اطبع هذه الصفحة


علل الطلاق

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه


بسم الله الرحمن الرحيم


كلما نظرت في قضية الطلاق، أجد في نفسي من الحيرة والقلق، شيئا أعجز عن إضماره..؟!!.
فالمتزوجون - والمتزوجون حديثا بالأخص - باتوا يسارعون فيه، مسارعة السجين إلى الحرية، حتى وصلت النسبة إلى أربعين بالمائة (40% ) ؟!!.. ونسب الطلاق في تزايد.
هي كارثة لم تول اهتماما يليق، من كافة الجهات المسئولة، بما فيها الإعلام ومراكز العلم والدعوة والإصلاح، ولا ندري سببا لذلك، فحقها حملات لا تقل في الكم والكيف، عن الحملات ضد: المخدرات، والإرهاب، والإنفلونزا.. وكافة الأوبئة.
فإنها تهدد الأمن: النفسي، والاجتماعي، والخلقي، والاقتصادي.
إنها تنقل من حياة الأسرة والتعاون والمشاركة، إلى العزلة الفردية والأنانية وحب الذات.
هي تخل بنظام الحياة الطبيعية، وتربك السلم الاجتماعي، وتولد مشكلات كبيرة.
إنها ظاهرة خطيرة، فهل نحن مدركون – قبل فوات الأوان - في أي طريق نسير ؟.
وليس موضوعنا: أسباب ضعف علاج ظاهرة الطلاق. مع أنه يستحق أن يفرد بالبحث، إنما في علل الطلاق وأسبابه. فما الأسباب ؟.
كل مراقب يدرك: أن التغيرات تحمل معها آثارا إيجابية أو سلبية، بحسب موضوع التغير. الحسن يأتي بالحسن، والسيء يأتي بالسيء، والحسن إذا أسيء تعاطيه والأخذ به، انقلب أثره من حسن إلى سيء.
إذا ذهب المريض إلى الطبيب، سأله: عن طعامه، وعن أعماله التي طرأت عليه. فالجسد لايفسد من ذاته، بل بما يطرأ عليه من خارج، كذلك المجتمع هو كالجسد.
وإذا قصدنا إلى معرفة أسباب تزايد الطلاق في العقود الأخيرة، فمن البدهي أن نسأل:
ما الذي تغير وطرأ في هذه المدة، المزامنة لتزايد الطلاق ؟.
سؤال يعرف جوابه الجميع: الذي طرأ باختصار: طفرة مادية، وأوضاع جديدة للفتاة والمرأة، من تعليم، وعمل، وإعلام يبرز الأنثى بشكل غير مسبوق ولا معهود.
فهل يمكن اعتبار هذه أسبابا وعللا لظاهرة الطلاق ؟.
قبل أن نجيب على هذا السؤال، سنذكر سببا - لا يختلف عليه أحد - هو من أهم الأسباب، هو: الجهل بأحكام الطلاق.


* * *
(1) "الطلاق للعدة"


الطلاق حكم شرعي، له تفاصيله المحددة شرعا، ليس مجرد كلمة بها يقع الفراق، بل له:
- وقت؛ وهو ما يعبر عنه فقهيا بـ : الطلاق للعدة.
- ومدة، ويعبر عنها بـ: الطلاق الرجعي.
- وعدد، وهو ثلاث مرات.
وألفاظ وصيغ، وتعتريه أحوال توجب إعادة النظر في إيقاعه. ويفترض بكل متزوج أن يلم بالحد الأدنى من فقه الطلاق، كيلا يقع في البدعة المحرمة.
فإن الشارع قسم الطلاق إلى قسمين: بدعي محرم، وسني حلال.
- فأما البدعي ففي حالين: طلاق الحائض، والطلاق في طهر جامع فيه.
- والسني في حالين أيضا: طلاق الحامل، والطلاق في طهر لم يجامع فيه.
وهذا التفصيل مهم؛ لأن فيه تحديد الطلاق بوقتين مشروعين فحسب، فمن قصد إلى الطلاق، عليه أن ينتظر الوقت، فالأول: يأتي كل شهر مرة. والثاني: لا يُدرى متى يحل.
فإذا حل نظر في أمره، فإن بقي على عزمه فارق، لكن الغالب في هذه الأحوال تغير العزيمة، وصرف النظر عن الطلاق. وكيف ذلك ؟.
الجواب: لأنهما وقتان: للحب، والميل، والرغبة، وتلاشي الخلاف والخصام، والوحشة، وهذه لا تنتج طلاقا، بل رباطا شديدا.
فأحدهما: قصير جدا، ويقع عادة في الشهر مرة، لساعة وأقل من ذلك. حين تطهر الزوج من حيضتها، ثم تتطهر بالاغتسال، وقبل أن تجامع، كما قال العلماء: "في طهر لم يجامعها فيه"، فالطهر ما بين الحيضة والجماع، هو الوقت الأول.
فهذا وقت ميل ورغبة في المرأة، والأزواج لا يطلقون زوجاتهم فيه، بل يتربصونه للتقرب والصلة العاطفية، فإنه أشبه بليلة عرس، ويوم عيد بعد صيام.
والثاني: طويل نسبيا، حال الحمل، يمتد تسعة أشهر، كلها وقت لإيقاع الطلاق، لكنها تحمل في بطنها الولد "فلذة الكبد"، والمرأة فيه ضعيفة، والضعف الأنثوي يخضع الرجال.
ماذا نرى في هذا التوقيت الشرعي للطلاق ؟.
نرى في حدّه بهذين الحدين من الزمان، عاملا مؤثرا في الإبقاء على رباط الزوجية وضمان استمراره؛ فهما وقتان أرغب ما يكون الرجل في زوجه..
والرغبة في الزوج وإرادة طلاقها لا يجتمعان، إلا في حالة واحدة؛ هي حالة الإكراه.
وهكذا، فالتزام السنة يحدّ ويقلل، بل ويصرف عن الطلاق.
هذا الحكم يكشف جانبا من سعة علم الله تعالى بمصالح العباد، وحكمة التشريع؛ حيث اختار للطلاق وقتا، لا يطلق فيه إلا من تيقن أنه لن يقيم هو وزوجه حدود الله.
هما وقتان للطلاق نعم، لكن فيهما ما يصرف عنه؛ ليبقى كيان الأسرة محفوظا من التصدع والتشرذم: {ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}.
فهذا هو الطلاق السني وآثاره، فتعالوا وانظروا في الطلاق البدعي وأثره. وهو: أن يطلقها وهي حائض، أو في طهر جامعها فيه. حالتان تقل فيهما رغبة بعض الأزواج في زوجاتهم:
- فأما حال الحيض؛ فلتعذر الاستمتاع ببضعها.
- وأما في طهر جامعها فيه؛ فلأنه قضى وطره منها. حينها لا يجد في نفسه ميلا، وهي حالة تعتري بعض الأزواج، تصل ببعضهم إلى درجة "القرف الجنسي" كما يقولون، تتولد عنه نفرة من جنس المرأة، وليس الزوج فحسب.
فبالنظر إلى ما بين الزوجين من عشرة كريمة، وعقد غليظ، وذرية أتت أو هي آتية، وحب وود، وقد أفضى بعضهما إلى بعض، فبذلت له بضعها، ومتعته بنفسها: ليس من المروءة ولا الشهامة، ولا الوفاء وكرم الخلق، بل وليس من الرجولة: أن يستغني عنها حال ضعفها وفقدها المؤقت لتأثيرها الأنثوي، بعدما تمتع بها واستعملها في شهوته حال فورة أنوثتها. فهذا ولؤم وخسة في طبع الإنسان، عليه أن يترفع عن هذه الأخلاق الرقيعة، فلا يكون كالذي يظاهر من زوجه حال كبر سنها أو مرضها، ناسيا بذلها له شبابها.
هذا وإنه ضعف مؤقت، سرعان ما تستعيد المرأة وهجها؛ ليذوق المتسرع عاقبة تسرعه، وهكذا الحياة وهج وخفوت.. خفوت ووهج.
ومما يحسن قوله هنا، مما يفتح على الناس بابا للتوسعة والتيسير، ويحد من انحلال الأسرة:
أن الراجح من أقوال العلماء: عدم وقوع الطلاق البدعي. وهو قول: طاووس وعكرمة وخلاس بن عمرو ومحمد ابن إسحاق وحجاج بن أرطأة وأهل الظاهر ومحمد بن حزم، وابن تيمية، وابن القيم، وطائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد، ويروى عن الباقر وجعفر الصادق، ومن المعاصرين ابن باز وعفيفي. [الفتاوى 33/81، زاد المعاد 5/222]
ونقل القرطبي عن سعيد بن المسيب قوله: "لا يقع الطلاق في الحيض؛ لأنه خلاف السنة". [التفسير 18/150]
فإن قيل: أليس القول بوقوع الطلاق البدعي، هو قول الجمهور ؟.
فالجواب: ومن منع هم أئمة يشار إليه، ومن أجاز ليسوا جمهور الصحابة، ولا التابعين، ولا من تبعهم.. ثم ماذا إذا كان قولهم لا يتلاءم مع مقاصد الشريعة، وأوامرها الصريحة ؟.
فمن طلق زوجه حائضا، أو في طهر جامعها فيه، فقد فعل بدعة، والبدعة مردودة؛ لحديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد)؛ أي مردود لا يعتد به. كذلك المطلق للبدعة، طلاقه مردود، كالعبادات البدعية والعقود المحرمة. حتى يطلق للسنة.
ففي الصحيحين: أن ابن عمر طلق امرأته، وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
(مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك، وإن شاء يطلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء).
ولمسلم: (مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرا، أو حاملا).
فأمره ألا يحتسبها طلقة، كما في رواية أحمد: (فردها عليه، ولم يرها شيئا).
صحيح أن هذا الأثر الفريقان، غير أننا عرضناه على القرآن، فوجدناه مؤيدا قول المانعين، في قوله: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن)؛ أي وقت استقبال العدة، وهو الطهر بعد الحيض، فهذا وقته الموقوت شرعا، والله جعل للصلاة والصيام والحج وقتا، فمن أوقعها في غير وقتها لم يقبل منه، فكذلك الطلاق.
ومن القواعد الشرعية: أن ما دخل فيه بيقين، لا يخرج منه إلا بيقين. والنكاح إذا حصل بيقين، لا يخرج منه بطلاق فيه شبهة، اختلف العلماء في إيقاعه لالطلاق البدعي.
وخطأ خير من خطأين، فالموقع للبدعي، إن لم يصب، يكون قد حرمها على زوجها، وأباحها للأجنبي، وغير الموقع خطؤه واحد؛ هو إباحتها لزوجها.
هذا الرأي الفقهي مما يحسن اعتباره من قبل المفتين والقضاة، لعله يسهم في حل مشكلة تزايد نسب الطلاق.
قال ابن تيمية: "إن الله تعالى لم يبح إلا الطلاق الرجعي، وإلا الطلاق للعدة". [الفتاوى33/78]، وقد بينا الطلاق للعدة، بقي الطلاق الرجعي.


* * *
(2) "الطلاق الرجعي"


المطلقات على نوعين:
- الأول: بائنة، تطلق بالكلمة طلاقا بائنا، وليس عليها رجعة، وهما قسمان:
o الأول: غير مدخول بها؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب : 49].
o الثاني: المطلقة طلقتان؛ إذا طلقت الثالثة بانت وليس عليها رجعة.
- الثاني: رجعية، وهي المدخول بها، التي لم تطلق قبل، أو طلقت مرة، في حالين:
o الأول: مطلقة في طهر لم تجامع فيه، تتربص ثلاثة قروء.
o الثاني: حامل، أجلها أن تضع حملها: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}.
والطلاق للسنة صورته كما يلي:
- إذا طهرت المرأة من حيضتها، طلق قبل أن يمسّ.
- ثم تستقبل عدتها؛ تبدأ العدة من الطهر التي هي فيه حتى تحيض، فهذه واحدة.. ثم تطهر حتى تحيض، فهذه الثانية.. ثم تطهر حتى تحيض، فهذه الثالثة، فتلك ثلاثة قروء، قال تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}.
- قبل أن تبدأ الحيضة الثالثة هي رجعية، ومعنى رجعية: أن لزوجها أن يرجعها في هذه المدة: منذ طلاقها، وحتى بداية الحيضة الثالثة، وهذه ثلاثة أشهر.
- في هذه المدة تمكث في بيت زوجها فلا تَخرج، ولا تُخرج: {واتقوا الله ربكم لاتخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن..}.
- وله أن يقابلها وينظر إليها، وتكلمه ويكلمها، ويسافر بها، وتلبس ما شاءت أمامه.
- ومراجعتها يكون بأدنى قول أو فعل يدل، من اللمس بشهوة إلى الجماع، حتى بالنظر إلى فرجها، ويسن الإشهاد على ذلك، ولا يجب، ويحصل بدون علمها.
- فإذا بدأت في الحيضة الثالثة، ولم يراجعها قبل ذلك، حرمت عليه وحلت للأزواج، فلو أرادها، عقد عليها من جديد.
قال تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف}.
هذا هو: "الطلاق الرجعي". وهو طلاق المدخول بها، فماذا نرى في هذا التفصيل ؟.
نرى أمورا جديرة بالنظر والملاحظة، وهي:
أولا: طول مدة الرجعة بالنسبة إلى ما يحتاجه الخلاف من وقت لعلاجه، فمدة ثلاثة أشهر كافية لمراجعة النفس وزوال ما بها من شحناء وتوتر، والعودة إلى حالة الهدوء والطمأنينة، والندم على ما حصل، والرغبة في الإصلاح، والموازنة بين المصالح والمفاسد، وكثير من الأزواج في هذه المدة، يعودون ويتركون ما عزموا عليه من المفارقة.
ثانيا: الأمر بمكث الزوج في بيتها، ومنع خروجها أو إخراجها؛ نصا صريحا في الآية مبتدأ بقوله: {واتقوا الله ربكم..}، والعلة معلومة، والقصد ظاهر؛ إنه حكم يهيء لعودة الحياة من جديد، فالتباعد يولد الجفاء بغير سبب سوى البعد، والتقارب يولد الحب، لا سبب له إلا القرب. وإذا صار الزوجان يلتقيان كل يوم في "بيتيهما"، ليس بينهما من طرف ثالث ربما فاقم المشكلة، فثمة فرصة للتفاهم من جديد، بعد صدمة الطلقة التي تلقاها كلاهما؛ لذا فمن أكبر الخطأ: أن تَخرج من بيتها، أو تُخرج.
والله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن}.. ولم يقل بيوت أزواجهن، فيه إشارة إلى أن الود لا يزال قائما بينهما؛ إذ لا يزال البيت بيتها، ولها النفقة أيضا.
ثالثا: أن الشارع لم يمنع المرأة من أي نوع من أنواع الزينة أثناء الرجعة، فلها أن تلبس وتتزين كما كانت، ولها أن تبالغ في ذلك حتى الإغراء، وهو كذلك؛ لأن مقصد البقاء في البيت، وطول مدة الرجعة هو: انتفاء أثر الطلقة. فأي شيء أعان عليه، فهو مشروع.
فمن تأمل هذا المقصد: أدرك خطأ طائفة من الفقهاء الذين منعوها من الزينة.
وما أحسن ما روي عن الإمام أحمد في هذا، في المغني: "قال أحمد في رواية أبي طالب: لا تحتجب عنه. وفي رواية أبي الحارث: تتشرف له ما كانت في العدة".
قال ابن قدامة: "وله أن يسافر بها، ويخلو بها، ويطأها، وهذا مذهب أبي حنيفة؛ لأنها في حكم الزوجات، فأبيحت له كما قبل الطلاق". [المغني 10/554]
ثم إن هذا الطلاق الرجعي مرتان، لقوله تعالى: {الطلاق مرتان}؛ أي مرة بعد مرة، بينهما زمن مقدر شرعا بثلاثة قروء، وليس مرتين - أو أكثر – مجموعا في وقت واحد.
فإننا لا نرى في الشريعة طلاقا ينفصل به الزوجان في لحظة (=بائن) إلا في حالين:
- الأول: طلاق غير المدخول بها، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها}.
- الثاني: الطلقة الثالثة، لرجعية تطلقت قبله مرتين، لقوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره}.
قال أحمد: "تدبرت القرآن، فوجدت الطلاق الذي فيه هو الرجعي". [الفتاوى 33/87]
وهذا يفيد بطلان جمع الطلاق كله مرة واحدة لرجعية (= مدخول بها)؛ بأن تطلق ثلاثا بكلمة واحدة، أو ثلاث طلقات في مجلس واحد، أو طلاقا بائنا بلفظ البينونة.
فهذا كله غير مشروع، وخلاف ما في القرآن والسنة، فإن الله تعالى أذن بالطلاق مرتين: {الطلاق مرتان}، وهذا في اصطلاح اللغة والشريعة معناه: مرة بعد مرة، كل مرة محدد بزمن شرعا، هو في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}.
فإذا طلقت للمرة الأولى، فعدتها ثلاث حيضات، فإن أرجعها قبل الثالثة، وإلا فارقته، والطلقة الثانية مثلها، وفي الثالثة تفارقه على الفور، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.
فلو جمع الطلاق كله مرة واحدة، تعذر واستحال امتثال أمر الله تعالى في أمور:
- الأول: تربصها بنفسها ثلاثة قروء.
- الثاني: طلاقها مرة بعد مرة.
فلم يكن طلقها لعدتها، والله يأمر فيقول: {فطلقوهن لعدتهن}.
ولم تكن للطلقة الثالثة خاصية، والله تعالى لم يشرع هذا الطلاق إلا بعد طلاق مرتين.
وكل أمر من الله تعالى فيه عدد، فهو بالعد والحساب، أمر بالتسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين، وبالتهليل مائة مرة، ليس معناه: ذكر ذلك بكلمة واحدة، بل تفرق وتعد وتحسب حتى تبلغ العدد المذكور، كذلك الطلاق، لا يصح جمع الثلاث بكلمة واحدة. [انظر: الفتاوى 33/80]
فالطلاق المشروع وهو السنة، لا يقع إلا بتوقيت، ومدة موسعة..
أما طلاق يقع في أية لحظة، وينفذ في لحظة، تذهب فيه الزوجة فلتة، وينحل رباط الأسرة بغتة، ويؤخذ الزوج فيه على حين غرة، فليس من شرع الله تعالى، ولا المقاصد، ولم يأمر به، بل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده.


* * *


وقد ذكر ابن تيمية: "أن الأصل في الطلاق الحظر". [الفتاوى 33/81]
ذلك أنه من أرجى أعمال الشيطان، وأقرب أعوانه إليه من لا يزال بالرجل، حتى يفرق بينه وبين امرأته، فيقول له: (أنت، أنت، ويلتزمه). وهذا في الحديث.
والتفريق من أخص أعمال السحرة، فإن منه الصرف؛ أي صرف أحد الزوجين عن الآخر، قال تعالى: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة).
ثم إن ما كان محظورا، فلا يباح منه – إذا اضطر إليه – إلا بقدر الحاجة، والحاجة تندفع بواحدة، فما زاد فهو باق على الحظر. [انظر: الفتاوى 33/81]
في أثر ابن عباس: "أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرا من إمارة عمر" [رواه مسلم].
حتى رأى عمر أن الناس تهاونوا في أمر كانت لهم في أناة، فأمضاه عليهم ثلاثا.
فإنه أراد تأديب الناس، لما رآهم تلاعبوا بجمع الثلاث.
ولم يكن الطلاق في زمنه يحمل تبعات على الزوجين أو الأولاد، فالمجتمع متكاتف، والنكاح يسير والطلاق مثله، والمطلقة تجد الأزواج بانتظار قضاء عدتها.
وقد فعل ذلك بمحضر من الصحابة، وهو المحدث، وهو أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع سنة خلفائه الراشدين.
واليوم لا يصلح للناس إلا أن يقتدوا بعمر، لا بتقليده فيما ذهب إليه من قول، بل فيما ذهب إليه من مبدأ الاجتهاد مراعاة لأحوال الناس، وما طرأ عليهم من تغيرات.
فالناس اليوم ما عاد يصلح لهم إيقاع الطلاق ثلاثا؛ فالزواج عسير، والعوانس بمئات الآلاف والملايين، والطلاق يتسبب في تدنى أحوال الزوجين، والانحراف بالأولاد، والحاجة والعوز، وتشتت الأسرة، وليس في المجتمع جهات تحتضن هذا الشتات، وتعيد له الحياة.
في هذه الأحوال يجب التأني في كل شيء يتصل بالطلاق، وغلق منافذه قدر الإمكان، ولدينا سنة نبوية عمل بها النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته أبو بكر، ثم عمر إلى زمن، تتصل بالطلاق، وهو إيقاع الثلاث واحدة، وهي موافقة لما في القرآن:
فالرجوع إلى تلك السنة تحقيق لمقاصد الشريعة، والظن أن عمر لو كان حيا، لرجع إلى ذلك، مراعاة للمصلحة الراجحة، ودفعا للمفسدة المحققة.
فالأمور بمقاصدها، ومقصد الطلاق: أن يكون حلا لمشكلة لا حل لها.
لا أن يكون بذاته علة مشكلات ليس لها من حل.
هذا الرأي يذهب إلى جمع من العلماء، منهم: ابن تيمية، وابن القيم، وابن باز.
* * *
بهذا نكون قد بينا تفاصيل حكمين من أحكام الطلاق، هما ذريعة إلى حفظ نظام الأسرة، ومنعه من الانحلال، وأحكام الطلاق كلها كذلك، لكن تحتاج إلى فقيه يحلل نصوصها وأحداثها ويتدبر مقاصدها ومآلاتها، ينطلق من نصوص الكتاب والسنة ومواقف الصحابة، كي يخرج للناس بما يغنيهم على أقوال املأت بها كتب الفقه، جعلت من الطلاق بابا كبيرا مفتوحا، يخرج منه الزوجان بأيسر سبب، فيتفرقا على حين غفلة.
وقد أجاد الإمامان ابن تيمية وابن القيم في ذلك، وفتح عليهما من رحمته وعملهم من علمه، ما لم يكن مثله لغيرهما، فكان أن جادا بعمل عظيم في فقه الطلاق، كانوا فيه متبعين للأثر، عاملين بالسنة، تاركين للتقليد الذي أضاع من الفقه حظا.


* * *
(3) "عظات الطلاق"


هنا قضية جديرة بالتنبيه، لا نحب أن نفوتها فنمضي إلى غيرها، قبل أن نعرض لها، وهي:
أن من ينظر في آيات الطلاق، شيء ما يلفت نظره ؟.
إنها العظات المصاحبة ..
تضمنت آيات الطلاق: أحكاما، ومواعظ، وحِكَما.
حضور العظات في هذه الآيات يساوي ويوازي حضور الأحكام، لا بل تطغى عليها. وهذا أمر ملفت في الطريقة القرآنية، فمثلا عند النظر في قصة من القصص، لأمة من الأمم السالفة، نرى الموعظة والعبرة في آخر الآيات، بعد تمام السرد والعرض، غير أن هذه الطريقة تختلف عند تناول الأحكام، بخاصة أحكام الطلاق.
فالعظات تتخلل الأحكام مرارا، وتأتي عقب كل حكم، وقد تتضمن الآية أكثر من حكم، فتتعدد العظة تبعا لذلك، في كل آية ومقطع، حتى نصل إلى الخاتمة، فتختم بتحذير شديد، لا تساويه إلا التحذيرات الواردة في الأقوام المعرضين الهالكين السالفين.
ماذا يعني هذا ؟.
لا يعني سوى عظم ما يأمر الله تعالى به عباده، فالموعظة المتكررة إنما هي نصيحة يخالطها تحذير ووعيد، بوجوب التزام ما حكم الله تعالى به وأمر، كما لو أمرت أحدا بشيء تراه عظيما، فأنت تعيد وتكرر عليه التزام الأمر، وتخوفه من مغبة التهاون والمخالفة.
وقبل أن نبين علة هذه الطريقة القرآنية، ودلالتها على عظم موضوع الطلاق، نورد هذه الآيات بكمالها كما في سورتي: الطلاق، والبقرة. اللتين اختصتا بأحكام الطلاق.
في سورة الطلاق، تبتدئ الآيات بقوله تعالى:
{يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن، وأحصوا العدة، واتقوا الله ربكم، لاتخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا}.
هذه الآية ذكرت وجوب التزام الطلاق للعدة، وهو: طلاقها في طهر لم تجامع فيه، أو وهي حامل. فهذا هو الحكم: {فطلقوهن لعدتهن}.
ثم عقب بالعظة: {واتقوا الله ربكم}؛ والتقوى مصطلح شرعي معروف، معناه:
تجنب ما نهى عنه، تحاشيا لسخطه وغضبه.
فمعنى الآية: اتقوا غضب وعقوبة ربكم، إذا عصيتم أمره، فطلقتم لغير العدة.
فهذه العظة تبين: أن التهاون في الطلاق لغير العدة ذنب وإثم، يستوجب أن يتقى الله منه.
بعد ذلك، بينت الآية حكما في الطلاق الرجعي: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن} إلا بشرط غليظ: { أن يأتين بفاحشة مبينة}؛ زنا ونحوه.
ثم عقب بالعظة:{ وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}.
نص على أن الطلاق للرجعة من حدود الله، بمعنى: أن الطلاق البائن لرجعية، عدوان على حدود الله. {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}. وظلم النفس من الكبائر، كما قال تعالى عن صاحب الجنتين في سورة الكهف: {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه}، وقد علمنا ما فعل الله به من العقوبة. فهذا الذي يجمع الطلاق مرة واحدة، لرجعية هو فاعل لكبيرة.
وقد تكرر ذكر ظلم النفس والعدوان على حدود الله في مواضع أخر، كقوله تعالى في سورة البقرة: {تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}.
وخاتمة هذه الآية بيان الحكمة من التزام الطلاق للعدة وللرجعة، بقوله:
{لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا}.
والحكمة ظاهرة، فما يحدثه الله تعالى هو: إعادة بناء الأسرة من جديد، بعد هدوء النفس في مدة الرجعة، وانتفاء الخصام، وتجدد المودة والرحمة.
ثم قال تعالى في الآية الثانية: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله}.
هذا هو الحكم في طلاق الرجعية: إمساك بمعروف قبل انقضاء العدة، أو فراق بمعروف، وفي آية البقرة قال: { فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف}.
والعظة التي في هذا الحكم، قوله أولاً: {بمعروف}، سواء أمسك أو فارق وسرح؛ كلاهما يكون بالمعروف، فلا يمسكها يضمر العدوان عليها، وقد نهى الله تعالى عن هذا صراحة في قوله في سورة البقرة: {ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه}.
فهاهنا كرر ذكر ظلم النفس، فالذي يقصد بإرجاع زوجه الإضرار بها، مرتكب لكبيرة.
والعظات تتوالى في هذا الموضع من الحكم، يقول تعالى:
{ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر}.
وهذه موعظة بليغة، فالإيمان بالله واليوم الآخر من أركان الدين، ولا يقرن به شيئا من أوامره، إلا وهو قاصد تعظيمه، وعدم التهاون به.
وقد كرر هذه الموعظة في العضل، كما سيأتي.
في آية البقرة قال في سياق هذا الحكم نفسه:
{ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا واعلموا أن الله بكل شيء عليم}.
إن من يتهاون في الطلاق للعدة، ويتلاعب بالرجعية، فيمسكها للإضرار بها، أو يفارقها بغير المعروف: فهو يتخذ أحكاما هزوا يلعب بها ويعبث.
هنا يذِّكر بنعمه بدون أن يحددها، ويفهم منها بالسياق: نعمة الزواج، الذي فيه المودة والرحمة، كما قال تعالى في آية أخرى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}.
وذكر نعمة الوحي، وما فيها من الهداية والموعظة، ثم أمر بالتقوى، وأخبر عن علم الله تعالى بما يكون بين الزوجين، وما يضمره كلاهما للآخر في نفسه، فهما بين علم الله تعالى، وحكمه، وموعظته، وحكمته.
وإذا عدنا لآية الطلاق التي نحن بصددها، نراها ختمت بعد ذلك بقوله:
{ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا}.
هذه الآية التي نستشهد بها في كل شيء، إنما كان سبب نزولها بيان أحكام الطلاق، فالطلاق لا شك أنه كارثة على البناء الأسري: الزوجين، والأولاد، والبيت. والخصومة لا أمان منها، وهي تحدث كل وقت، لكن بتقوى الله تعالى، بالامتثال التام لحكمه، يجعل الله لهما مخرجا من هذه الفتنة، إما بالعودة أو بفتح أبواب الزرق لكليهما، بالزوج والمال.
ومن يعتمد على الله تعالى في مثل هذه الأزمات، ويثق بحكمه وما شرع، ويترك هواه لأمره، فإن الله كافيه ما يخاف ويتقي. وهو وعد جميل للممتثلين، ولن يخلف الله وعده.
حتى هذا الحد وجدنا قدرا كبيرا من العظات، وما بقي ليس بأقل مما مضى.
ثم إن الله تعالى ذكر عدة أنواع من النساء، فقال: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}
وكالعادة عقب بالموعظة، فكانت من أبلغ ما يكون، حيث قال: {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا * ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا}.
هذه الوعود الكريمة، من تيسير الأمور، وتكفير السيئات، وتعظيم الأجور، مشروطة بالتقوى؛ بامتثال أمر الله تعالى في الطلاق، مع التنبيه إلى أنه أمر الله تعالى أنزله إليكم، ليجعل المرء يتساءل: ما السر في كل هذه العناية الإلهية الواضحة بامتثال للناس لهذا الأمر، وليس هو من أصول الدين، ولا تركه من نواقض الإسلام؟.
إنه تعالى يعد الممتثل، بتكفير سيئاته الأخرى؛ أي إن هذا الامتثال لحكم الله في الطلاق يتعدى نفعه إلى تكفير ذنوب لا تتعلق بالطلاق، ثم إنه له أجورا عظيمة في تطبيقه للحكم، وعهدنا أن الامتثال للحكم يرفع الإثم، وإذا ثبت به أجر، فبقدره، أما الأجور العظيمة فمعهودة في العبادات: الصلوات، والجهاد، والحج ونحوها. فما السر ؟.
ندع الجواب لاحقا، لكن نلقي منه طرفا: لو تأمل المرء ما يحدثه الطلاق أدرك شيئا.
ثم إذا وقع الفراق، فلا يعني القطيعة التامة، ونهاية الحقوق، كلا، قال تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كنت أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكن فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى * لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا}.
أحكام تيسر على الزوجين المطلقين، فالطلاق غير مانع من رعاية الولد من أمه، غير مانع من إنفاق الزوج بما يقدر ويتيسر، ويتكرر ذكر المعروف مرارا في مثل هذه الحالات، فالطلاق لا يحمل على العداوة والشحناء والتباغض، بل يقف عند حده، حتى بعد انقضاء العدة، لو أرادت المرأة زوجها، فلا تمنع منه ولا تعضل، قال في سورة البقرة: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف}.
بعده تأتي العظة البليغة، يقول: {ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.
أعاد هنا ربط الحكم بالإيمان بالله واليوم الآخر، كما فعل في الإمساك بالمعروف أو الفراق والتسريح بالمعروف، وزاد أن جعل امتثاله من الزكاء والطهارة، وختم بأنه هو العالم بمآلات الأحوال بين الزوجين، فلا يجوز أن يقف أحد حائلا بينهما.
هذه نظرة في آيات الطلاق، وقد شحنت بعظات جمة؛ ليعلم الناس أنهم أمام حكم عظيم، فإن بالنكاح يقوم بناء الأسرة، تلك المملكة والدولة المصغرة التي تحوي راع ورعية، وبالطلاق ينهار ويتمزق كل ممزق، ثم يكون حديث كل لسان.
هل رأيتم ما يحدث من المآسي والبلايا والنكبات جراء سقوط وانهيار الدولة ؟.
انهيار الأسرة في المثال كذلك، لكن بصورة مصغرة، فما يعانيه أفراد الأسرة لا يقل شؤما وكارثة، عما يعانيه رعايا وشعب دولة زالت من الوجود، من ذل وعوز وشتات.
هذا وبعد أن أتمت الآيات في سورة الطلاق ذكر الأحكام، ختمت بنوع من الوعيد، عادة القرآن أنه يأتي به في حق أقوام أعرضوا عن اتباع الرسل، قال تعالى:
{وكأين من قرية عتت أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا* فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا * أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا}.
يستحضر في سياق الحكم، ذكر أقوام عتوا عن أمر الله تعالى وعصوا رسله، فكان حسابهم شديدا، وعذابهم منكرا، فيا ترى، هل أولئك الذين عصوا الله تعالى في الامتثال لأحكام الطلاق، يستحقون عقوبة مثلها ؟.
وإذا كثر في الأمة العاصون؛ الذين لا يعملون بأمر الله في الطلاق، فهل يستحقون ذلك؟.
بحسب ظاهر الآيات، وبحسب سياق الآيات: نعم.
لكن ما نوع الحساب، والعذاب ؟.
ذلك علمه عند الله تعالى.. ربما ما نراه من آثار الطلاق على المجتمع، شيء من ذلك.
وننبه هنا إلى مسألة مهمة في فهم طريقة القرآن في تناول الذنوب الواقعة من المؤمنين، وما يذكره من عقوبات عليها: أن ذكر القرآن لعقوبات الأقوام السابقين المعرضين عن دعوة الرسل، من إهلاك عام، وتوعدهم بعذاب شديد في الآخرة، في سياق وختام بيان حكم من أحكام الله تعالى كالطلاق ونحوه، يعطي إيحاء وإشارة إلى أن العقوبات مماثلة، وإلا لما كان من فائدة في إيرادها في هذا السياق.
تلك المماثلة في الدنيا واقعة حقيقة، فما يصيب الكافرين، يصيب المؤمنين أيضا، من البلاء والضنك والعذاب، سواء كان ذلك بالكوارث الطبيعية، أو بأيدي الناس وعدوانهم.
أما في الآخرة، فبالقطع الأمر مختلف، فالكافر يعذب أبدا، والمسلم إن عذب فلأمد محدود. وفي عذابات الدنيا، حين يجترح المؤمنون أنواع الخطايا التي يجترحها الكافرون، فهم معرضون لذات العذاب؛ لتخلقهم بأخلاقهم؛ ولذا جاء النهي عن مشابهة الكافرين في أنواع من المعاصي.
فمن ذلك ما كان عليه الجاهليون من خلق في النكاح والطلاق، وقد أبطلها الله تعالى ونزل أحكاما للمؤمنين.


* * *

 

د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية