اطبع هذه الصفحة


أين تكمن العزة والسيادة ؟!

خالد بن عبدالله الغليقة

 
على السعودية والسعوديين أن يعرفوا أن العزة والسيادة ليس بتملك القنبلة النووية – مع أنها مهمة - ؛ وعليهم أن يتعرفوا على الحكمة التي تقول : ليست العزة والسيادة بعدد سكان يبلغون ستين أو سبعين مليون نسمة ، وليست كذلك بجيش يُعد رابع أو خامس جيش في العالم ، وعليهم أن يفهموا كثيرًا مقولة : إن العزة والسيادة ليست بالعنتريات الإعلامية , ولا بكمية البترول في باطن الأرض ، ولا بعدد الأحزاب السياسية والديمقراطية , ولا بالدعوة لحقوق الإنسان والحريات غير المقيدة .

فلو كانت العزة والسيادة بذلك لسادت واعتزت إحدى الدول الإسلامية التي تملك القنبلة النووية ، لكنها لم تستطع أن تمنع طائرات أمريكية دخلت أراضيها , فقصفت عرساً وقتلت سبعة عشر شخصاً , ومازالت أجواؤها مخترقة !!
ولو كانت العزة والسيادة بتملك قنبلة نووية لما سافر بسرعة البرق رئيسها إلى جدة لمقابلة الملك عبد الله طالباً منه أن يوقف تهديد أمريكا له, وتدخلها في شؤونه الداخلية .
ولو كانت العزة والسيادة بالقيام بتخصيب اليورانيوم كما لدى إحدى الدول ؛ لما استطاعت أمريكا فرض حصار اقتصادي , ومقاطعة اقتصادية عليها , تبعها فيه غالب الدول الصناعية .
وهناك دولة عربية كانت تملك مفاعلاً نوويًا آخر يسمى (14تموز) ، فلو كانت السيادة والعزة به لما دخلت أجواءه الطائرات الإسرائيلية , وقصفت المفاعل حتى سوته بالأرض , وعادت إلى قواعدها سالمة !!!
وأيضا لو كانت العزة والسيادة بعدد السكان ـ ستين أو سبعين مليون نسمة ـ كما في إحدى الدول ؛ لما تجرأت بارجة أمريكية في الخليج العربي بإطلاق صاروخ على طائرة ( مدنية ) تابعة لتلك الدولة , فقتلت (290) شخصاً ، فكانت رسالة واضحة لزعيمها بأن يوقف الحرب , ويعلن  الهزيمة .
ومثلها إحدى الدول العربية ذات الكثافة السكانية العالية ؛  فلو كانت العزة والسيادة في عدد سكانها الذين يبلغون عشرات الملايين ؛ لما تمشى السفير الأمريكي فيها حاضراً ومحاضراً ومناظراً في انتهاكات حقوق الإنسان فيها , وداعياً لمزيد من الحقوق السياسية للأقليات الدينية والتيارات الفكرية ، ولمَا شوهد بكثرة في الموالد والمناسبات السنوية التي تُعقد هنا وهناك ولما صرحت حكومته بدعم "مركز ابن خلدون" مالياً ومعنوياً وهو المناهض بدوره لسيادة تلك الدولة ، واللعب على هذه الأوتار هو بمثابة اللعب بالنار كما يقال , ولكن نقص العزة والسيادة كان السبب ، ولو كانت العزة والسيادة في كون جيش الدولة هو رابع جيش في العالم , ولديه خبرة طويلة في القتال لما حوصرت الدولة والشعب ما يقارب اثنتي عشرة سنة !! ثم بعد ذلك اُغتصبت الأرض كلها وشعبها وحضارتها وتراثها , وصارت محطًا لكل من هب ودب من أشرار الخلق ، فذهبت الدولة , وجيشها صاحب أسطورة رابع جيش في العالم , وذهبت خبرته معه ، وبعد ذلك بقليل ذهب قائده الأسطورة نفسه .
ولو كانت العزة والسيادة بالعنتريات الإعلامية التي أحسن نزار قباني في وصفها بقوله : ( ... إن كنا قد خسرنا الحرب مرتين فلا غضاضة ـ لأننا ندخلها بكل ما يملكه الشرقي من أنواع الخطابة ـ ندخلها بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة ... ) .

لو كانت العزة والسيادة بتلك العنتريات الإعلامية كما يظهر ذلك في خطاب إحدى الدول العربية ؛ لما تجرأت الطائرات الإسرائيلية بدخول أجوائها ، فمرة قصفت محطة كهرباء ، ومرة قصفت ـ على حسب زعمها ـ معمل أسلحة وتدريب تابع لفلسطينيين ، وأخيراً قامت الطائرات الإسرائيلية بنزهة فوق القصر الرئاسي!! 
فلو كان سب الأعداء وشتمهم والصراخ في الإعلام يجلب العزة والسيادة لما احُتلت أفضل منطقة سياحية وأثرية فيها من قبل إسرائيل ، ولو كانت هذه العنتريات تجلب العزة والسيادة ؛ لما استطاع المحقق الدولي في قضية اغتيال الحريري نقض سيادتها , وتقديم طلب بالتحقيق مع كبار رجالاتها في الدولة الخصم ، وللمعلومية لم ينقذ ماء الوجه إلا أحد المسؤولين السعوديين , ففي مطار نيويورك قابل (كوفي عنان) وطلب منه أن يتنازل هذا المحقق عن هذا الطلب المهين , ويبحث عن مكان آخر ، فكان مكان التحقيق (فيينا) .

ولو كانت العزة والسيادة بكمية البترول في باطن الأرض ؛ لما تجرأت الطائرات الأمريكية بالتحليق في سماء إحدى الدول العربية , ومن ثمّ قصفت قصر رئيس الجمهورية العظمى , فقتلت بعض أقربائه , ولما تجرأت تلك الدولة بمحاصرته سياسياً واقتصادياً بعد (لوكيربي) , وبعد ذلك أرغم على دفع تعويضات لضحايا تلك الحادثة , والتي كلفت مليارات الدولارات من خزينة الجمهورية العظمى !! وللمعلومية فإن الذي خفف من عزلة الجمهورية العظمى دولياً هو أحد المسؤولين السعوديين مرة أخرى.

ولو كانت العزة والسيادة بعدد الأحزاب السياسية والعملية الديمقراطية ؛ لما تجرأت إسرائيل على اجتياح معقل العملية الديمقراطية الحقة في العالم العربي ، ولما اجتاح شارون عاصمتها لمحاصرة ياسر عرفات ورفاقه ، وللمعلومية مرة أخرى ؛ فإن الذي أنقذ الموقف هذه المرة هو أحد ملوك الدولة السعودية , وأعني الملك فهد بن عبد العزيز ، يقول غازي القصيبي ( أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان أطبقت القوات الغازية على بيروت حيث كان يتحصن " أبو عمار " وعدد من رجال المقاومة . كان في نية الحكومة الإسرائيلية أن تحل مشكلتها مع منظمة التحرير الفلسطينية حلاً جذرياً بالقضاء على أبو عمار ورفاقه ، أرسل القائد الفلسطيني النداء تلو النداء إلى الدول العربية ، وصلته برقية من العقيد معمر القذافي تنصحه أن يستشهد هو ورفاقه ليضمنوا دخول التاريخ ولاذت بقية العواصم العربية بالصمت ولعل بعضها كان يقول همساً "وعلى نفسها جنت براقش" ، كان الملك فهد قد تولى زمام الحكم لتوه وبدأ على الفور الضغط بالولايات المتحدة لتجبر إسرائيل على التخلي عن دخول بيروت وتصفية المقاومة ، الصدفة وحدها هي التي أتاحت لي أن استمع إلى ما قاله الملك فهد للرئيس الأمريكي ريغان ، لأني كنت أساعد في الترجمة ، يكفي هنا أن أعرب عن اعتقادي أن موقف الملك هو الذي أنقذ الزعيم الفلسطيني من مصير فاجع ، أشار الرئيس ريغان في مذكراته إلى هذا الاتصال الهاتفي وذكر أنه قام على أثره بالاتصال فوراً برئيس الوزراء الإسرائيلي بيغن وطلب منه عدم دخول بيروت ، بالفعل توقفت القوات الإسرائيلية على مشارف العاصمة اللبنانية وأمكن فيما بعد أن يخرج أبو عمار ورفاقه عن طريق البحر خروج الأبطال ، ولم تترك البرقية المؤثرة التي أرسلها الزعيم الفلسطيني للملك مجالاً للشك أنه كان يعرف وقتها انه مدين للملك بحياته وحياة رفاقه ) (1) .

ولو كانت العزة والسيادة بالتبجح بالنظام العلماني أو الليبرالي  كما في إحدى الدول العربية ؛ لما قامت الطائرات الإسرائيلية بالنزهة في أجوائها, وضرب مقر القيادة الفلسطينية فيها ، يقول عرفان نظام الدين :  ( من المعروف أن أبو عمار نفسه تعرض لعشرات محاولات الاغتيال ، من ذلك عند قصف مقر قيادته ـ في إحدى الدول العربية ـ  الذي نجا منه بأعجوبة إذ توجه إلى موعد عاجل فور وصوله إلى مطار تلك الدولة بدلاً من ذهابه مباشرة إلى منزله ليخلد إلى الراحة وهو نفسه المنزل الذي تحول إلى ركام بفعل الغارة الإسرائيلية ) (2).
بعد هذه القراءة لهذا الواقع المؤلم لدعاوى العزة والسيادة في المنطقة العربية والإسلامية نقول : ليس القصد من ذلك الشماتة ولا السخرية ولا الاستهزاء ؛ بل الهدف أخذ الدروس والعظة والاستفادة ، ومن أهم تلك الدروس والعظات أن نعرف أن طريق العزة والسيادة لأي دولة إسلامية أو أي مجتمع إسلامي ليس بالقنبلة النووية الموجود مفتاحها في حقيبة مخفية لدى رئيس الدولة ، ولا في تخصيب اليورانيوم أو إخصابه , ولا في تكوين رابع أو خامس جيش في العالم ، ولا بالديمقراطية أو الديمغرافية ، فهذه جميعها أسباب دون شك ؛ لكنها أسباب ثانوية لا يمكن أن تؤتي مفعولها دون العنصر الأساسي والمادة الأساسية للسيادة أو العزة لأي دولة مسلمة أو مجتمع إسلامي , وأعني عنصر ( الدين والإيمان الصحيح ) , فبقدر قرب هذه الدولة وذاك المجتمع من الدين والإيمان الصحيح تنال العزة والسيادة .

فيحسن بالسعودية والسعوديين أن يدركوا ويعلموا أن العزة والسيادة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً وعميقًا بالدين الصحيح والإيمان الصحيح , كما قال سبحانه وتعالى : } ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين { . فربط الله سبحانه وتعالى العزة بالإيمان ، وقال أهل العلم : إنه لم يقل وللمسلمين , فهذا يدل على أن الوصف بالإسلام ليس كافياً لتحصيل العزة بدليل قوله سبحانه وتعالى : } قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم { (3) ، وقال سبحانه : } تعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الملك إنك على كل شيء قدير { (4) , وقد أخذ الله على نفسه بأن العزة والنصرة للمؤمنين فقال :} وكان حقاً علينا نصر المؤمنين { (5) وقال سبحانه وتعالى : } وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً { (6) , فقد علق سبحانه وتعالى الاستخلاف والأمن بالأيمان والعمل الصالح .

ويحسن بالسعودية والسعوديين أن يفهموا أنه لولا تضمين الدين الصحيح في السياسة السعودية الداخلية والخارجية , وقصد نصرة الإسلام في المعارك السياسية والاقتصادية والحضارية ؛ لما اعتزت الدولة وسادت ، فكما تقول العامة (النية مطية) , ففي الوقت الذي يستبعد من يشم منه رائحة التدين من إدارة وسلطة صنع القرار في بعض تلك الدول التي أشرنا إليها , في هذا الوقت نفسه يذكر صاحب السلطة والقائد العام وملك المملكة , خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أنه قام بالاستخارة ـ وهي سنة مستحبة ليست من الفروض ـ عندما عزم على القيام بعمل سياسي , وهو جمع الفلسطينيين ـ حركتي فتح وحماس ـ  في مكة . وبصراحة يحسن بالسعودية والسعوديين أن يعترفوا بأنهم ليسوا أكثر الناس تعلماً وتعليماً وثقافةً , بمفهومها المعاصر ؛ بل إن بعض الدول والمجتمعات العربية المحتلة , نسبة التعليم فيها أكثر من نسبة التعليم في السعودية ؛ بل إنه في الزمن الذي تُدَرس اللغة الفرنسية فضلاً عن اللغة الإنجليزية في المدارس النظامية في بعض تلك الدول والمجتمعات العربية , لم يكن في السعودية مدارس نظامية تُدرس اللغة العربية !! لكن كانت ظاهرة التدين والإيمان الصحيح في المجتمع السعودي أكثر من غيره , ولهذا فقد اعتز المواطن وسادت الدولة . ولهذا لما قيل للملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ عن المستوى الثقافي لشعبه , قال : ( شعبي ليس بمثقف لكنه مؤمن ) .

فكان يعي ما يقول ؛ لأن تقدم المجتمع وعزة المواطن وسيادة الدولة تقوم على الإيمان الصحيح كأساس , ثم تأتي الأسباب المادية والثانوية تبعًا له, ومنضبطة به , وهذا ما حصل بالفعل , وهذا مصداق لقول الرسول عليه الصلاة والسلام لزينب بنت جحش لما سألته: ( أنهلك وفينا الصالحون ؟) قال : ( نعم إذا كثر الخبث ) ، فلا يمكن أن يكثر الخبث إلا إذا اختل الإيمان في القلب ، ولهذا نقول : إنه لم تختل التنمية في بعض المجتمعات العربية إلا عن طريق اختلال الإيمان الصحيح في القلب , فلم تنفع هنا الثقافة ولا التحدث باللغة الإنجليزية ولا الفرنسية ولا البعثات الألمانية , ما دام ليس هناك تدين بحرمة الرشوة والمحسوبية , والخوف من الله تجاه المال العام , واستحضار العقوبة تجاه التفريط بالمصلحة العامة , ولم تُنتهك عزة المواطن إلا عن طريق مواطنٍ اختل إيمانه ، فلم ينفع كونه تقدمياً في فكره , ما دام أنه لص في كسبه , ولم تَنقص أو تُنقض سيادة الدولة الإسلامية أو العربية , إلا عن طريق من باعوا دينهم بعَرَضٍ من الدنيا .
 
 
 
----------------------------------
(1)  أزمة الخليج , غازي القصيبي , ص 69 .
(2)  ذكريات وأسرار 40 عامًا في الإعلام والسياسة , عرفان نظام الدين , ص 456 .
(3)  سورة الحجرات , الآية : 14 .
(4)  سورة آل عمران , الآية : 26 .
(5)  سورة الروم , الآية : 47 .
(6)  سورة النور , الآية : 55 .


 

خالد الغليقة
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية