اطبع هذه الصفحة


ارتباط مؤشر النصر والانتصار بمؤشر العمل الصالح

خالد بن عبدالله الغليقة

 
إذا أراد المسلمون الانتصار المذكور في قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
وأرادوا النصرة الواردة في قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
وإرادة الشعوب المسلمة الغلبة الواردة في قوله تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173].
فلينصروا أولاً من بشرهم بالنصر، ولينصروا من وعدهم بالانتصار، وهو الله سبحانه وتعالى، حيث ربط نصرتهم وانتصارهم بنصرتهم له وانتصارهم لدينه، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
وقال:{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].

بعد هذه المقدمة يحق لنا أن نسأل: هل من نصرة الله ارتكاب ما نهى عنه كشرب الخمر وفتح البارات؟
وهل من الانتصار لدين الله اللعب بالقمار المحرم الذي أمر الله باجتنابه حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
فقد علق سبحانه الفلاح المتضمن للانتصار والشامل للنصرة بالتوبة من هذه المحرمات، ولهذا قال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النــور: 31].
وبعد هذه المقدمة يجب علينا أن نتساءل: هل من الانتصار لله ترك الأمر بالمعروف، وعدم النهي عن المنكر؟ فقد قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
فقد وصف الله المجتمع الذي فيه هذه الأمة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر بالفلاح المتضمن للانتصار والشامل للنصرة.
وبعد هذه المقدمة يتحتم على كل عاقل أن يسأل:هل من الانتصار لله ولدينه أكل الحرام، وأكل أموال المسلمين بالباطل، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وقال يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك](1).
وبهذا يتبين لنا أن نصرة الله التي هي سبب نصرته للمسلمين تكمن في العمل الصالح، والانتصار لله ولدينه الذي هو سبيل نصرته للحكومة المسلمة، والجيش المسلم، والمجتمع المسلم يكمن في عدم ارتكاب المحرمات، وتجنب المنهيات كما قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 55].
فقد علق سبحانه وتعالى تحقق الاستخلاف في الأرض بالعمل الصالح، وجعل استبدال الخوف بالأمن في الأرض بالعمل الصالح، ومفهوم المخالفة لهذه الآية أن لا استخلاف في الأرض لحكومة أو جيش أو مجتمع تاركين العمل الصالح، وأن لا أمن ولا أمان لحكومة أو جيش أو مجتمع يرتكب المحرمات، ويمارس المنهيات.
وقال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحـج: 41].
فقد بين - سبحانه - أن التمكين لمن كان قصده إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإن من أعظم دعائم تمكين الحكومة أو الجيش أو الشعب في الأرض أن يكون الأمر بالمعروف غايةً لهم، والنهي عن المنكر أملاً لهم.
ويفهم من هذه الآية أن أي حكومة وأي جيش وأي شعب لا يقيم في حالة الحرب والخوف والاستنفار: الصلاة، ولا يؤدي الزكاة، ولا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر فمن باب أولى في حالة السلم والتمكين، فهذه الحكومة، وهذا الجيش، وذاك الشعب من أبعد الناس عن تمكين الله لهم على عدوهم، واستخلافهم في الأرض صعب جدًّا جدًّا.
وخلاصة هذا الأمر معادلة ليست كيميائية أو فيزيائية قابلة للنقاش وأدلتها ظنية، بل معادلة يقينية وأدلتها قطعية: القرآن والسنة.
وهذه المعادلة تقول: إذا قامت الحكومة بعمل الصالحات كقطع حبل السرقة، والرشوة، ومنع أكل أموال الناس بالباطل والنيل من الظالم.
وقام الجيش بمحاربة القمار، وقفل أبواب البارات، ومنع الفساد والسفور، والنهي عن الرذيلة، وقام المصلحون بإصلاح المجتمع ودعوتهم لمزاولة الأعمال الصالحة، وترك الأعمال الفاسدة؛ فبهذه الإجراءات ترتفع نسبة الصلاح على الفساد، ويزداد عدد الأعضاء الصالحين على الأفراد الفاسدين، ويكثر في المجتمع المعروف، ويقل المنكر.
فنتيجة ارتفاع مؤشر نسبة الصلاح الانتصار وانخفاض مؤشر الهزيمة والهلاك؛ وبرهان هذه المعادلة قوله صلى الله عليه وسلم لزينب بنت جحش عندما سألته: أنهلك يا رسول الله وفينا الصالحون؟
قال: [نعم، إذا كثر الخبث] (2)
فهذا البرهان القطعي يدل على أن الخبث إذا كثر في المجتمع كان سبباً للهلاك في الحرب السياسية والاقتصادية والحضارية.
والمقصود بكثرة الخبث:الأعمال الفاسدة من أعضاء المجتمع، والممارسات المحرمة من أفراده.
فكلما زاد في المجتمع عدد الأفراد الفاسدين تزداد حالات الخبث في المجتمع.
فتكون النتيجة (الهلاك)، كما قال صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلا وحي يوحى، وهذا الحديث أحد القوانين الإلهية التي لا يشك في صحة نتائجها إلا منافق.
ومما يبين أهمية تكثير عدد الأعضاء الصالحين، وزيادة العاملين بالصالحات، وأهمية تقليل عدد الممارسين للمحرمات والمزاولين للفساد في رفع مؤشر الانتصار والنجاة من الهزيمة وانخفاض مؤشر الهلاك والدمار: قانون إلهي آخر لا يستريب في صحة نتائجه إلا منافق، ونصه قال صلى الله عليه وسلم: [مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً](3).
فالقائم على حدود الله هو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والواقع في حدود الله هو مرتكب المعصية ومزاول الفساد، والمداهن هو تارك الإنكار على الواقع في حدود الله، والساكت على مزاولة الفساد فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا القانون الاجتماعي الأمني السياسي (أن ارتكاب الفساد من المفسدين، والسكوت عليه من المداهنين) من أسباب الهلاك، وأن الأمر بالمعروف ونهي المفسد عن الفساد من قبل الصالحين ومن لدن الناصحين من أسباب النجاة ومن أسباب إبعاد الهلاك عن المجتمع.
قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].
قد جعل - سبحانه وتعالى - من أسباب الهلاك الفسق، والفسق ليس شجراً ولا حجراً قائماً بنفسه، بل هو ممارسات وأعمال من قبل بعض أفراد المجتمع؛ فإذا كثروا زاد الفسق والخبث، فحلت الكارثة، وحل الهلاك، ونزل الدمار، وإذا قلوا نقص الفسق والخبث، فارتفعت العقوبة، وزال الخطر والهلاك والدمار.
وقد عبر الله - سبحانه وتعالى - عن هذه الممارسات المحرمة وعاقبتها في آية أخرى حيث قال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}   [القصص: 59].
وقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}  [النحل: 112].

فهذا يبين أهمية تكثير عدد الأعضاء الصالحين في المجتمع، وأهمية زيادة عدد الناصحين بين الناس، وعظم خدمتهم لمجتمعهم، فهم النجاة كما في هذه الآيات، وبهم ينجو المجتمع كما في هذه الأحاديث، ولهذا قال أحد العارفين بهذه المعادلة وعميق في فهمه لقوانين إقامة الدول، ولم يكن سطحيًّا في إدراكه لما يجلب الانتصار ويبعد الهزيمة حيث قال مخاطباً المسلمين في ذلهم وسيطرة الأعداء على أرضهم ومنادياً الساسة والمتصرفين والمهتمين باتخاذ وسيلة النصر واعتماد أعظم قانون للانتصار وهو تنشئة الفرد الصالح وإصلاح قلب العضو الفاسد قال: (أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم على أرضكم).

6/12/1421 هـ
  

----------------------------------------------
(1) أخرجه مسلم (1015)
(2) سبق تخريجه
(3) أخرجه البخاري (2686) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
 

خالد الغليقة
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية