فَتَصِيرُ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ حَتَّى لَا يَبْقَى لِلْجُمُعَةِ خُصُوصِيَّةٌ . فَإِنَّ هَذَا مَعْلُومٌ بُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ لِاسْتِمْرَارِ عَمَلِ النَّاسِ عَلَيْهِ مِنْ زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْيَوْمَ ، وَدَخَلَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَغْدَادَ وَهِيَ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ جَارٍ لِلْمَشَقَّةِ ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ : إنَّهُ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا تَعْرِيضًا وَتَصْرِيحًا".

والحقيقة أنَّ قول من يرى بجواز أو جوب إعادة صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة لتعدد المساجد في ذلك، قول ضعيف؛ فإن الله لم يفترض على عباده في كل يوم وليلة إلا خمس صلوات، وفي الصحيحين أن الأعرابي لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل علي غيرها؟، قال: (إلا أن تطوع شيئاً).

كما أنّ الناس عقب الانتهاء من الصلاة ينتشرون في الأرض لا أن يعيدوا الصلاة مرة أخرى كما قال تعالى:( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون).
وقد أنكر هذه الصلاة وعدَّها من البدع جماعة من أهل العلم منهم علاَّمة الشام جمال الدين القاسمي، فقال: وقد اتفق في عهد حسين باشا والي مصر المذاكرة لديه في بدعة الظهر جماعة بعد الجمعة فمنع أهل الأزهر منها ، نقله الشبراملسي في رسالته التي ألفها في سبب صلاة الظهر يومئذ فرحمه الله على منعه من هذه البدعة وأثابه خيراً ووفق من تنبه لمنعها بمنّه وكرمه ] إصلاح المساجد ص 45 - 46.
وكذا أنكرها الشيخ محمد رشيد رضا، فقال: "الذي أعتقده أن ما يفعله من يسمون أنفسهم شافعية من صلاة الجمعة في مساجد الأمصار ، وإتباعها فيها بصلاة الظهر يقيمونها جماعة بعدها زاعمين أن الله أوجب عليهم في هذا اليوم فريضتين في وقت واحد - هو بدعة".

وللشيخ مصطفى الغلاييني رسالة نافعة في هذه المسألة اسمها : "البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة" نُشِرَت في مجلة "المنار".

لكن لابّد من التنبيه على قضيّة وهي أنّ القصد من صلاة الجمعة اجتماع الناس؛ ولا ريب أنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - والصحابة والتابعين كانوا يصلون في موضع واحد لقصد اجتماع الأجساد والأرواح وتتلاقى فيما بينها فتتآلف، وحينما سئل الإمام أحمد عن تعدد الجمعة؟ قال: ما علمت أنه صلي في المسلمين أكثر من جمعة واحدة.

فهذا هو الأليق بالمساجد أن يجتمع فيها الناس؛ وأن تُخصّص مساجد كُبرى تجمع المسلمين ويُصلُّون فيها؛ حتّى لو أُغلقت بعض المساجد؛ لأنّ القصد من الجمعة اجتماع الناس؛ وبعض المساجد لا يكون فيها العدد الكامل بل قد تتقارب المساجد حتى يُمكن اجتماعهم في أكبر مسجد منها أو يوزّعون حسب قربهم من المساجد.

ويكون هذا إصلاح إداري تشغيلي للمساجد؛ لكي تكون فيها طبيعة الاجتماع الكامل؛ وبهذا يتحقق الاجتماع ويقلّ الخلاف بين الناس، وهو من أعظم مقاصد خدمة الناس في المساجد أن يكونوا من أهل الائتلاف لا من أهل الشقاق والخلاف..
والله تعالى أعلم.

 

خباب الحمد