اطبع هذه الصفحة


جناية نفاة المؤامرة والنظرة السطحية للسياسة الغربية على السياسة العربية والإسلامية

خالد بن عبدالله الغليقة

 
إلى متى تترك قضايا الأمة الإسلامية المصيرية القائمة على أمر أقر القرآن الكريم على حتميته، واعترفت السنة المشرفة بقطعيته؟ إلى متى تترك غائبة عن الطرح السياسي حتى يعترف بها من يسمون بالكُتَّاب السياسيين؟ وإلى متى تظل مغيبة عند تفسير وتحليل سياسات الأعداء حتى يقر بها من يدعون بالمفكرين السياسيين؟
مثال الأمر الحتمي والقطعي الغائب المغيب: حتمية مؤامرة اليهود والنصارى على الإسلام، وقطعية كراهيتهم لقوة المسلمين وعزتهم ونفوذهم كما قال تعالى:
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
وقولـه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].
وقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 89].

وسبب تغييب هؤلاء الكتاب، وأولئك المفكرين لهذه الحتمية، وتلك القطعية هو نظرتهم الظاهرية لعلمانية الغرب، وتحليلهم السطحي لكتابات الغربيين، وأخيراً اكتفاؤهم بالقشرة السطحية من كلمات ومحاضرات وندوات الغربيين.
صحيح أن قوانين الغرب تنص على فصل الدين عن السياسة، وبعض كتاباتهم وكلماتهم ومحاضراتهم تقول بوجوب الإخاء والمساواة والتعايش بين الشعوب، ومن الصحيح كذلك أن بعض منظمات الغرب تنص على ترك الشعوب بنفسها تحدد مصيرها، وتترك لتنال عزتها، وترفع الذل والظلم عنها، وتمنح حريتها السياسية والاقتصادية، فأخذ هؤلاء الكتاب وأولئك المفكرون السياسيون بالظاهر من هذه القوانين، واكتفوا بالقشرة السطحية من تلك الكتابات والكلمات والمحاضرات والندوات،فألغوا نظرية المؤامرة من طرحهم السياسي، وغيبوا الأمر الحتمي والقطعي في تحليلهم لسياسات الغرب.
فكانت النتيجة أن استُعمرت البلاد الإسلامية باسم دعوة إلى المحبة بين الإسلام والغرب، واحتلُت المقدسات الإسلامية بمثل هذه الدعوة، وأُكلت خيرات المسلمين تحت شعار نبذ الكراهية بين المسلمين والغربيين.

ومن العجيب أن بعضهم إلى يومنا هذا ما زال غائباً عن هذه المؤامرات والدسائس، وما زال متمسكاً بالظاهر، وبالقشرة السطحية، كصاحب كتاب «فلسفة الكراهية - دعوة إلى المحبة - »(1)، ذل المسلمون وظلموا وشتتوا تحت مظلة التعايش بين الحضارات والتآخي بين الملل والتساوي بين الأعراق والجنسيات.
فهذه جناية سطحية هؤلاء الكتاب السياسيين على الأمة الإسلامية، وهذه جريمة التفسير الظاهري لدى أولئك المفكرين السياسيين، وهذه جريرة إلغاء الأمر الحتمي - المؤامرة اليهودية النصرانية على الإسلام وأهله. التي دل عليها القرآن دلالة صريحة - في طرحهم السياسي، وهذه جريرة تغييب الأمر القطعي - كراهية اليهود والنصارى لقوة المسلمين وعزتهم ونفوذهم التي وضحها الوحي - في تحليلهم السياسي لسياسة الغرب ووعوده.
وبالمناسبة هناك سياسي فلسطيني أحسن التعبير عن هذه الوعود الغربية بعد خمسين سنة من حسن الظن، وبعد خمسين سنة من الأخذ بالقشرة السطحية من وعود الغربيين تجاه القضية الفلسطينية، فقد سأله أحد الصحفيين عن الوعد الأمريكي البريطاني بقيام دولة فلسطينية؟
فأجاب إجابة عميقة، وحلل تحليلاً عميقاً لا تنقصه الخبرة، وتؤيده التجربة،حيث قال: "لا أعرف وعداً غربيًّا نفذ إلا وعد بلفور".

 لكن بعد أحداث 11 سبتمبر وتداعياتها يحق لأصحاب التفسير العميق للسياسة الغربية، وأصحاب النظرة الواقعية كذلك ومن يملكون طرحاً سياسيًّا قائماً على أمور حتمية، ومبنيًّاعلى أساسات قطعية أن يفرحوا، ويزفوا البشرى للأمة الإسلامية بتكشف عورة الطرح السياسي القائم على نفي المؤامرة اليهودية على الإسلام والمسلمين، وبداية هزيمة التفسير والتحليل السياسي القائم على التمسك بالشعارات الغربية الظاهرية كالدعوة إلى المحبة بين الغرب والإسلام، ويهنئوا من يحملون هَمَّ الإسلام بهزيمة نفاة كراهية الغرب لنهضة وعزة وقوة المسلمين.
ومثال ذلك كتاب صدر بعد هذه الأحداث لأحد هؤلاء الكتاب السياسيين، ومن أصحاب التفسير الظاهري القائم على نفي المؤامرة، ونبذ الكراهية، فقد اعترف هذا الكاتب بخطئه في الماضي في الاعتماد على ظاهر الدستور الأمريكي في نصه على العلمانية، وفصل الدين عن السياسة، وأقر هذا الكاتب بأن هناك حقيقة لا يعرفها سوى الباحثين المتخصصين.
يقول الكاتب: "لابد من التسليم في البداية أن الولايات المتحدة دولة علمانية دستورها الفصل التام بين الدين والسياسة. ولابد من التسليم أن كثيراً من النخب الأمريكية المؤثرة أبعد ما تكون عن الدين والتدين. مع هاتين الحقيقتين اللتين نسمع عنهما كل يوم هناك حقيقة ثالثة لا يكاد يعرفها سوى الباحثين المتخصصين، وهي انتشار الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة على نحو لا مثيل له في أي مجتمع مسيحي آخر".
فقول هذا الكاتب عن الحقيقة الثالثة (لا يكاد يعرفها سوى الباحثين المتخصصين) دليل على أن القول بالحقيقتين السابقتين ليس هو قول الباحثين المتخصصين.
لم ولن يذكر الكاتب أن من هؤلاء الباحثين المتخصصين (علماء الشريعة)، مع أنهم أكثر من يقول بهذه الحقيقة ويفسر سياسة الغرب من خلالها، ويحلل تصرفاتهم منطلقاً منها، والسبب فيما يظهر لي أنه يصعب على النفس الاعتراف الكامل بالهزيمة الكاملة، وانتصار الآخرين الساحق.

لكن الذي يهمنا في ذلك موافقة الكاتب للحقائق ولو لم ينسبها، والأهم الاعتراف بالواقع والمشاهد ولو لم يَعْزُه.
ومن الأدلة التي ساقها الكاتب لإبطال الحقيقة الأولى والثانية، وإحقاق الثالثة قوله: " اشتهرت التسمية "بالمسيحيين المولودين من جديد" بعد الرئيس جيمي كارتر الذي كان أول رئيس أمريكي يعلن أنه (من المسيحيين المولودين من جديد)، وعن هؤلاء سيكون الحديث....تصل نسبة هؤلاء 41% من مجموع المسيحيين في الولايات المتحدة... ربما كان من دواعي سرور المسلمين - والمتدينين عموماً - أن يوجد هذا العدد من المتدينين في مجتمع منحل لو أن الأمر وقف عند الدين وحده، إلا أن الظاهرة تتجاوز الدين إلى السياسة فمعظم المسيحيين المولودين من جديد - وأنا استعمل كلمة "معظم"من باب الاحتراس - يشعرون بتعاطف قوي مع إسرائيل، مرجعه اعتقادهم أن الله في العهد القديم وعد اليهود بأرض فلسطين، كما وعد بمباركة الأمم التي تباركها (ولعن الأمم) التي تلعنها، كما أن هذه الطائفة تؤمن أن تجمع اليهود في فلسطين ضرورة لابد منها لكي يتحقق المجيء الثاني للمسيح.
ويعتقد باحث عربي معاصر - أولى الموضوع الكثير من الاهتمام - أن الجذور الحقيقية للصهيونية تنبع من الأصولية المسيحية الأمريكية، وأن الولايات المتحدة لا تعتبر إسرائيل مجرد حليف إستراتيجي، ولكنها تنظر إليها باعتبارها امتداداً حقيقيًّا - لا مجازياً - للأمة الأمريكية.
يقول الأستاذ شفيق مقار عن العلاقة الأمريكية/ الإسرائيلية: تلك العلاقة العضوية غائرة الجذور بين الأمة الأمريكية،التي اعتبرت نفسها واعتبرها قادتها وزعماؤها ومفكروها دائماً (إسرائيل هذا الزمان) وشعب الله المختار الجديد، واعتبرت غزوتها الاستيطانية التي أبيد في غمارها سكان القارة الأمريكية الأصليون لبناء أورشليم الجديدة على أرض العالم الجديد، وفكر قادتها قبل أن يتخذوا النسر شعاراً لهم أن يرسموا على علمهم القومي صورة موسى "على رأس بني إسرائيل في الطريق إلى الأرض الموعودة"، وبين الامتداد العضوي والتحقق الأقصى لتلك الأمة، أي إسرائيل.
ويضيف هذا الباحث: المشروع الاستيطاني لم يقتصر على المرحلة التمهيدية( فلسطين) بل شمل منذ البداية - وبتعاقد قانوني صريح بين الشعب المختار والإله - كل الأرض من النيل إلى الفرات. فهل يمكن أن نتصور أن تقوم الأمة الأمريكية - الأمة المتدينة الفتية التي تربت على تعاليم التوراة ورضعتها من الصغر - على تلك المعاصير المميتة فتنقض - لأجل خاطر الزعامة المصرية أو أي زعامة عربية موالية - ذلك الاتفاق الإلهي بين (مع) الشعب المختار الأصلي، أو تقدم على ما هو من شأنه أن يؤخر تنفيذه بإعادة ما أخذته إسرائيل من الأراضي المحتلة المتفق عليها مع الإله ذاته منذ قرون عديدة؟
ويمضي هذا الباحث متحدثاً عن القدس: يحسن أن نتوقف لحظة عند القدس أو أورشليم... فما أكثر من ظلوا يحلمون بإمكان استخلاص القدس من براثن إسرائيل عن طريق تسوية ما تعقد تحت جناح الأصدقاء الأمريكيين، ولكن أحداً - فيما يبدو - لم يفكر في الرجوع إلى الأصول الكهنوتية للمسألة،أو يخطر له التنقيب في تلك المنابع التي نتحدث عنها، ولو عني أحد بأن يكلف النفس تلك المشقة لتبين له بوضوح وجلاء واقع الموقف الصهيوني فيما يخص المدينة المقدسة التي انتزعت من كل البشر لا من الفلسطينيين وحدهم لتكون عاصمة لمملكة صهيون المسماة حتى الآن إسرائيل.
ولنصغ مثلاً إلى أشعياء: " استيقظي استيقظي، البسي عزك يا صهيون، البسي ثياب جمالك يا أورشليم، المدينة المقدسة ؛لأنه لا يعود يدخلك في ما بعد أغلف، ولا نجس، انتفضي من التراب، قومي اجلسي يا أورشليم، انحلي من ربط عنقك أيتها المسبية ابنة صهيون، فإنه هكذا قال الرب: (ولا يدخلك أغلف ولا نجس)، أي:لا يدنسك أممي من غير اليهود فيطأ ترابك بقدمه" (أشعياء 52/ 1 - 3).

ويعقب الباحث على تصريح للرئيس أنور السادات عن كارتر: «إن الثقة كاملة بيننا لأنه رجل متدين مثلي. ولذلك فإننا لن نختلف». فيقول: لو كان السادات عني بالنظر في تدين كارتر لتبين أن كارتر من شيعة تدعو نفسها (المسيحيون المولودون من جديد) Christians Born Again" وهي من شيعة ينبني إيمانها على مُسَلَّمة أساسية هي أن غرض الله لن يتحقق إلا إذا عاد اليهود إلى أرض الميعاد فلسطين، وأقاموا مملكة إسرائيل اليهودية الخالصة التي لا يشاركهم فيها أحد، أو يقيم على أرضها مواطن من مواطنيها سوى اليهود. انتهى كلام شفيق مقار.
حسناً ذهب جيمي كارتر بخيره وشره، ونحن نتعامل الآن مع جورج بوش الابن، أول رئيس بعد كارتر يعلن على الملأ أنه من "المسيحيين المولودين من جديد". ألمح بوش الابن خلال حملته الانتخابية أنه قرر ترشيح نفسه للرئاسة سنة 1999م، على أثر موعظة سمعها في الكنيسة، وكان موضوعها اختيار الله موسى لقيادة بني إسرائيل، إلا أن أصولية بوش الابن جرَّتْ عليه بعضَ المتاعب، في سنة 1993م أثناء الحملة الانتخابية لاختيار حاكم تكساس، قال المرشح بوش الابن لصحفي يهودي: إنه يعتقد أن جميع الذين لا يؤمنون بالمسيح - ويدخل ضمنهم اليهود - سيذهبون إلى جهنم، أثار التصريح ضجة في الصحافة اليهودية، ونشرته منافسته في الحملة الانتخابية آن ريتشاردز في عدد من الصحف اليهودية.
نام الموضوع، ثم ثار من جديد سنة 1998م قبيل زيارة كان بوش الابن - حاكم تكساس وقتها - ينوي القيام بها إلى إسرائيل، سأله الصحفي اليهودي نفسه عما سيقوله لليهود في إسرائيل، فردَّ بوش الابن ممازحاً: سأقول لهم: «اذهبوا إلى الجحيم»!.
فيما بعد اعتذر بوش الابن لليهود عن تصريحه القديم، وبدأ يقول في تصريحاته العلنية: إنَّ دخول الجنة من اختصاص الله، وليس حاكم تكساس.
وموقف الابن بوش الأصولي من اليهود ليس مستغرباً، وهو يعتقد أنه من لا يؤمن بالمسيح لن يدخل مملكة السماء (لأن هذا ما يقوله العهد الجديد)، وهو مؤمن أن من حق اليهود أن يملكوا فلسطين منحة إلهية (لأن هذا ما يقوله العهد القديم).

وهناك مفارقة لاحظها كثير من الذين عاشوا فترة في الولايات المتحدة: كثير من الذين يؤيدون إسرائيل بلا تحفظ لا يستلطفون اليهود كأفراد، ولنا أن نلحظ هنا أن الصحفي اليهودي الذي سأل بوش الابن عن رأيه في مصير اليهود في الآخرة لم يسأله عن رأيه في إسرائيل في هذه الحياة الدنيا، ربما لأن السائل والمسؤول يعرفان الإجابة. ا هـ(2).
بعد هذه الأدلة وهذا الاعتراف من هذا الكاتب، واعترافات غيره من المفكرين نطرح سؤالاً مهماً للغاية، واستفهاماً مصيرياً: هل من المعقول أن يترك المسلمون حلَّ قضاياهم المصيرية سنين من الشتات والذل من دون حلها حلاًّ مبنيًّا على الحقائق الحتمية،كقوله تعالى عن اليهود والنصارى:
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } [البقرة: 120]؟‍‍!

وهل من المعقول أن يتركوها إلى أن يقتنع هؤلاء الكتاب بواقعية هذه الحقائق وتراها أعينهم ؟!
وهل من الوعي السياسي أن يمتنع المسلمون سنين من الظلم والقهر من تبني سياسات قائمة على أساسات قطعية كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].
يمتنعون من تبني هذه السياسات حتى يعترف أولئك المفكرون بصدق هذه الأساسات وحقيقة تلك الأسس؟!
وللأهمية هذه السطحية وتلك الظاهرية عند هؤلاء الكتاب، وأولئك المفكرين والرجوع عنها بعد حين، والاقتناع بفشلها وسقوطها بعد زمن، والاعتراف بجدوى وواقعية الطرح الإسلامي، لكن بعد ماذا.... بعد سنوات من الشتات، وبعد سنين من ضياع الجهود وهدر طاقات الأمة، والنتيجة أن سيطر الأعداء على الأمة الإسلامية، واحتل الغاصبون أراضي المسلمين ليست هي أولى جنايتهم، بل سبق أن جنوا وجاروا، وسبق أن تبنوا جريرة مثلها، كتبنيهم مبدأ القومية العربية، وجنايتهم على سياسة الأمة بهذا المبدأ.

فبعد سنين من الجعجعة لم ير العرب طحناً، وبعد أن هدأ الغبار لم تر الأمة العربية فرساً، بل شاهدوا حماراً هزيلاً ومتعباً ومنهكاً، لكنه في الحال نفسه صبوراً على هؤلاء الكتاب وأولئك المفكرين الذين أثاروا الغبار في وجوه الناس، وجعجعوا مع زعماء القومية؛ وفي النهاية ذموها، واعترفوا بعدم جدواها وعدم فاعليتها في بناء أمة واحدة، ونهضة قوية، وحضارة فاعلة، وتبرؤوا منها ومن زعمائها لكن متى؟ وبعد ماذا؟
وسبب عدم جدوى هذا المبدأ، وعلة عدم صلاحيته أنه مبني على أساس هش لا يمكن بناء تجمع متماسك عليه.
وعلى أرضية لينة لا يمكن لأمة الوقوف والمشي فيها، أو عليها.
وسبب الهشاشة، وعلة الليونة مخالفتها لدستور هذه الأمة، فقد حرم هذا الدستور التجمع على أساس قومي أو عرقي، أو لغوي، وحذر من مغبة ذلك، وبيَّن أن نهايته الفشل، ونتيجته التنازع، وعاقبته الفرقة، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } [الممتحنة: 1].
فقد بيَّن الله أن نتيجة التجمع على أساس قومي على حساب الدين الإسلامي هو ضلال السبيل.
وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].
فقد بيَّن الله - سبحانه وتعالى - أن العرب كانوا متفرقين وأعداءً فاجتمعوا على مبدأ الدين، لا على مبدأ الجنس، والعرق، واللغة، وإنهم استبدلوا الشتات بالتجمع، والفرقة بالوحدة بعد أن اهتدوا، وآمنوا، واتقوا.
قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
فمن التنازع والفشل تفريق الأمة الإسلامية على أساس قومي وعرقي ولغوي.
بعد هذه السنوات العجاف من المخالفة الصريحة من قدماء القومية العربية لأهمِّ أساس يجمع المتشتت، ويوحد المتفرق، يعترف أولئك الكتاب بفشل تجربتهم في إيجاد وحدة متماسكة قوية سياسيًّا واقتصاديًّا، وتكشف كتاباتهم بعد ذلك مقاصد زعماء القومية الشخصية، وتكشف مزاعمهم ودعاويهم.
من ذلك مؤلف لأحد هؤلاء القوميين باللغة الإنجليزية(!؟) عنوانه «ينابيع الذاكرة».
قام قومي آخر بعمل عرض للكتاب والإشادة به في "صحيفة الشرق الأوسط"، وأشار إلى أفضل ما فيه،حيث قال: " لابد لي أن أبدأ بالزعم أن لي بعض الفضل في خروج هذا الكتاب بقلم الصديق الزميل عيسى القرق - سفير الإمارات في لندن - إلى الناس... قد لا يجد الكهول أمثالي في تجربة عيسى القومية/ الناصرية الجديد.
كنا جميعاً ذات يوم ذلك الرجل، وأصيب بعضنا - بعد زوال الوهج - بفقدان الذاكرة،إلا أن الشباب من القراء سوف يتذوقون نكهة التيار القومي العارم الذي كان يلف العالم العربي بأسره، حتى في منطقة الخليج،حيث كانت بريطانيا - أو الدولة البهية القيصرية الانكليس - تصول وتجول، وتحكم بأمرها، وبوحي مصالحها، على أن الكتاب إذا كان لا يضيف جديداً إلى معارف الكهول عن عبد الناصر وفترته، فإنه يروي واقعة غريبة جديدة تفتح المجال أمام أسئلة مثيرة تستحق بعض الاهتمام من المؤرخين.
يروي لنا عيسى أن عبد الناصر سأل حاكم دبي الشيخ راشد بن سعيد المكتوم - رحمهما الله - عند لقائهما في القاهرة سنة 1959م عن الإدارة الحكومية في دبي؟
ردَّ الشيخ راشد قائلاً بأن كل الخدمات الرئيسية تدار بمعرفة مسئولين بريطانيين. كان جواب عبد الناصر - كما يرويه عيسى - مفاجأة غريبة: " أشكرك لأنك أخبرتني الحقيقة".

لديَّ ملفات عن كل هؤلاء، عليك أن تحتفظ بالإنجليز على الدوام، بوسعك أن تستند على أكتافهم، وأن تستخدمهم في تعليم الأولاد والشباب الانضباط، أنا لست ضد الإنجليز، لا تستمع إلى ما يقوله صوت العرب".
يطرح هذا التعليق عدداً من الأسئلة: هل كان عبد الناصر يبحث عن قوم يمكنه «الاستناد على أكتافهم»؟
هل كان عبد الناصر يشعر أن عدم الانضباط مشكلة تهدد ثورته؟
وهل كان عبد الناصر نفسه يرفض تصديق صوت العرب؟
لا أعرف الجواب، وإن كنت أزعم أن «عدم الانضباط» كان عاملاً رئيساً من عوامل كارثة حزيران الأسود(3).
ونفس عارض الكتاب - وهو سفير لإحدى الدول الخليجية في بريطانيا - قال عندما افتتح مكتب المركز الإسلامي في لندن قال في كلمة الافتتاح: "... لا دعوة عصبية، ولا عرقية، ولا قومية قادرة على التجميع والوحدة، بل الدين الإسلامي السلفي وحده هو القادر على ذلك...".

يظهر هذا القول من قومي في الوقت الذي تعلن فيه نتائج انتخابات مجلس الشعب المصري، وليس فيه إلا عضو واحد من الحزب (الناصري) الحاكم السابق.
  فهذه اعترافات، وإقرارات بفشل ما تبنوه سابقاً، وما آمنوا به في الماضي،مع أن علماء الشريعة كانوا في بداية الأمر ينتقدون مبدأ القومية، وينبذونه كطرح سياسي بديلٍ عن الطرح الإسلامي، ولديهم يقين بعدم قدرته على التوحيد والوحدة.
وفي مقدمتهم الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - في بحثه الموسع "نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع".
فمن أبعد نظرة، وأعمق فكرة، وأفضل قراءة للمستقبل وأكثر اعتباراً بالتاريخ؟!
وأي الفريقين انخدع بالمظاهر، وجرى خلف السراب، واكتفى بالقشرة السطحية من دعاوى القوم الشخصية، وأخذ بالمظاهر تجاه مزاعم المدعين للقومية؟
ومن الذي مشى خلف مخطط غربي تدميري رسم له ليمشي خلفه، علماء الشريعة؟ أم الآخرون؟

والسؤال الأهم: هل يتعظ المسلمون باعترافات هؤلاء لاحقاً؟!
وهل يستفيد المسلمون من الدروس الماضية، ويعتبرون بالتجارب السابقة فيسقطوا دعاة الديمقراطية حاليًّا؟
أم ينتظرون سنين من الشتات، والضياع، والذل، والقهر، والظلم حتى يعترف دعاة الديمقراطية بفشلها، ويقرون بسقوطها، وعدم جدواها وفاعليتها، ويتفقون مع علماء الشرع بأن الديمقراطية ليست من شروط قوة الدولة المسلمة، وليست من عوامل نهضة المسلمين،وليست من دعائم الاستقرار السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي ؛لأنها قائمة على مخالفة القرآن ومعارضة السنة.


----------------------------------------------
(1) بعد كتابة هذا المقال بما يقارب السنة أعلن صاحب هذا الكتاب تراجعه عن نفي المؤامرة، ورجوعه يعتبر حدثا مهما لأنه صاحب أكبر كتاب ألف خصيصاً لنفي المؤامرة، فهذا يؤكد ما سنقوله، فقد نشر ملحق الرسالة التابع لصحيفة المدينة في تاريخ 18/1/1424هـ. تحت عنوان (ضرب العراق من أجل إسرائيل) قوله: (إنَّ ما تتذرع به الولايات المتحدة من حرب على النظام العراقي، كله غطاء للحقيقة وراء الحرب المعلنة، كما أرى أن ما يتناولـه الإعلام العربي وكذا الأجنبي على أنه أسباب أيضاً غير حقيقي، جازما أن السبب الحقيقي والجوهري وراء الغزو الأمريكي والاحتلال الذي كشر عن أنيابه إنما هو لأن "بالويالات المتحدة أكثر من (53) ألف أمريكي من طائفة نصرانية معينة ممن يرون أن الديانة المسيحية امتداد لليهودية، وأن المسيح لن ينزل إلا في ظل قيام دولة إسرائيل، ويرون أن حماية إسرائيل واجب مفروض، لافتاً أن ليس من المصادفة أن كافة رؤساء الولايات المتحدة من تلك الطائفة الكنسية ما عدا اثنين منهم، كنت أعد ذلك من قبيل نظرية المؤامرة التي أتقرب إلى الله بعداوتها حتى كشف تقرير بثته وكالة بي بي سي أون لاين تحدث فيه كاتبه جستين ويب عن التدين على الطريقة الأمريكية، حيث استهله بقوله "أنا وزوجتي لا نعتقد في وجود الله، وخلال إقامتنا السابقة في بروكسل وسط البلجيكيين المفترض أنهم من أتباع الكنيسة الكاثوليكية،لم يكن عدم الاعتقاد الديني يمثل لنا مشكلة، لكن في واشنطن، تترنم إدارة بوش بالصلوات دائما وتجمعات أداء الصلاة تعقد ليل نهار، ويمضي في اندهاش وسخرية معا، لقد جاء المستوطنون الأوائل إلى هنا ليمارسوا شعائرهم بالطريقة التي يودون، ومنذ ذلك الحين أصبح الترويج للمعتقدات الدينية، بوضوح وبصوت عالٍ جزءاً من لحم الحياة الأمريكية وشحمها، وتابع "جستين ويب" في سخرية متناهية: ولا شك أن الرئيس الأمريكي وشعبه كانوا يصلون بحرارة لكي تدهس حافلة صدام حسين، لكن إذا تعذر وجود حافلة فإنهم سيعتقدون أن لديهم الحق في فعل ما قرروه الآن فقط وليس قبلا يمكنني أن أقتنع بأن احتلال العراق، وما سيأتي من أجل عيون إسرائيل الكبرى... وربك من ورائهم محيط).
(2) كتاب «أمريكاو السعودية مواجهة إعلامية أم سياسية»(ص 107).
 (3) صحيفة "الشرق الأوسط) 18/11/1998م.
 

خالد الغليقة
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية