اطبع هذه الصفحة


الشـيخ بكـر أبو زيـد وكتابه «حراسة الفضيلة»

خالد بن عبدالله الغليقة

 
من قرأ هذا الكتاب تبين له عمق فهم مؤلفه لمسار الفتوى في هذا العصر، واتضح له معرفة هذا الشيخ بحكمة الشرع، وغاية التشريع والمصلحة الشرعية، والكتاب برهان على أن الكاتب يجيد قراءة مستقبل الاختيارات الفقهية لبعض فقهاء العصر، وتفاعل المجتمع معها واستفادته منها، ومدرك لقضية مهمة جدًّا للفقيه، وأكثر أهمية للمفتي، وهي أن المجتمعات الإسلامية في هذا الزمن مهرولة تجاه مشابهة الشرق الوثني - رضي المفتي أم لم يرض!-، ومسايرة في تقليد الغرب النصراني - رغم أنف الفقيه ! - .
 ولهذا أخطأ خطأ كبيراً مَنْ طالب المؤلف بحكاية الخلاف الفقهي في جميع مسائل الكتاب، وأن ذلك من باب الأمانة العلمية في زعمه؛ لأن المؤلف لم يكتب كتابه لدراسة مسألة فقهية دراسة ترجيح بين الأدلة وذكر الشبه وتفنيدها من دون نظر إلى الواقع والمجتمع والزمن، ولم يرد دراسة فقهية بحتة من دون اعتبار بالحكمة والمصلحة.
فالمؤلف قصد في كتابه سرد بعض الفتاوى وبعض الاختيارات الفقهية التي قد تكون في نفسها راجحة، وفي كتب الخلاف والترجيح ودراسة المسائل مرجوحة، لكنها في هذا الزمن، أو في هذا المجتمع، وفي هذه الحالة من الهرولة إلى التشبه هي الفتوى الصحيحة الموافقة لحكمة التشريع والمطابقة للمصلحة، وهو القول الراجح الموافق لغاية الشارع من الشرع.
إنَّ المؤلف لم يقل: إنَّ حكم الشارع في جميع هذه القضايا هو هذا، ولم يدَّع بأن هذه الفتاوى التي تبناها في كتابه هي أصل الحكم الشرعي، بل إنَّ المؤلف أتى بالفتاوى الراجحة في هذا الزمان، ومع هذه المجتمعات وفي هذه الحالة التي يهرول فيها المسلمون تجاه التشبه بالغرب في سفوره، وتبرجه، وتفسخه، وإباحيته، وفي هذه الحالة التي يتنافس فيها أهل الإسلام لتقليد الشرق في الرذيلة والخنى.
 ففرقُُُُ ُ بين أن يدَّعي شخص أن هذا القول هو الأصل الشرعي، وبين أن يقول: الفتوى كذا، فليس كل اختيار فقهي يصلح أن يكون فتوى شرعية، وعدم فهم الفرق بين الحكم الشرعي الأصلي والفتوى الشرعية هو الذي أوقع بعض الناس في مطالبة المؤلف بذكر الخلاف الفقهي ودراسة المسألة دراسةً فقهيةً علميةً خاليةً من المؤثرات، كالنظر إلى الواقع والاعتبار بالزمن.

** الأمر الثالث :
إنَّ المؤلف قصد تبيين وتوضيح تجربة المجتمعات الإسلامية مع بعض الاختيارات الفقهية، ولا أقول:الفتاوى الشرعية ؛ لأن الفتوى يجب أن ينظر فيها إلى استفادة الناس منها، وهل هي طريق إلى فتح باب شر على الناس؟ أو هل هي بداية تحويل المجتمع إلى الفساد ؟أو هل هي فتح كوة في الباب ليسهل بعد ذلك كسره؟
فالفتوى يجب قبل إطلاقها قراءة مستقبلها، فقد تكون ذريعة لفساد المجتمع، وقد تكون درجة في سلم الرذيلة والسفور والتبرج، وقد تكون حبلاً نهايته إسقاط العفة!
فالذي أضرّ بالمجتمعات الإسلامية اختيارات فقهية من قبل مشايخ لم يفرقوا بين الحكم الشرعي والفتوى الشرعية.
فإذا أحدث الناس حدثاً،أو ابتلوا بتقليد، أو وقعوا في سفور أو تبرج وتساهل في الاختلاط بين الجنسين، جاء شيخ يسند هذه المظاهر من كتب الفقه، وقام فقيه يوجه هذه الممارسات من كتب الخلاف الفقهي، وظهرت أقوال فقهية يتذرع بها الناس.
فهذا التوجيه، وذاك السند، وتلك الذريعة خرجت من مشايخ أحسنوا الظن بالواقع، ولم يقرؤوا مستقبلَ المجتمع مع هذه الاختيارات الفقهية، وأحسنوا الظنَّ بتلك المظاهر وتلك الممارسات، فلا يتوقعون مؤامرة تدار ضد المجتمع محتاجة لرأيهم الفقهي ليكون ذريعةً لفساد عظيم، ولم يأت ببالهم أن هناك مكيدة تحبك بأيد خفية تفتقر لاختيارهم الفقهي ليكون غطاء ولباساً يخفي المكيدة.
وخرجت هذه الاختيارات الفقهية من مشايخ لم يحسوا بهرولة المجتمع المسلم تجاه السفور والتبرج الغربي، ولم يشعروا بركضة الشعب المسلم نحو الرذيلة والإباحية الشرقية، فكانت نهاية دور هؤلاء المشايخ باختياراتهم الفقهية تسريع الهرولة والمحافظة على الركضة وهم لا يشعرون!
 فكتاب الشيخ بكر يبين أن إحسان الظن من هؤلاء المشايخ بالمجتمع المهرول إلى تقليد الغرب في سفوره وتبرجه كان منهجاً خاطئاً. ويوضح أيضا أن الأخذ بظاهر هذه المظاهر، والنظر إلى القشرة السطحية من تلك الممارسات، وعدم الاقتناع بالمؤامرة الغربية، والغض عن المكيدة الشرقية في إفساد المجتمع المسلم، وتخريب الأسرة المسلمة كان أسلوباً غير شرعي، وطريقة مَنْ لا يعرف قاعدة من أكبر قواعد الشرع، والتي هي (سد الذرائع).

** الأمر الرابع :
يوضح كتاب «حراسة الفضيلة» أن عدم تفعيل قاعدة (سد الذرائع) في مجتمع يسعى جاهداً في مسايرة أوروبا، وعدم تفعيلها في شعب يغزى من قبل الغرب والشرق ليل نهار، وفي كل زاوية له مغزى ؛ كان سبباً في تحول هذه المجتمعات الإسلامية إلى الرذيلة، وإلى السفور، وإلى التبرج والإباحية والخنى.

** الأمر الخامس :
إنَّ المؤلف يريد أن يقول: إنَّ الحزم مع مثل هذه المجتمعات في مثل هذه الحالة - الركض والهرولة تجاه الغرب والشرق -، وفي هذا الزمن الذي يتعرض فيه المسلمون لغزو فكري غربي شرقي: هو المنهج الصحيح، كما هو موجود في بعض المجتمعات الإسلامية، كالبلاد السعودية.
 فالحزم وسوء الظن القائم على حديث: «لا يلدغ المؤمن من جحرواحد مرتين»(1). ولا يعارض هذا الحديث بهذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّاب ٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12] فليس في الآية دليل يحث على استمرار اللدغ، ولا يقول هذا عاقل، فالحزم وسوء الظن بالمظاهر المشبوهة، والممارسات المشتبه بها - خاصة في هذا الزمن وفي هذه الحالة - هو المنهج السليم والطريقة الصحيحة، وأهم من ذلك أن هذا هو الشرع وهو المصلحة الشرعية.

** الأمر السادس :
يوضح الكتاب خطأ وقع فيه بعض المفتين في فهم قاعدة أن (الأصل في الأشياء الإباحة)، ويبين غلط بعض فقهاء العصر في اعتمادها مطلقاً، ولو كان هذا الأمر المعني بالإباحة قامت التجربة المعاصرة على أنه سبب لفساد المجتمع الإسلامي، كقيادة المرأة للسيارة مثلاً، واعتمادها بإطلاق، ولو أن التجربة في هذا الزمن دلت على النهاية السيئة.
ومثال ذلك: اعتماد هذه القاعدة في السماح للاختلاط بين الجنسين في المراحل الأولى من التعليم، فالفهم الخاطئ لهذه القاعدة هو السبب في الاختلاط بين الجنسين في المراحل التالية التي هي مكمن الخطر وموطن الحظر، فهذه أمثلة على الفهم الخاطئ لهذه القاعدة، والغلط في الاعتماد عليها بإطلاق في الفتوى من دون اعتبار التجربة.
إنَّ الحكمة صفة من صفات الداعية إلى الله، فالحكمة مطلوبة في الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعليم، وتطبيق الشرع، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].
فمن الحكمة الاعتبار بالتجربة كما قال I: [لا حكيم إلا ذو تجربة] (2) والتجربة المعاصرة دلت على تقييد هذه القاعدة (الأصل في الأشياء الإباحة)، فهي مقيدة من جهتين شرعيتين: الأولى: النظر إلى المصلحة، والثانية: الاعتبار بالتجربة المعاصرة.

** الأمر السابع :
يريد المؤلف أن يقول: إنَّ من أسباب صدور هذه الاختيارات الفقهية - التي يمكن أن نسميها جرعة لتنشيط حركة سفور المرأة، ويجوز لنا أن نطلق عليها أنها مواد دخلت في تكوين هذا الوضع المزري للمجتمع المسلم بشكل عام،وللمرأة بشكل خاص، كالقول بجواز تمثيل المرأة مع الرجل وأمام الرجال - إنَّ من أسباب ذلك:الفهم الخاطئ لحديث «الدين يسر»(3) وحديث: «يسروا ولا تعسروا»(4) وقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}  [الحـج: 78].

فليس في كلام الله ولا حديث رسوله التيسير الذي يذهبون إليه، وحاشى لله ورسوله أن يفهم من كلامهما أن التيسير هو تيسير الانحراف في المجتمع، وتيسير الدعوة إلى الرذيلة بين المسلمين، وتيسير الاختلاط بين الجنسين، وتيسير الطريق أمام برنامج التغريب، ورفع الحرج عن دعاة تحرير المرأة لإفساد المرأة!! فليس في كلام الله ولا كلام رسوله الدعوة إلى الاختلاط باسم التيسير، وليس في نصوص الشارع الدعوة إلى الرذيلة تحت مسمى رفع الحرج، وليس في الآيات والأحاديث أن قفل باب سفور المرأة من العسر المنهي عنه، أو أن قطع حبل المؤامرة ضد المرأة المسلمة من التنفير عن الدين، أو من وضع الحرج في الدين، أو أن تحريم المباح الذي دلت التجربة على أنه درجة من درجات فساد المجتمع، وشهد الزمن على أنه بداية انتشار الرذيلة أن ذلك من العسر المنهي عنه، وليس في الآيات والأحاديث أن سوء الظن ببرامج قامت التجربة المعاصرة على أن غايتها نشر الدعارة، ونهايتها الخنى أن ذلك من العسر المنهي عنه، أو من التنفير من الدين، أو من الحرج المحرم، أو أن تفعيل قاعدة (سد الذرائع) في مجتمع يغزى في عقر داره من منظمات التنصير التي شهد العقل السليم لها بالنجاح في تحقيق أهدافها السيئة في المجتمعات المسلمة، وتفعيل هذه القاعدة أمام مشاريع وأطروحات الغزو الفكري المنظم والخفي في آن واحد، والتي شهد لها القلب الواعي والعقل السليم بالنجاح، وظهرت آثارها الوخيمة على دين المسلمين أن تفعيل هذه القاعدة من العسر المحرم، ومن التشديد المحظور، ومن التنفير المنهي عنه، ومن وضع الحرج المرفوع !
فلا يقول هذا شخص يفهم المقاصد الشرعية، ولا يتفوه بهذا شيخ يعرف الحكمة من الشرع أو يدرك روح التشريع.

** الأمر الثامن :
يوصي الكتاب المشايخ إلى إيقاف هرولة المجتمع نحو الغرب، وإيقاف ركضة المجتمع نحو الشرق، وشلّ حركة التغريب والغزو الفكري، وذلك بالفتاوى ولو كانت بالقول المرجوح، فالقول المرجوح هو الراجح ما دامت المصلحة فيه، وغايته قصد الشارع،وفيه روح التشريع وقائم على الحكمة المطلوبة في قولـه تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].
ويدعو المؤلف الفقهاء إلى كسر الدرجة الأولى من سلم الرذيلة قبل أن يركبه الناس، ووأد بذرة التبرج والسفور في تربتها قبل أن تنبت وتثمر، ويشتد عودها، ويمتد جذرها في الأرض فحينئذ يصعب خلعها، والوأد والكسر لا يتمان إلا بالفتوى المحرمة لما ظاهره الإباحة وباطنه بذرة الرذيلة، ويحث الكاتب على إساءة الظن بالمظاهر المشبوهة والممارسات المشتبه فيها، والتي دلت التجربة على أنَّ ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ويحث الكاتب المفتي على تقييد قاعدة (الأصل في الأشياء الإباحة) بالتجربة المعاصرة لبعض المباحات والتي كانت سبباً للمحرمات، ويحثهم على تحجيمها في هذا الزمن زمن هرولة المجتمعات المسلمة نحو تقليد الغرب، وركضتهم تجاه التشبه بالشرق.

وغاية كتاب  «حراسة الفضيلة» ونهاية قصد الشيخ بكر أبو زيد هو تفعيل مبدأ (سد الذرائع) في هذا العصر، والالتفات إلى تجربة علماء السعودية في تفعيل هذا المبدأ، ونتيجة هذا التفعيل الحسنة على المجتمع السعودي، والنظر إلى آثار هذا التفعيل من هؤلاء العلماء على الدين الإسلامي والأخلاق الإسلامية واللغة العربية.


----------------------------------------------
(1) أخرجه البخاري (6133) ومسلم (2998) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه أحمد في المسند (3/8)،و البخاري في الأدب المفرد (565)،والترمذي (2033) وقال الترمذي حسن غريب والحديث فيه دراج وهو ابن سمعان أبو السمح عن أبي الهيثم وهو ضعيف
(3) أخرجه البخاري (39)، ومسلم (2816) من حديث أبي هريرة.
(4) أخرجه البخاري (69)، ومسلم(1734) من حديث أنس.
 

خالد الغليقة
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية