اطبع هذه الصفحة


الشيخ ابن عثيمين دعامة من دعائم الاجتهاد الفقهي والاستقرار السياسي (1)

خالد بن عبدالله الغليقة

 
لا أعرف في هذا العصر ولا قبله من العصور شخصًا دعا له المسلمون باسمه في قنوتهم وأَمَّن بقية المسلمين على دعائهم إلا سماحة الشيخ محمد ابن صالح العثيمين، ولا أعرف في حياتي رجلاً يسافر إليه حكام هذه البلاد للاجتماع به والسلام عليه وسماع نصحه وإرشاده في بيت من الطين إلا الزاهد ابن عثيمين، ولم أر - حسب علمي - عالمًا من علماء الحنابلة خدم كتب المذهب الحنبلي من جهة تحرير مسائله وتحقيق مناطها والاستدلال لها والإيراد عليها واستنباط حكم النازلة منها إلا العلامة ابن عثيمين.

فسبب دعاء المسلمين له اعترافهم بفضله عليهم، فهو أحد الداعين إلى إقامة العدل بينهم، وسد منيع من آكل حقوقهم، وحاجز يردع عن ظلمهم . ولا غرو فهو أحد ورثة الأنبياء، ولا يمكن أن يصلح حال المسلمين خاصة وفي نظر العقلاء إلا بنبي أو ولي كما يقول مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون، وأولى الناس بوصف الولاية هم العلماء.

وسبب سفر الحكام إليه إدراكهم بأهميته،فلا يمكن أن يصلح حال الحكم السعودي - خاصة لأنها تطبق الشريعة الإسلامية - إلا بالتعاضد بين الحاكم والعالم كما دلت التجربة القوية على ذلك، وأقوى منها التاريخ الصميم حيث يبين أن الدولة السعودية من أولها إلى آخرها لم تقم إلا على التلاحم بين العالم والحاكم.
يقول الملك عبد العزيز في إحدى رسائله: "إلى من يراه من علماء المسلمين وإخوانهم المنتسبين؛ وفقنا الله وإياهم إلى ما يحبه ويرضاه آمين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد؛ هذا كتاب إخوانكم المشايخ تشرفون عليه والعمل - إن شاء الله - على ما فيه، ثم بعد ذلك ما هو نجا فيكم أولاً نشأة هذا الأمر وتقويمه أنه من الله ثم أسباب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأوائلنا - رحمهم الله تعالى -، وما جرى على المسلمين من اختلاف ولا يتهم مرارًا، وكلما اختلف الأمر وشارف الناس على نقض دين الله وإطفاء نوره أبى الله فأخرج من الحمولتين(2) من يقوم بذلك " (3).
وقال - رحمه الله - في رسالته لفيصل الدرويش: "..... لكن إذا أردت أن تعرف قلبي وقالبي وما أنا عليه وما أنا فاعله فمثل ما عرفتك سابقًا ولاحقًا فأنا خادم لأهل العلم، والله بحوله وقوته إن شاء الله لأمضي ما قالوا وأحب ما أحبوا، وأبغض من أبغضوا وأمضي أمرهم"(4).

وقال: - رحمه الله - في رسالته إلى فيحان بن صامل وكافة إخوانه وجماعته من أهل بيئته حضرًا وبدوًا: "... لذلك كلفنا الشيخ عبد العزيز ولو أن ذهابه عنا مشقة علينا وصعوبة عليه؛ لكن أجبرنا على ذلك محبة لسكونكم وراحتكم وتبينًا للجاهل وزيادة توضيح للعارف العاقل وحجة على مخالف الأمر، وإلزامنا على حضوره لحضور الشيخ عبدالرحمن بن داود والشيخ عبدالرحمن بن ناصر فيجب أن تجتمعوا - أعني أنت الأمير وجماعتك - وتبينوا جميع ما أشكل بينكم وتستفتوهم فيه. والآن اجتمعوا ولا بد - إن شاء الله - سألتموهم عن كل شيء وهم أمروكم ونهوكم، ونحن راضون ومقدموهم في جميع الأمور، ومعتمدون على الله ثم عليهم لوثوقنا بالله ثم بهم، فمن الآن وصاعدًا صار قدومهم حجة على جميع مخالف الأمر، سواء في أمر الدين أو في أمر الدنيا" (5).

ومما يبين أهميته لدى حكام هذه البلاد ويوضح كونه أحد دعائم الاستقرار السياسي قول الشيخ محمد - رحمه الله -: "الواجب على الحكومة في أي بلد من البلاد الإسلامية الرجوع إلى كتاب الله والسنة،وتوحيد الأحزاب السياسية على حزب واحد هو حزب الله المنفذ لشريعة الله، وهذا الحزب لن يضر بالأمة الإسلامية مثل ما يحصل من التعدد الحزبي، وقد أشار الله في القرآن الكريم أن التعدد الحزبي والتنازع هو سبب الفشل" فقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [الأنفال: 46].
وقال أيضًا: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].

وقال الشيخ في موضع آخر: " فليعلم أن الخروج على السلطة لا يجوز إلا بشروط بينها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبادة بن الصامت  رضي الله عنه  قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله" قال: "إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان" (6).

** الخروج على السلطة بشروط وهي:
- الشرط الأول:
أن تروا وأن تعلموا علمًا يقينًا بأن السلطة ارتكبت كفرًا.
- الشرط الثاني:
أن يكون الذي ارتكبته السلطة كفرًا، فأما الفسقُ فلا يجوز الخروج عليهم بسببه مهما عظم.
- الشرط الثالث:
بواحًا معلنًا صريحًا لا يحتمل التأويل.
- الشرط الرابع:
عندكم فيه من الله برهان، أي مبني على برهان قاطع من دلالة الكتاب والسنة أو إجماع الأمة. فهذه أربعة شروط .
- والشرط الخامس:
يؤخذ من الأصول العامة للدين الإسلامي، وهو قدرة هؤلاء المعارضين على إسقاط السلطة.

وقال أيضًا رحمه الله: (فالذي أرى ألا نتعجل في هذه الأمور، ولا نثير، ولا نُفَجِّرَ ثورةً شعبيةً غالبها غوغائية لا تثبت على شيء لو تأتي القوات إلى حي من الأحياء، وتقضي على بعضه لكان كل الآخرين يتراجعون عما هم عليه) اهـ كلامه - رحمه الله - .
فعلى هذه الأفكار قام الاستقرار السياسي في الدولة السعودية بأطوارها الثلاثة، وبهذه المبادئ أمنت الحكومة الثورات الغوغائية والتحركات الهمجية، وكانت أمانا للناس من أسطورة تسعة وتسعين في المائة، وتسعة من عشرة!!.
  وسبب تحريره - رحمه الله - مسائل المذهب وتحقيق مناطها والاستدلال لها والإيراد عليها، واستنباط حكم النازلة منها إدراك الشيخ بأن الله أمرنا بالاجتهاد، والله أعلم بما أمر، وهو أحكم الحاكمين، فليس للعالم إلا الاستجابة، وفعل ما أمر به، أما نتائج هذا الاجتهاد فالله هو الذي يقدرها، فليس للعالم أن يعترض على ذلك، ويقول بأن فتح باب الاجتهاد فتح باب الجرأة على كتب المتقدمين، وأنه يجب على طلبة العلم والناس أن يسيروا على مذهب واحد.
ومن الأسباب أيضا يقين الشيخ بأنه لو كان الاجتهاد مفسدته غلبت مصلحته لنهى الله عنه، ولدخل تحت قاعدة «درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة».
ومن الأسباب كذلك إيمان الشيخ بأنه لا يمكن أن يكون الفقه صالحًا لكل زمان ومكان، وأنه قادر على مواكبة الزمن ومسايرة الأحداث إلا بالاجتهاد، لا بالفقه المقنن القديم.

وهذا الفهم القوي من الشيخ للاجتهاد وهذه المعرفة العميقة منه لمراد الله بالتشريع، وذاك الإدراك الصحيح للقصد من الفقه، وما نتج عن هذا الإدراك، وذاك الفهم، وتلك المعرفة من تحرير المسائل وتحقيق مناطها، والاستدلال لها والإيراد عليها، واستنباط حكم النازلة منها جميعه آثار يقين الشيخ بمفعول التقوى في العلم، تحقيقًا لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة:282].
ونتاج إيمانه الشديد بمفعول التقوى في معرفة الصحيح من السقيم من الآراء والإفهام، تحقيقًا لقوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}  [المائدة: 100].

يقول الطاهر بن عاشور - رحمه الله -: " إن الله علق الفلاحَ بمعرفة الصحيح من السقيم وبالتمييز بين الحق والباطل، وبيّن أن الطريق إلى ذلك التقوى".

فالمسلمون لم يفقدوا جسدًا، بل فقدوا دعامةَ الاستقرار السياسي، ولم يفقدوا رجلاً عاديًّا بل فقدوا حلقةَ وصل بين الرئيس والمرؤوس، والمسلمون لم يفقدوا شخصًا على هامش الحياة، بل فقدوا حيوية الفقه، وفقدوا أعظم من ترجم قاعدة أن (الفقه الشرعي صالح لكل زمان ومكان) في العصر الحديث، ترجمة لا يستطيع صاحب الهوى الاستفادة من هذا المبدأ، إلا وهو قبل ذلك مقر بأنه مذنب على رأي الشيخ ابن عثيمين؛ وليس بمقدور من يريد أن يجعل هذه القاعدة سلمًا للإباحية، وطمس الحكم الشرعي الأصلي في عقول وقلوب المسلمين أن يسترشد بهذا المبدأ، إلا وهو قبل الاسترشاد عاص ورجل سوء بفتوى العلامة ابن عثيمين.

فالشيخ لم يجعل هذا المبدأ مطية لكل صاحب هوى، وسُلَّمًا لكل مفسد ومخرب، بل وضع قيودًا وضوابطَ تجعل الحكمَ الشرعيَّ هو الأصل في التحكيم والتطبيق، حتى يعجز المؤمن الصادق الذي بذل طاقته، وأفرغ جهده، وذوب الحظوظ الشخصية عن العمل به، فهنا تأتيه فتوى الشيخ محمد المرنة والمتمشية مع الواقع والرافعة للحرج والميسرة.


----------------------------------------------
(1) نشرت في صحيفة المدينة، بعد وفاة الشيخ.
(2) آل الشيخ، وآل سعود.
(3) كتاب «لسراة الليل هتف الصباح» عبدالعزيز التويجري(ص521).
(4) المصدر السابق (ص 402).
(5) كتاب «لسراة الليل هتف الصباح» (ص 164).
(6) أخرجه البخاري (7199، 7200)، ومسلم (1709).
 

خالد الغليقة
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية