اطبع هذه الصفحة


في الثورة .. غياب الصوت الآخر.

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه


بسم الله الرحمن الرحيم
في الثورة .. غياب الصوت الآخر.


مهمة الصوت الآخر، ليس في إظهار المعارضة للرأي، أو الإخبار بوجود صوت آخر.. فحسب، بل له دور رائد في الكشف عن جوانب خفية، وعيوب ونقص في الرأي، لا يتوصل إليها صاحب الرأي بنفسه، وكما قيل: "عين الناقد بصير".
وإن مما هو ملحوظ في الثورات التي عمت وشملت دولا كثيرة، فأطاحت برؤساء دولتين في تونس ومصر، والثالث في طريقه ليبيا، وهي تقلق رؤساء آخرين في اليمن والعراق والبحرين: أن الذي يسوق الحدث ويرعى المشهد كليا، صوت واحد لا غير، هو المحرك والراعي للثورة، المؤيد الراغب في نقلها إلى كافة البلاد العربية.
أما الصوت الآخر، الذي قد يعارض هذا التوجه ولو جزئيا، فإنه بدا في أول الأمر على استحياء وضعف، ثم ما لبث أن سكت، فلم يعد له حضور ولا كلمة مسموعة.
فلم هذا يا ترى ؟. وهل هذا من صالح هذه الثورات والشعوب ؟.
إن المبرر لغياب الصوت الآخر المعارض للثورات، قد يكون واضحا إلى حد ما..
فهذه الأنظمة التي سقطت وسواها، لم تترك لأحد وسيلة للدفاع عنها بكلمة، بما أحدثته من أثرة وظلم للرعايا، واستباحة للحرمات والثروات، وإهدار للكرامة، وحرمان من الرزق لمدة عقود.. من يختلف في هذا ؟.
فمن وقف ناقدا للثورات بأية كلمة، حتى ولو من جهة آثارها، على أقل تقدير هو ساذج، أو منتفع، إن لم يكن متواطئا مع الظلمة، مناصرا للطغاة.. هكذا يقال عنه.
ففي بحر مائج من الثورات المتتابعة، وإعلام يؤجج وينفخ فيها بطريقة لا تخلو من تحريض، كل صوت آخر غير الصوت المؤيد للثورة بإطلاق لا مكان له، بل مستنكر ومستهجن.
هذه القنوات الإعلامية وكافة الجهات المتمدنة، تخالف ما تدعو إليه ليل نهار، من شعار صكت به الآذان: "الرأي الآخر".
فلا رأي آخر هنا ؟؟!!.. فالإعلام قال كلمته، ولا بد للجميع أن يتبعها.
هذا التوحد في الرأي خطأ، ففي قضايا النوازل، من المحتم التدارس والنظر والتعاطي معها بصورة صحيحة، لا بد لها من لجان علمية شرعية، وسياسية، واقتصادية.
لكن الثورات قامت بغير هذا، قام بها شبان، تواصلوا وتواصوا على الثورة، وتجمعوا لذلك، وأكثرهم ليسوا من أبناء الطبقة الفقيرة، وهم متعلمون وليسوا شرعيين.
ثم انضم إليها الفقراء والمضطهدون والمحرومون، حين رأوا نجاحها وامتدادها، وحصل ما لم يكن متوقعا على الإطلاق، من تغيير وإزالة، في أجواء سمحت لهم بذلك.
ولم يكن منتظرا من هؤلاء البحث في النتائج والمآلات، إنما هذا منتظر من الشرعيين والسياسيين، الذين يفترض فيهم التخطيط السليم للسنوات والعقود المقبلة.
هذا مقتضى الشورى التي أمرهم الله تعالى به، يقول الله تعالى:{وأمرهم شورى بينهم}.
إن ما ينبغي معرفته هنا بصورة واضحة: أن الصوت الآخر لا يعارض ألبتة في أن مطالب الشعوب مشروعة؛ من رزق يكفيهم، وكرامة مصونة، ودين يعبدون الله تعالى به، لا يخافون ولا يهانون، وأن من حقهم التخلص من ظالم يحكمهم بغير العدل، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، ويستخف بهم.
الصوت الآخر لا يقول: لا تطلبوا حقوقكم، ولا تقفوا في وجه الظالم العاتي.
إنما يبحث في جوانب تغفل عنها الثورات، في غمرة الاندفاع والعجلة، حين الشعور بالقدرة على فعل شيء يزال به الظلم والظلمة، حين النشوة والفرح بالتغيير والإزالة.
يقول للمندفعين: انتبهوا إلى الطريق، ادرسوه، وافحصوه، وتأملوا وفكروا في حسناته وسلبياته، ولا تقولوا:
نثور أولا.. ثم نفكر فيما بعد في وسيلة الإفادة. ثم بعد ذلك كله ننظر في المآلات والنتائج.
كلا، بل دراسة المآلات أولا، ثم الوسائل، ثم بعد ذلك العمل، إن حسنت المآلات، وصحت الوسائل، أما عكس هذه العملية، فهي بحق ثورة، والثورة لا عقل لها.
أول ما ينبغي اعتباره في حال اختلاط الأمور؛ زمن الثورات والهرج والمرج:
السماع لكافة الأصوات المؤيدة والمعارضة، والجلوس إليها، والتأمل فيما تأتي به من رأي وما تستند إليه، ثم تحدد المواقف وفق عرض الآراء، بعد معرفة الصواب منها.
هذا يحتاج إلى قدرة على التخلص من الأنانية، والإعجاب بالرأي.
إن الثورات عادة تأتي بالأسوأ، كلها على هذا الحال.. هذا ما لوحظ تاريخيا.
بدأت الثورات في أوربا منذ مائتي عام.. ثار الشعب الفرنسي على الملكية والكنيسة عام 1789م، فقتلوا الملك والملكة وسجنوا ابنهما الصغير حتى مات، ثم قتلوا الأمراء، وكافة القسس، وكل من له علاقة أو شبهة علاقة، ثم قامت فرنسا الجمهورية، بعدها مكثت البلاد أكثر من خمسين سنة، في فوضى عارمة، لا يقر للدولة قرار.
هذه الطريقة في الثورات أنتجت الماركسية الشيوعية، ثار الشعب في روسيا على القيصر، ثورة من أجل الخبر والرزق والحرية، قادة الثورة كانوا شيوعيين ماركسيين ملاحدة يقولون: "لا إله، والحياة مادة". نجحت الثورة، فانتقلت البلاد إلى حال أسوأ بكثير مما كانت عليه أيام القيصر، منع الفرد من تملك بيته، أو مزرعته، أو متجره، صار كل شيء ملك الدولة، تجرع الناس سبعين سنة مرارة الحرمان والفقر والفساد إلى أقصى درجة، وبعد سبعين سنة أسقطوا الشيوعية التي ثاروا من أجلها يوما.
أي إن تلك الثورات في مقاييس شعوبها، لم تكن عليهم إلا شرا وسقوطا إلى الأسفل.
ولا ندري عن نتائج هذه الثورات الحاصلة اليوم في البلاد العربية، فالأيام والسنوات القادمة كفيلة بالجواب؛ مع بالغ دعائنا ورجائنا أن تكون العاقبة خيرا على الناس جميعا.
هذا محذور من المحاذير الكبيرة، التي لم يتوقف عندها الثائرون ؟!.
فقد حصل تغيير في دول مصر وتونس، لكنه توقف عند زوال رأس النظام، وفي تونس انضم الحزب الشيوعي الماركسي إلى الحكومة الجديدة، بعد أن كان مطرودا منها.
وفي البحرين اليوم ثورة بشعارات طائفية صريحة، فيها التعريض بالتخوين للعرب، وتمجيد الفرس، ورفع صور الخميني وخامنئني، وتصريح بالتبعية لولاية الفقيه في إيران.
وهكذا، فهذه الثورات قد تأتي إلى السلطة بأحزاب طائفية التوجه، تغلب مصالحها.
من الأمور المحذورة في هذه الثورات؛ أنها - في بعضها - تؤدي إلى تقطيع أوصال الدولة الواحدة، فدولة اليمن المتوحدة حديثا، في حال نجاح الثورة فيها هذه الأيام، ربما رجعت إلى قسمين، قسم في الجنوب وقسم في الشمال؛ فإن هذا من شعارات الثوار.
ودول أخرى إذا وصل إليها المد، قد تقسم إلى أكثر من قسمين، ثلاثة أو أربعة.
فأمر الثورة ونقلها من بلد إلى آخر، قد تنجح في تغيير السلطة، لكنها تحمل معها أيضا تقسيم البلاد إلى أشتات، مع تفاوت هذا الشتات في المقدرات والثروات.

هذان المحذوران الكبيران في المآلات والنتائج:
- الأول: مجيء سلطة أطغى وأظلم.
- الثاني: تقسيم بعض البلاد.
لا نراهما حاضرين عند المؤيدين من أهل العلم والاختصاص والفكر، هؤلاء الذين يتوجب عليهم التمهل والتروي وعدم التأييد المطلق، أو الرغبة في نقل التجربة إلى كل البلاد. فإن فائدة العلم، في أنه يوقف العالم على ما لا يقف عليه غيره، ويبصره بما لا يبصره غيره، ويبين له الطريقة والمنهج في دراسة النوازل، لا أن يحكم فيها بمجرد الشعور والأحاسيس.
هناك محذورات أخرى، تحتوي المحذورين الآنفين، فإن مما يتردد من كلام، عبر وثائق وتحليلات من مفكرين وسياسين: أن كل ما يحدث هو توطئة وتهيئة لشرق أوسط جديد، تقسم فيها البلاد العربية، كما قسم السودان. مما يشير إلى أنها ثورة معدة لها سابقا. سواء صدق هذا أو لا، فهو محذور يستحق التوقف عنده ودراسته بعناية، لا تجاوزه.
ومحذور رابع، كان ولا زال مانعا لأهل العلم من دعوة الناس إلى الثورة، وهو ما يراق من الدماء، وهذا ما نراه اليوم في الدولة الثالثة ثورة ليبيا، "التي أخطأت حين ظنت أنها في الحال كسابقتها مصر وتونس"، وأن مجرد بضعة قتلى على الأكثر أو حتى مئات، ثم تنتصر الثورة، وتسقط السلطة، فإذا بالظالم يجر عليهم الطائرات والدبابات، فيدفع عن سلطته دفاع حياة أو موت، ولو ملك النووي قصفهم به. فاللهم استر وحفظ عبادك.
هذه المحاذير – وغيرها – لم يعد مقبولا السكوت عنها، بعدما بدأت بعضها في الظهور، لها الحق أن تطرح وينظر فيها بتجرد وروية. فإن التجربة في الدولة الثالثة ليبيا بما فيها من استباحة كاملة للدماء، يثبت أن لكل بلد ظرفه الخاص، فلو علم الناس أن ثورتهم ستبيح دماءهم بهذه الصورة، لربما كان لهم موقف آخر، كما أن ما يحدث في البحرين، يؤكد إمكانية خروج الثورات عن مسارها وأهدافها المشروعة إلى استغلالها من قبل فئة.
لو استحضرنا هذه المحاذير وغيرها، وتتبعنا ما وراءها، فقد تبدو لنا أيد خارجية استغلت استعداد الناس للثورة، فإما أنها ساقتهم إلى ذلك، فهيأت وأعدت، أو ركبت موجتها لتربح دون غيرها... هذه نقاط حرجة في الموضوع، فهل نضع أصابعنا في آذاننا؟.

 

د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية