اطبع هذه الصفحة


لو كنت ابن سعود لقطعت رأسك يا حجيلان
السعوديون والتفوّق التشريعي والقانوني

خالد بن عبدالله الغليقة

 
بسم الله الرحمن الرحيم


نحن، السعوديين، لا نزهد في التحدّث عمّا وهبه الله عز وجل لنا من مواهب عظيمة، كهبة النفط، وصناعة البتروكيماويات على مستوى العالم، بل على العكس نفتخر بتلك المواهب المادية الهائلة والعظيمة، ونفتخر بصوت عال أيضًا بالأمن والأمان، ولا نبخل كذلك على أنفسنا بمدح أنفسنا ، بأننا بتوفيق من الله عز وجل أقمنا نهضة تنموية عظيمة، تعتبر حكايتها من أندر الحكايات في تاريخ التنمية في العالم، كما يقول الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله: "خلال سنوات قليلة تمكّن الخليج من بناء (دولة الرفاهية) التي استغرق بناؤها عدّة قرون في الغرب" (أزمة الخليج محاولة للفهم، ص١٤٦).

لكن ما يزهد فيه فريق منا - نحن السعوديين -، ويبخل فريق آخر بالتحدّث عنه، وثالث يستحيي من التفاخر به، وقد يكون سببه الجهل وقلّة الاطّلاع، أو هزيمة نفسية سببها صدمة حضارية، أو كلاهما معًا -، هو ما لدينا من حصيلة تشريعية قانونية تضاهي التشريعات والقوانين الحديثة في الدول الحديثة، وخاصةً في الدول الغربية. ومن المحزن أن لا يعترف بهذه التشريعات والقوانين، ولا يُفاخِر بها إلا القليل منا. وهو ما صرّح به بعض حكامنا صراحةً، كما سيأتي عن الملك فيصل (رحمه الله) وبعض علماء الشريعة، وبعض من تعمّق وجمع بين دراسة الشريعة والقانون الغربي من القانونيين السعوديين!
يقول الملك فيصل (رحمه الله): "إذا أردنا لأمتنا وشعوبنا الخير، فلسنا في حاجة لأن نستورد من أي بلد أو وطن أو أمة، أي آراء أو عقائد، أو قوانين من الخارج، بل على العكس فإن تلك الأمم نفسها تستفيد من شريعتنا وقواعدنا" (أحمد حسن دحلان، دراسة في السياسة الداخلية للمملكة العربية السعودية، ص؟؟؟).

لعلنا نكتفي بهذا الشاهد من داخل المجتمع السعودي، وننقل شهادات عن شخصيات من خارج المجتمع السعودي تشهد لسبق النظام الفقهي المطبّق في السعودية بالحداثة والتفوّق والتقدّم، والأصلح للإنسان والمجتمع.

وتتميّز هذه الشهادات بأنها من خارج الرحم السعودي، حتى لا يقال بأنها تجامل المجتمع السعودي، وتتميّز أيضًا بأنها جمعت في دراستها بين الشريعة والقانون الغربي الحديث.
من أهمّ تلك الشهادات شهادة من يطلق عليه القانونيون العرب أبا القانون، ووضع القوانين الوضعية لكثير من الدول العربية، وهو الدكتور عبدالرزاق السنهوري، القانوني المصري الضليع، وهو صاحب عبارة: "لو كنت ابن سعود لقطعت رأسك يا حجيلان".

تقول الحكاية بقلم صاحبها الوزير جميل الحجيلان: "في امتحان السنة النهائية لكلية الحقوق، جامعة فؤاد الأول، كان نصيبي أن أؤدي الامتحان الشفوي في القانون المدني أمام الدكتور عبدالرزاق السنهوري، والسيد سليمان حافظ، رئيس مجلس الدولة آنذاك، كان ذلك في شهر مايو ١٩٥٠م، ما أزال أذكر صوته الجهوري بقسمات وجهه الخشنة المطلّة من رأسه الكبير، وأنا وزملائي الثلاثة الآخرون ماثلون أمامهم، مسكونون بخوف شديد، استوقفه اسمي (الحجيلان)، فسألني دون مقدمات‏: هل أنت سعودي؟ قلت: نعم. قال: بكل جارحة صارمة جادّة في وجهه: "لو كنت ابن سعود لقطعت رأسك"! سألته وقد أغرقتني المفاجأة في مزيد من الارتباك: لماذا يقطع رأسي يا سيدي؟ قال: ما هذا العبث الذي أتيت فيه! أمضيت أربعة أعوام تدرس القوانين الوضعية لتعود لبلاد يحكم بالشريعة الإسلامية...، وبذلك تكون عبئًا على وطنك!

لا أذكر ‏بماذا تمتم به الطالب ابن العشرين، فقد تجاوز الموقف قدراتي على المواجهة والاستيعاب. وجّه إليّ سؤالًا أجبت عليه باقتدار. ودار بأسئلته على الآخرين. استعصى سؤاله على زميلة كانت معنا. قال: هذا لك تجيبين عليه أم أحوّله للسعودي؟ فقالت - والذاكرة لا تنسى أمرًا كهذا-: اسأله فلن يستطيع الإجابة عليه.

كان أن أجبت عليه أيضًا باقتدار، فقال لي العالم الكبير: برضه، لو كنت ابن سعود ‏لقطعت راسك. قلت: لماذا يا معالي الباشا أنت مصرٌّ على قطع راسي؟ فأجاب بضحكة مجلجلة: لأنك طالب نجيب؛ ثم علّق جميل الحجيلان تعليقًا جميلًا جدًّا، حيث قال: "كان الوطن في حاجة للمدرّس والمهندس والطبيب...، لم يكن بحاجة لقانونيين في دولة أقامت وجودها على الإسلام، نظام حكم وحياة، وأنا أعود لبلادي بفكر قانوني استجمعت أصوله من تشريع غربي، وبيئة غربية لا يجمعنا بها جامع من عقيدة أو موروث لأصبح عبئًا على وطني، كما كان ينذر به ويخشاه العالم الكبير - يقصد السنهوري! (جميل الحجيلان، مقال بعنوان: لو كنت ابن سعود لقطعت رأسك)، صحيفة الشرق الأوسط، 2/ 10/ ٢٠٠٤م.

ومن المعلوم لدى الجميع أن القوانين التي تدرس في جامعة فؤاد الأول – جامعة القاهرة حاليًّا -، والتي يدرّسها السنهوري هي القوانين الغربية، فهي شهادة من قانوني ضليع بأن الملك عبدالعزبز نجح في إقامة منظومة تشريعية أفضل من القوانين الغربية التي يدرسها ويضعها دساتيرَ للدول العربية، وإلا لماذا العتب على الحجيلان!
وممن شهد للفقه الحنبلي الذي تسير عليه الأحكام التشريعية في السعودية بسبقه للفقه الغربي العلامة المصري محـمد أبو زهرة، فقد قال في هذا الصدد: "ولقد رأينا أحمد يتوسّع في العقود توسعًا ما كنا نحسب أنه سبق الفقهَ الحديثَ" (كتاب ابن حنبل، ص٢٢٣).

وقال أيضًا: بعد عرضه مذهب أحمد حنبل في حرية التعاقد والشروط العقدية: "وهكذا ترى ذلك الإمام الذي جعل آثار السلف أستاذه، فتخرّج عليها، واهتدى بهديها انتهى في العقود، وفي كثير من معاملات الناس إلى التوسعة بدل التضييق، والإباحة دون المنع.

وبذلك قام الدليل على أَنَّ الناس الذين يزعمون أَنَّ الرجوع إلى مسالك السلف الصالح فيه تضييق على الناس لم يعرفوا حقيقة هذه الآثار، وكيف سَلَك الصحابة السبيل، وكيف عالجوا المشكلات التي عرضت بروح الدين الذي جاء رحمة للناس، ولم يجئ لإعناتهم والتضييق عليهم.

وهذه عقود تقوم عليها الأسواق العالمية اليوم قد كان في فقه أحمد مُتَّسَعًا لها، وقد تبيّن أنه اهتدى في هذا بهدي السلف رضي الله عنهم" (المصدر السابق، ص٢٣٣).
ومثلها شهادة عالم من سوريا ابتليت بلاده بالقانون الوضعي، وقد جمع في دراسته بين الشريعة والقانون، فهو خبير بهما، وهو العلامة مصطفى الزرقا، حيث قال عن الفقه الحنبلي وسبقه للقانون التجاري الحديث: "إِنَّ الاجتهاد الحنبلي أجاز طريقة العربون، وهي أن يبيع الإنسان الشيء، ويأخذ من المشتري مبلغًا من المال يسمى "عربونًا"، لتوثيق الارتباط بينهما، على أساس أن المشتري إذا نفّذ عقده احتسب العربون من الثمن، وإن نكل كان العربون للبائع.

وجمهرة المذاهب على أَنَّ ذلك غير جائز، لأَنَّ فيه شرط مال يستحقّه البائع بلا عوض، وعليه الاجتهاد الحنفي والمالكي والشافعي. وَلَكِنَّ أحمد ومحـمد بن سيرين ونافع بن الحارث أجازوه تمسكًا بما روى نافع، وهو عامل لعمر بن الخطاب على مكة: إنه اشترى لعمر دار السجن بمكة من صفوان بن أمية، وشَرَط له أنه إن لم يرضها عمر فلصفوان مبلغ مُعَيَّن من المال. وقد أَقَرَّ عمر شرطه هذا.
ثم علّق الزرقا بقوله: "ومن المعلوم أن طريقة العربون هي وثيقة الارتباط العام في التعامل التجاري في العصور الحديثة، وتعتمدها قوانين التجارة وعرفها، وهي أساس لطريقة التعهّد بتعويض ضرر الغير عن التعطّل والانتظار" (كتاب المدخل الفقهي العام، ١/ ٥٦٥).

وقال الزرقا في موضع آخر عن الفقه الحنبلي: "هذا، وقد عنينا ببسط القول في الاجتهاد الحنبلي هنا لأنه هو الذي تتمشى أُسسه في موضوع سلطان الإرادة العقدية مع النظريات القانونية الحديثة، وتصلح أن تكون أساسًا للمقارنة بها" (كتاب المدخل الفقهي العام، ١/ ٥٧٠).

أمّا عن صلاح النظام الفقهي في السعودية في إيجاد بيئة آمنة مستقرة، وما حصل من خلل في ذلك هو بالضرورة خلل في تطبيق النظام الفقهي أو بعلّة استبداله بغيره باجتهاد غير موفق!
وإلى القارئ شهادات أيضًا من خارج المجتمع السعودي تشهد لآثار النظام الفقهي ودوره في الأمن والاستقرار في السعودية: - مع التحفّظ على وصف عقوبة السرقة بالقساوة في بعضها-، فهذا المستشرق الألماني كارل بروكلمان، يتحدّث عن الملك عبدالعزيز (رحمه الله)، حيث قال: "وطدت إدارته الأمن الذي لم تعرفه الجزيرة العربية من قرون، وأزال ما كان يسمّى حقّ القبيلة في حماية المجرم، والحيلولة دون إنزال العقاب به. وطبّق "القانون الجزائي"، حسب تعاليم القرآن تطبيقًا كاملًا. وعلى الرغم من أن في تلك العقوبات ما قد يعتبر قاسيًا بالنسبة إلى مقاييسنا، فقد جاءت النتائج باهرة، هي انعدام الجرائم الخطيرة في شبه الجزيرة العربية انعدامًا يكاد يكون تامًّا" (ساعد الحارثي، كتاب الملك عبد العزيز، رؤية عالمية، ص٢١٩).

ويقول الدكتور معروف الدواليبي، السياسي والقانوني رئيس مجلس وزراء سوريا السابق: "أنني أعلن أنه قد مضى عليّ في هذه البلاد (٧) سنوات، ولم أسمع ولم أشاهد قطع يد للسرقة؛ لندرته. وهكذا لم يبقَ من هذه العقوبة إلا قساوة الحكم التي جعلت الناس جميعًا في أمن واستقرار، وحفظت على الراغب في السرقة سلامة يده، إذ منعته قساوة حكم العقوبة نفسها من الوقوع في الجريمة. وهكذا فإن هذه البلاد عندما كانت في ظل قانون العقوبات الفرنسي في عهد الدولة العثمانية ما كان يستطيع الحجاج السير في أمان على أموالهم وأرواحهم بين المدينتين المقدستين: المدينة المنورة ومكة المكرمة، إلا في ظل حراسة قوية من الجيش، ولكن عندما انتقل الحكم في هذه البلاد إلى الدولة السعودية، وأعلنت فيها شريعة القرآن اختفت الجريمة فورًا، وأصبح المسافر من الظهران على الخليج إلى جدة على البحر الأحمر، فضلًا عن السير فيما بين المدينتين المقدستين، يستطيع متابعة سفره وحده في سيارته الخاصة، وأن يخترق الصحراء ويجتاز أكثر من (١٥٠٠) كيلومتر دون أن يخشى على نفسه أو على ماله، ولو بلغ ماله ملايين الدولارات، ولو كان أجنبيًّا عن البلاد" (كتاب ندوة علمية حول الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان في الإسلام، ص٢٨).

ويقول مصطفى الزرقا (رحمه الله): "إن عقوبة السارق بقطع اليد لا ينبغي أن نتصوّر فيها عددًا من الأيدي مقطوعة بعدد السارقين الذين يلوّعون المجتمعات البشرية اليوم باستمرار، بل إن يدًا واحدةً تكفي لمنع آلاف. وإن مجرد تطبيق هذه العقوبة في المملكة العربية السعودية في بضع حوادث قد قطع دابر السرقات، وأنتج أمنًا داخليًّا مذهلًا ومثاليًّا في العالم" (كتاب المدخل الفقهي العام، ١/ ٢٨٣).

هذه بعض الشهادات التي يجب بعدها أن نقف مع أنفسنا - نحن السعوديين -ونسألها الأسئلة التالية:

- هل نقف ونحاسب أنفسنا على زهد في غير موضعه تجاه تقدّم تشريعاتنا وأنظمتنا؟!
- وهل نقف ونحاسب أنفسنا على بخل مذموم شرعًا ومنطقًا وواقعًا تجاه التحدّث عنها بفخر واعتزاز؟!

- وهل بعد هذه الشهادات نوقف زحف الإشادة والتمجيد للأفكار المستوردة، التي قد لا تكون صالحة لبيئتنا الدينية والأخلاقية والاجتماعية، أو قد ثبت فشلها في بيئتها المنقولة منها، فلم يبقَ من سبب لنقلها وإقرارها إلا الطغيان الحضاري لحضارة الغرب؟!

ولنأخذ مثالًا واحدً على الفقرة الأخيرة من شخص واحد، إذا عُدَّ علماء الشرع الكبار في المملكة العربية السعودية فهو من كبارهم، وإذا ذُكِر القانونيون السعوديون والعرب فهو من أعلمهم وأعرفهم وأعمقهم، وهو الشيخ صالح الحصين (رحمه الله)، فقد سُئل السؤال التالي: "بتوفيق من الله تعالى تلتزم المملكة إقامة الحدود والتعازير المقررة شرعًا على ما يسمى بالجرائم الجنائية، بينما تطبّق معظم الدول المعاصرة النظم الوضعية بما فيها من عقوبات الحبس والسجن على الجرائم نفسها. فهل لكم أن تتفضّلوا بتوضيح إلى أي مدى استطاع كلا النظامين استئصال شأفة الجريمة في المجتمع"؟

الجواب: ‏العقاب في ذاته لا يستأصل الجريمة من المجتمع، والمجتمع الذي يطلب الإصلاح بالرهبة ووسائلها سوف يفيق على اكتشاف ضياع جهده. الكفاح الناجع ضد الجريمة إنما يكون في خلق الشعور بعدم الرغبة فيها، وسياسة العقاب لا العقاب نفسه - كما أوضحت في الإجابة عن السؤال السابق - أداة لخلق هذا الشعور. صحيح أن الرهبة ووسائلها ‏قد تكون وسيلة علاج ولكنه العلاج الوقتي الوهمي. وشواهد هذا من الواقع ظاهرة واضحة تمتلئ بها تواريخ أنظمة التسلّط والقهر، واقرأ إذا شئت التاريخ المعاصر للأنظمة الديكتاتورية الشيوعية.

والمجتمع المسلم ينبغي في تطلّبه للإصلاح ومكافحة الفساد أن يهتدي بها بهدي الله بأن يحرص على تربية أفراده على التقوى وتوعيتهم بموجباتها. وإذا استيقظ في الإنسان الرقيب الذاتي على مشاعره وأفكاره وتصرفاته، كان الضمان بوجود الصلاح واندحار الفساد.

لم تتضح لي في السؤال المقابلة بين التعزير والسجن‏، لأن السجن أداة من أدوات التعزير، وفي المملكة العربية السعودية كما يكون السجن أداة من أدوات التعزير تخضع في إيقاعها وحجمها لتقدير القاضي، فإنه أيضًا عقوبة جنائية تفرضها أنظمة المملكة المكتوبة بأقدار معيّنة على جرائم معيّنة.

وإذا كان القصد من السؤال المقابلة بين الأذى الجسمي (الجلد) كعقاب تعزيريّ، والسجن كعقاب تعزيري، من حيث أيهما أقرب للصلاح وتحقيق الآثار المطلوبة للعقاب؛ فيلاحظ أن الأذى الجسمي عقوبة قاصرة على المذنب، أما السجن فعقوبة متعدّية إلى الأبرياء المعتمدين في معاشهم عليه. والجلد ينتج الآثار النفسية المرغوب فيها المشار إليها في الإجابة عن السؤال السابق؛ في حين تتخلّف أو تضعف في حالة السجن‏. والجلد أسلم من الآثار الجانبية السلبية، أما السجن فإن الآثار السلبية المصاحبة له متعددة، سواء من الناحية التربوية أو الاجتماعية والاقتصادية. ولذلك فإن ميل النظام القضائي لدينا إلى العدول عن التعزير بالجلد إلى التعزير بالسجن لا أجد له سببًا إلا غلبة الزخم الثقافي الغربي، ولا ينبغي أن يؤسس تقويم الأشياء على التراث الثقافي لشعب ما (CULURE) ، وإنما يؤسس على العقل والمنطق والتجارب العملية" (مجلة الفيصل، العدد٢٤٦، ذو الحجة ١٤١٧هـ، ص٣١).




 

خالد الغليقة
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية