اطبع هذه الصفحة


صدق تنبؤات وتوقعات علماء الشريعة تجاه السياسة الغربية

خالد بن عبدالله الغليقة

 
في كتب علمائنا مقولة: (أثبت العرش ثم انقش)، فمن الخلل أن ينقش الناقش على عرش غير ثابت، وأكثر تخلفًا عقليًّا أن ينقش على الماء، ومن ثم يظن أنه ينقش شيئًا، فهو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً فإذا جاءه لم يجد شيئًا، فهذه حال المسلمين تجاه قضية فلسطين، والمحتل اليهودي الإسرائيلي، فعداء المسلمين مُنصبٌّ على اليهود فقط، وعلى إسرائيل وحدها، فهذا من الخلل في التفكير، ومن الجهل بالحقائق، وقراءة سطحية لتاريخ الدولة الصهيونية.

فإذا كان المسلمون لم يعرفوا عدوهم فكيف يواجهونه؟ وإذا لم يعرفوا في أي جهة هو فكيف يتصدون لضرباته العسكرية والسياسية والاقتصادية؟ وإذا لم يتعرفوا عليه فلا يمكن أن يضعوا التدابير للحماية والاحتماء من مكايده ودسائسه، ولا يمكن أن ينصبوا الأسوار للوقاية والتوقي من مؤامراته، وإذا جهل المسلمون عدوهم الحقيقي فقد يدعمونه، ويقوون سلاحه، واقتصاده، ويرممون بنيانه، وهذا هو حال المسلمين اليوم مع أمريكا، وقبلها بريطانيا، مع أن علماء الإسلام منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا 02/03/1423هـ وهم يحذَّرون المسلمين شعوبًا وحكومات من كيد النصارى، منطلقين من قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } [البقرة:120].
وينذرون المسلمين أفرادًا ودولاً من مؤامرات النصارى، منطلقين من قوله تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118].
وقوله تعالى: { وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].

هذه المقدمة تجرنا إلى سؤال ملح، واستفهام مصيري، ونقطة انطلاق في الاتجاه الصحيح، وخطوة في طريق الخروج من المأزق السياسي والاقتصادي، وحجر في بناء الكيان القوي، واسترداد الحقوق المسلوبة، يقول السؤال: هل صدق علماء الشرع في نظرتهم للنصارى تجاه قضية فلسطين المصحوبة بالإنذارات؟!

وهل كانت نتائج توقعاتهم صحيحة الملازمة للتحذيرات؟!
وهل كانت في محلها إزاء مؤامرة بريطانيا وبعدها أمريكا على العرب والمسلمين في بناء وطن قومي لليهود ؟
وهل تنبؤاتهم جاءت مطابقة للواقع ؟
الجواب: نعم، أصاب العلماء في تلك التحذيرات، وصدقوا في تلك الإنذارات، وكانت النتائج كما توقعوها، والعواقب كما تنبؤوا بها.

**  والدليل والبرهان على ذلك:
1- أن الدين في الولايات المتحدة الأمريكية في أكثر اعتباراته دين توراتي، وضعت شروحه في مواكب عبرانية، وأن الفرضية الأساسية للصهيونية المترسخة في النظرة الأصولية تقوم على قانون لاهوتي توراتي يتلخص في النقاط التالية:
 أ - كل مسيحي مخلص يجب أن يؤمن بالعودة الثانية للمسيح .
ب- أن قيام دولة إسرائيل واستيلاءها على القدس هي بشارة إلهية تشير إلى أن العودة الثانية للمسيح على وشك الحدوث.
جـ- وعلى ذلك فإن كل دعم مادي أو معنوي لإسرائيل ليس أمرًا اختياريًّا أو مبنيًّا على أسس إنسانية أو أخلاقية أو استراتيجية، وإنما هو قضاء إلهي؛ لأنه يؤيد ويسرع قدوم المسيح، وبالتالي فإن كل من يقف ضد إسرائيل هو ضد المسيحية، وضد الله بالذات(1).
2- منذ أن تبلورت حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر سادت عقيدة العودة الثانية للمسيح في الكنائس البروتستانتية، وصار الاعتقاد بأن عودة اليهود إلى فلسطين هي تحقيق للنبوءات التوراتية، وتمهيد للمجيء الثاني للمسيح عندما يقيم مملكته، ويتحول فيها كل اليهود إلى المسيحية(2).
3- أن مقولة: (أرض بغير شعب لشعب بلا أرض) هي مشروع مسيحي صهيوني قدم إلى مؤتمر لندن عام 1840م(3).
4- أن أول جماعة ضغط (Lobby) صهيونية قامت في الولايات المتحدة الأمريكية قد أسسها رجل دين بروتستانتي هو (بلاكستون) عام  1887م لصالح إقامة دولة يهودية في فلسطين(4).
5- أن قناعات لورد بلفور الدينية والمعتقدات للويد جورج رئيس الوزراء البريطاني، وتأثرهما بالفلسفة اليهودية وخلفيتها الفكرية المؤمنة بقصص العهد القديم وتفسيراته العبرية، كانت وراء بلورة مواقفهما السياسية تجاه المشروع الصهيوني السياسي، وصدور "وعد بلفور"، والذي كان أول اعتراف دولي بالصهيونية السياسية، وبمشروعها إقامة دولة لليهود في فلسطين(5).
6- أنه بتحليل النزعات الصهيونية وتأثيرها الثقافي والفكري في معتقدات البروتستانتية، توصلت الدراسة إلى أن هذا التأثير قد أدى إلى تهويد البروتستانتية مما كان له الأثر الكبير في الموقف السياسي لإنكلترا نحو تدعيم إقامة الدولة اليهودية، وعلى الموقف السياسي للولايات المتحدة الأمريكية نحو الالتزام بدعم الدولة اليهودية، وتأييد سياساتها الاستيطانية والتوسعية(6).
7- وصول الرئيس جيمي كارتر إلى البيت الأبيض رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، معلنًا عن ولادته من جديد مسيحيًّا ومؤمنًا بأن تأسيس إسرائيل هو تحقيق للنبوءات التوراتية، وأن العلاقات الخاصة مع إسرائيل تقع ضمن التراث الأخلاقي المشترك والمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية(7).
8- محاولة المسيحي الأصولي مايكل دوهاما من أستراليا حرق المسجد الأقصى عام 1969م تنفيذًا للاتجاهات المسيحية المؤمنة بوجوب المساعدة في استعجال عودة المسيح(8).
9- أن الرئيس الأمريكي جيفرسون قدم اقتراحًا يتعلق بالرمز الخاص بالولايات المتحدة الأمريكية ليكون على شكل أبناء إسرائيل، إذ تقودهم في النهار غيمة، وفي الليل عمودان من النار بدلاً من النسر(9).
10- في المؤتمر الذي عقده قادة الحركة المسيحية الأصولية في أغسطس 1985م في مدينة بال في سويسرا في القاعة نفسها التي عقد فيها أول مؤتمر صهيوني يهودي عام 1897م في مسألة تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي عن طريق مشروع يقضي باستبدال الأرض المحتلة في 1967م بالسلام، وعندما اعترض أحد الإسرائيليين المشاركين في المؤتمر على قرار بضم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى إسرائيل، مقترحًا تخفيفه بسبب استطلاعات الرأي في إسرائيل الذي يشير إلى أن ثلث الإسرائيليين يرغبون باستبدال الأرض بالسلام، أجابه المتحدث باسم السفارة المسيحية الدولية - القدس، وهو الهولندي المسيحي الأصولي "هوفين" قائلاً: "لا يهمنا تصويت الإسرائيليين، ما يهمنا هو ما يقوله الله، والله أعطى هذه الأرض لليهود ". عند ذلك تم التصويت على الاقتراح بالإجماع، وهذا أنموذج يبين تشدد وتطرف الحركة المسيحية الأصولية عن صهيونية قطاع غير قليل من يهود الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
11- أعلن الرئيس الحالي لأمريكا (جورج بوش الابن) على الملأ أنه من المسيحيين المولودين من جديد(10).
وكما تقدم هي شيعة يبنى إيمانها على مُسَلَّمة أساسية هي أن غرض الله لن يتحقق إلا إذا عاد اليهود إلى أرض الميعاد (فلسطين) وأقاموا فيها مملكة إسرائيل اليهودية الخالصة التي لا يشاركهم فيها ولا يقيم على أرضها كمواطن من مواطنيها سوى اليهود (11).
12- في عام 1850م قامت مستوطنة (جبل الأمل) غرب مدينة يافا قامت بتمويل الأثرياء المسيحيين، وكان إقبال المسيحيين على الاستيطان أشد من اليهود حرصًا منهم على انتظار عودة المسيح.
13- بعد عام من صدور «وعد بلفور» 1917م بعث الرئيس الأمريكي ودروولسون مذكرة إلى الحاخام ستيفن وايز يبلغه فيها موافقته وتأييده لوعد بلفور.
14- وفي عام 1922م أعلنت الولايات المتحدة رسميًّا موافقة الكونغرس ومجلس النواب على الوعد البريطاني المشؤوم.
15- أول شهادة دكتوراه منحتها جامعة هارفارد في عام 1642م كانت بعنوان «العبرية هي اللغة الأم»، كما أن أول كتاب صدر في أمريكا هو «سفر المزامير»، وأول مجلة صدرت كان اسمها «اليهودي»(12).
16- في حرب الخليج الرئيس بوش الأب كان دقيقا في تحديد الأسباب التي دعت إلى المغامرة بالجيش الأمريكي: إخراج الغزاة العراقيين من الكويت، حماية منابع البترول، والدفاع عن إسرائيل(13).
17- الكونغرس اليهودي الأمريكي يجد عادة أن أعضاءه من غير اليهود هم أكثر اندفاعًا وحماسًا من سواهم، إن موقف السناتور (هنري جاكسون) مثلاً غير اليهودي والملقب (باليهودي الأعلى) بسبب تأييده المتزمت والمتطرف جدًّا للقضايا الإسرائيلية(14).
فهذه أسطر من آلاف الأسطر، وتصريحات واضحة كالشمس من مئات التصريحات، واعترافات صريحة من العدو الرئيسي والمدبر الأساسي لأزمات المسلمين، فهل يعي المسلمون من غفلتهم؟ ويصحون من نومهم؟
ومن الخطأ والخطل والخطر أن نعتبر كل تحرك سياسي جديد يقظة، وأن كل أسلوب حديث في إدارة الأزمة وعيًا، بل للوعي واليقظة علامات، فعلامة صحة الوعي وصدق اليقظة أن يستفيد المسلمون من التجارب السابقة، وأن يتعظوا بالدروس الماضية.
فمن تلك التجارب ومن هاتيك الدروس الاعتراف بصدق توقعات علماء الشرع، وصحة تنبؤاتهم، وعمق نظرتهم تجاه الصراع الإسلامي اليهودي، ومعرفة أن علماءَ الشرع لم ينطلقوا من مبادئ افتراضية ومن أسس هشة محتملة، بل انطلقوا وأسسوا هذه التوقعات والتنبؤات من مبادئ حتمية، وعلى أساسيات، قطعية، فالأصل الذي بنوا عليه إلهي رباني أسسه خالق المسلمين والنصارى واليهود، فهو أعرف بمن خلق، فقد أخبر عن العلاقة بين هذه الأديان الثلاثة بقوله - سبحانه وتعالى -: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } [البقرة: 120].
وقال - سبحانه وتعالى - محذرًا من الأخذ بظاهر تصرفاتهم والانسياق خلف ظاهر ألفاظهم: { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118].

وبالمناسبة لما أعلن كارتر أنه (مسيحي مولود من جديد) أخذ بظاهر كلامه واحدٌ ممن يُسمَّون بالسياسيين، وممن لا ينطلقون في تحليلهم السياسي على مبادئ حتمية، وأسس قطعية في الصراع الإسلامي النصراني، وهو الرئيس السادات حيث قال معلقًا على إعلان كارتر: "إن الثقة كاملة بيننا ؛لأنه رجل متدين مثلي، لذلك فإننا لن نختلف", وأعلن كذلك بأن 99% من حل النزاع العربي - الإسرائيلي بشكل عادل ومنصف هو في يد أمريكا، في الجانب الآخر كتب الرئيس كارتر مناقضًا موقف السادات: "إنني كنت أشعر في بعض الأحيان أنه (أي السادات) يثق بي أكثر مما يجب"(15).
فهذا الرئيس الذي يثق به السادات، واغتر به كثير من الساسة، وكم من مفكر بنى تحليله على ظاهر كلامه!
سجل في عهده من عام 1976م حتى عام 1980م إنجازات كبيرة لمصلحة إسرائيل والحركة الصهيونية، وعبرت مواقفه عن إيمان لاهوتي بإسرائيل، وبالتزام بدعمها إلى الأبد، وقد عبرت الجماعة اليهودية الأمريكية عن سعادتها حينما أعلن الرئيس كارتر عن إدانته لمن يتهم بقتل المسيح بـ(اللاسامية)، وقال مدير الشؤون الدينية في المنظمة الصهيونية المسماة اللجنة اليهودية الأمريكية: "لأول مرة في تاريخ الرؤساء الأمريكيين، يصدر رئيس أمريكي إعلانًا مباشرًا عن قضية مجحفة ضد اليهود ولها جذور دينية تاريخية تقليدية".
كانت إنجازات عهد الرئيس كارتر لمصلحة إسرائيل كثيرة، وكان من أهمها دوره المباشر في اتفاقات كامب ديفيد الموقعة بين جمهورية مصر العربية وإسرائيل في 1978م، وتزويده إسرائيل بمساعدات عسكرية واقتصادية أكثر من أي رئيس أمريكي قبله، فقد تسلمت إسرائيل في عهده 10 مليارات دولار، وهي حوالي نصف ما تسلمته طوال تاريخها، وكان أول رئيس أمريكي يؤسس لجنة رئاسية لموضوع الهولوكوست، أو حرق اليهود في العهد النازي في عام 1978م، كما كان أول رئيس أمريكي يضغط باتجاه فرض قانون أمريكي لمناهضة أنظمة المقاطعة العربية لإسرائيل في عام 1977م، وذكر كارتر في بيانه الانتخابي أن (تأسيس إسرائيل المعاصرة هو تحقيق للنبوءة التوراتية) (16).
فهذا مثال على نظرة سياسي - السادات - وتحليل أحد الساسة لتصريحات حاقد على المسلمين وعلى الفلسطينيين وداعم قوي ومتعصب أعمى لإسرائيل بنظرة متفائلة جدًّا جدًّا وتحليل قائم على حسن الظن.

فإذا كان كارتر - على تصريحاته المنحازة جدًّا وتصرفاته القائمة على التعصب - بيده الحل العادل والمنصف كما قال السادات؛ فما بال رؤساء أمريكا الآخرين الذين أقل من كارتر حماسًا بخمسة بالمائة فقط وأقل منه تعصبًا بثلاثة بالمائة فقط، فماذا يكون نصيبهم من حسن الظن الساداتي؟ وعلى أي شكل سيكون التفاؤل والمحبة؟

لعل القارئ يسمح لي بالإجابة فأقول:
أقل أحوال كثير من المفكرين المشتغلين بالأمور السياسية، وكثير من زعماء المسلمين موقفهم من هؤلاء العشق والغرام، وما تقبيل أحد هؤلاء الزعماء لزوجات رؤساء أمريكا وبريطانيا وإسرائيل عنا ببعيد!
فإلى متى نبقى في التيه بعيدين عن التحليل السياسي القائم على مبادئ حتمية؟‍‍!
وإلى متى ننظر إلى التصرفات المنحازة ضدنا، والقائمة على التعصب الديني، وعلى الحقد والبغض العنصري من قبل الأعداء؟!
إلى متى ننظر إليها بعين الرضا وبعين الأخوة وبعين العطف، نظرة غير مبنية على العقل فضلاً أن تكون مبينة وقائمة على الشرع؟!
فهل ينسى السياسيون في هذا الزمن العصيب حظوظهم الشخصية ومناصبهم الدنيوية (التي لم ينازعهم فيها عالم شرعي)، ويأخذوا بتحليل علماء الشرع المبني على أساس قطعي وسياسي، والمبني على الاحتراز من هؤلاء النصارى، والقائم على الحذر منهم، منطلقين من قوله تعالى في وصف هؤلاء النصارى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاَّ وَلا ذِمَّةً} [التوبة: 10].
وهل يتناسى كثير من المفكرين والمثقفين الشهرة وطلب الجاه ويُذَوَّبون الحظوظ الشخصية والحظوظ الذاتية في المصلحة العامة وللنهوض بالأمة الإسلامية في هذا الوقت الخطير الذي تمر به؟ ويأخذوا بتفسير علماء الشرع في تفسير تصريحات وتصرفات هؤلاء النصارى من البريطانيين والأمريكان، فإن تفسيرهم قائم على مبدأ حتمي في الصراع والنزاع، منطلقين في ذلك من قوله تعالى: {لَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
وقوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
وقوله تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118].

والأخذ بتحليل علماء الشرع وتفسيراتهم علامة على الاستفادة من التجربة الماضية، وبرهان على الاتعاظ بالدرس السابق، والوصول إلى هذه المرحلة علامة على اليقظة من النوم العميق، وبرهان على الوعي من الغفلة وهذه اليقظة علامة على قدرة المسلمين على معرفة عدوهم الأساسي من الثانوي، وتمييز خصمهم الحقيقي من المزيف، والوقوف على المجرم وهو متلبس، واكتشاف الظالم الأب من الظالم الابن، فالكنيست الإسرائيلي أرحم بالفلسطينيين من الكونغرس الأمريكي، والصحافة الإسرائيلية أرحم بالفلسطينيين من الصحافة الأمريكية، ونعوم تشومسكي اليهودي أرحم من صامويل هنتغتون النصراني الأصولي بالمسلمين، وثلث الإسرائيليين في إسرائيل - من الذين نادوا وناشدوا من خلال وفدهم لمؤتمر الحركة المسيحية الأصولية المنعقد في بال سنة 1985م باستبدال الأرض المحتلة 1967م بالسلام - أرحم من قادة الحركة النصارى وعلى رأسهم المتحدث باسمهم (فان هوفين) الذي ردَّ على الوفد الإسرائيلي بقوله: "لا يهمنا تصويت الإسرائيليين، ما يهمنا هو ما يقوله الله ؛ والله أعطى هذه الأرض لليهود" - يقصد أرض فلسطين كلها - فهذا الرجل نصراني أصولي.
فمعرفة المسلمين للعدو الأساسي والخصم الحقيقي والمجرم وهو متلبس، والظالم الأب بعد ستين سنة تقريبًا من الجهل بالعدو الأساسي،وبعد ستين سنة من العمى عن رؤية الخصم الحقيقي يجب على الشعوب المسلمة ويتحتم عليها عدة أمور حتى لا تعيد الخطأ مرة أخرى، وحتى لا تقع في العمى مرة ثانية، بل في الجنون كما في المثـل الصيني (ارتكاب الخطأ مرة أخرى ضرب من الجنون).
فيجب عليها ويتحتم عليها أولاً الاعتراف بصدق توقعات وتنبؤات علماء الشرع تجاه الغرب وبخاصة أمريكا، وهذا الاعتراف انتصار لمبادئ القرآن تجاه هؤلاء النصارى، والانتصار لمبادئ القرآن انتصار لله، والانتصار لله طريق انتصار هذه الشعوب على أعدائها وفي حروبها السياسية والاقتصادية والعسكرية، ودليل ذلك قوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7].
وقوله تعالى: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحـج: 40].
وقال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [الروم: 47].
ولا يمكن أن يكون الشخص مؤمنًا أو الجماعة مؤمنةً وهي كافرة بوصف الله للنصارى ومكذبة لإخباره أو غير مقتنعة بها أو بمفعولها كما في الآيات السابقة، ولا غرو ولا عجب أن تصدق توقعات علماء الشرع وتصح تنبؤاتهم فقد قرنهم الله بنفسه في الدلالة على وحدانيته فقال تعالى: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [آل عمران: 18].
وأوحى إلى نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول: "العلماء ورثة الأنبياء"(17).

الأمر الآخر يقول عالم الاجتماع ابن خلدون - والمحتفى به غربيًّا والمشاد بكتبه في الجامعات الغربية -: "لا يُصلح حال العرب إلا ولي أو نبي ". وسبب ذلك صدق هذه الطبقة من المجتمع مع الناس، وعلة ذلك تذويب وتفويت مصالحهم الشخصية الخاصة في المصلحة العامة، ومطابقة أفعالهم ووعودهم لأقوالهم ودعاويهم.
فعلى الشعوب المسلمة السير خلف خطوات هذه الفئة في الخروج من المأزق السياسي، ورفع الأزمة الاقتصادية، ومشاريع الوحدة والتوحيد، فلهم تجربة في رفع الظلم عن الناس، والتاريخ يشهد لهم بالقدرة على ترجمة أفكار التوحيد والوحدة على أرض الواقع، ولهم سابقة في بعث النهضة وإيجاد القوة، والحق ما شهد به الأعداء .

يقول (ويندر) في كتابه "العربية السعودية في القرن التاسع عشر":"... ولا شك أنها - أي الوهابية - حققت فكرة ابن خلدون القائل إ ن العرب البدو يستطيعون أن يؤلفوا قوة لها شأن متى انقادوا إلى الدين) ا هـ (18).
ومستحيل معرفة الدين الصحيح إلا عن طريق العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، كما في الحديث الصحيح: (العلماء ورثة الأنبياء)(19).
ويقول المؤرخ الألماني (دالبرت) في كتابه «عبد العزيز»، - وقد صدر في ألمانيا سنة 1953م -: " وكان لآل سعود إلى جانب سيفهم الذي يستخدمونه في الفتح سلاح معنوي آخر أمدهم بأعظم قسط من نجاحهم، ذلك السلاح من صنع الشيخ محمد بن عبدالوهاب) (20).
الأمر الثالث: على جمهور المسلمين معرفة واعتقاد وإيمان بحتمية وقطعية شرط النهضة القوي، وسبب القوة الرئيسي، وهو (التغيير من النفس والتفكير)، استجابةً لقول الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد: 11].

وأكبر تغيير للنفس وأعظم تغيير للفكر هو تغيير نظرة المسلمين تجاه من لا يملك شرط النهضة المجربة إلى من يملكها، وتحويل وجهة قصدهم ممن ليس لديه أسباب القوة الحقيقية إلى مَنْ بيده تلك الأسباب، وتوجيه سيرهم خلف خطوات وأفكار تصب في شهوات ولذائذ ومآرب ذاتية وشخصية لآخرين إلى السير والمشي خلف خطوات وأفكار نهايتها تحقيق العزة والكرامة والنهضة والقوة لجميع المسلمين، فالعلماء من أبعد الناس عن الشهوات واللذائذ الدنيوية والمآرب الشخصية، ولهذا قرنهم الله بنفسه في الشهادة على ألوهيته حيث قال: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [آل عمران: 18]. وشهد لهم التاريخ وشهدت لهم التجربة السابقة، فهل نترك التاريخ يعيد نفسه؟ وهل نفسح المجال للتجربة لتتكرر؟!

 
----------------------------------------------
(1) " البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني" «دراسة في الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية - رسالة دكتوراه للدكتور يوسف الحسن - الناشر مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الأولى سنة 1990م».
(2) «البعد الديني» (ص 186).
(3) «البعد الديني» (ص 187).
(4) «البعد الديني» (ص 187).
(5) «البعد الديني» (ص 187).
(6) «البعد الديني» (ص 187).
(7) «البعد الديني» (ص 190).
(8) «البعد الديني» (ص 193).
(9) «البعد الديني» (ص 188).
(10) كتاب «أمريكا والسعودية - مواجهة إعلامية أم مواجهة سياسية» - الدكتور غازي القصيبي (ص 112).
(11) "قتل مصر من عبد الناصر للسادات "شفيق مقار بواسطة كتاب «أمريكا والسعودية» (ص 112).
(12) "البعد الديني ".
(13) كتاب «هل يمكن الاحتكام إلى الولايات المتحدة في النزاع العربي الإسرائيلي» للدكتور/ نديم البيطار (ص 20).
(14) المصدر السابق (ص 45).
(15) كتاب «هل يمكن الاحتكام إلى الولايات المتحدة في النزاع العربي الإسرائيلي» للدكتور/ نديم البيطار (ص 11).
(16) المصدر السابق.
(17) أخرجه الترمذي (2682) من رواية أبي الدرداء.
(18) كتاب «الشيخ محمد بن عبدالوهاب في مرآة علماء الشرق والغرب» لمحمد مهدي الإستانبولي (ص 125).
(19) تقدم تخريجه قريبا
(20) نفس المصدر السابق (ص 125)
 

خالد الغليقة
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية