اطبع هذه الصفحة


يا ذا الجود والكرم!.

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه


بسم الله الرحمن الرحيم
يا ذا الجود والكرم!.


إخواني الكرام!.
ما عساي أن أقول ونحن على مشارف شهر كريم، سوى أن أذكر رحمة الله تعالى؛ التي تتجلى وتتبدى في كل مناسبة وشعيرة ؟.
إنها رحمة جمة، لا تنقضي ولا تحصى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}.
إن الأعرابي قال عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أعطاه غنما بين جبلين:
(يا قوم!، أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر).
وهو سبحانه يقول: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا}.
يعمل العامل العمل القليل الحقير في نظر الناس، ثم يقبل الله على عمله، فيعطيه بقرا وغنما وإبلا وذهبا وفضة بين حاضرتين أو بلدتين أو أعظم، يربيها له كما يربي أحدنا فلوه.
يتوه الصائم في رمضان بين العبادة والعادة، فيغلب جانب الدنيا، ويقبل ليله ونهاره على مصالحه الحاضرة، تاركا أو مقصرا فيما يبقى له عند الله، ثم يفيق في ليلة يرجو بركة ليلة القدر، فيقدر الله له موافقتها، فيغنم في ليلة ثواب ألف شهر؛ أكثر من ثلاث وثمانين سنة.
لم لا.. وهذا وعده، وهذه خزائنه ملآى لا تغيض ؟.
لم يضيق على العباد فضله ولا رحمته، ولم يشترط عليهم أن يكونوا على جد واجتهاد طيلة رمضان أو غيره، حتى ينالوا فضل ليلة القدر، كما يظن بعض من نسي سعة الرحمة الإلهية، وعظم الجود والكرم الإلهي، فربما تألى على الله، وادعى أن من لم يقم الليالي كلها، فلن ينفعه قيام ليلة السابع والعشرين، حتى يجد في العشر كلها..
من أين له ذلك ؟، وكيف أتى بهذا ؟.
إن كل ما ورد عن الله تعالى في الثواب والأجور، ليس بينها وبين اجتهاد الإنسان نسبة وتناسب، كلها تفوق العمل وتزيد عليه بدرجات بعيدة؛ قطرة في بحر.
يقول المسلم الحديث إسلامه: (لا إله إلا الله)؛ يشهد الشهادتين، ثم يموت قبل التمكن من الصلاة والعمل الصالح، فيدخل بالكلمة وحدها الجنة، فأين عمله من ثوابه ؟.
وآخر يمد له يوم القيامة تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، ليس فيها إلا جرمه وهتكه للحرمات، حتى إذا رأى نفسه هالكا، أخرجت له بطاقة فيها: (لا إله إلا اله). فتوضع البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فتطيش السجلات، وتثقل البطاقة، فيدخل الجنة.
وأناس يدخلون الجنة، لم يعملوا خيرا قط.
وفي الدنيا أنواع من الذكر، كتب لها من الأجور ما يفوق جهد القيام بها أضعافا مضاعفة، يكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
(ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم ؟. قالوا: بلى. قال: ذكر الله) رواه الترمذي.
وقوله: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) متفق عليه.
وقوله: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان والحمد لله تملآن – أو تملأ – ما بين السموات والأرض) رواه مسلم.
أين الجهد في هذا العمل من قدر ثوابه الذي يملأ السموات والأرض، ويثقل بالميزان ؟.
لا نسبة ولا مقارنة، تلك طريقة الإله الجواد الكريم مع الذين صدقت نياتهم، وحسنت ظنونهم بالله تعالى، ولو قصرت أعمالهم، أو قلت وضعفت.
فإياك وإياي أن نضيق رحمة الله على العباد، ونمنعهم من عبادات قليلة جادت بها نفوسهم، بدعاوى من مثل: إن الله تعالى لا يقبل إلا ممن أتعب نفسه وأضناها في عبادته.
نعم التعب والضنى من علامات القبول والثواب والأجور، والأجور على قدر المشقة، لكن ليس وحده هو الشرط، بل وحده لا يكفي، فكم في الأمم من أزرى ببدنه، وشدد على نفسه، فكان في زمرة الرهبان، المعتزلين للناس والشهوات، ثم لم ينفعه ذلك عند الله بشيء، فكان كمن قال الله تعالى فيهم: {عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية}.
كما يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه تلاها وبكى، حين رأى راهبا يجد ويجتهد في صومعته، وقد رأى ضلاله عن السبيل مع ذلك.
لا بد مع التعب من حسن النية والظن بالله تعالى، والإخلاص لله تعالى، وموافقة السنة..
والمرء إذا عمل قليلا واثقا حسن الظن بربه، مقرا معترفا بتقصيره، خجلا من ذنوبه: فإن الله كريم جواد، لا يرده لقلة جده واجتهاده، أو ترقبه للمواسم بل يعطيه فوق ما يأمل..
فهو يعطي أدنى أهل الجنة منزلة - وهو آخر الموحدين خروجا من النار، وآخرهم دخول الجنة - يعطيه مثل ما لعشرة من ملوك الأرض..
هذا أفسق وأظلم أهل الإسلام وأكثرهم ذنوبا وجرما، الذي لم يستحق الجنة إلا بعد المرور على النار أمدا: بهذا عامله، وهذا ما أعطاه..
لم يحرمه الثواب العظيم، ربما نفعه ما كان يرصده ويترقبه؛ وقتا يظن فيه القبول والرضا من الله تعالى، وحصول الثواب الجزيل، ولو كان مفرطا فيما سواه من الأوقات ؟.
بل أعطى من ليس له غرض في الثواب ولا الرضا منه تعالى، رجل جاء وجلس إلى مجلس ذكر، ليس غرض إلا الدنيا، يغفر الله لأهل المجلس كلهم، ثم يلحقه بهم.
في الحديث، يقول الله تعالى: (قد غفرت لهم، وأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا). فتقول الملائكة: ( رب!، فيهم عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم [ في رواية لمسلم جاء لحاجة]، فيقول: وله غفرت. هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). متفق عليه
أفلا يعطي من حسنت نيته وقصده للحظات، وتطلع إلى رحمته لساعة أو ليلة ؟.
في هذا السياق، ما أحسن الأثر الذي رواه عبد الله بن عمر: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس.
أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا، فأعطوا قيراطا قيراطا.
ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا، فأعطوا قيراطا قيراطا.
ثم أوتينا القرآن، فعلمنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أي ربنا!، أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطا قيراطا، ونحن كنا أكثر عملا؟. قال الله عز وجل: هل ظلمتكم من أجركم شيئا ؟. قالوا: لا. قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء). البخاري/ مواقيت الصلاة/ باب: من أدرك ركعة من العصر.
نعم هو فضله، وقد ميز هذه الأمة بمزيد فضل على الأمم، يعملون قليلا يؤجرون كثيرا.
وله نفحات وبركات، من تعرض لها، عارفا بوقتها، قاصدا، واثقا بفضله، مقبلا عليه، فإنه كريم لا يرده، ولو اختلطت نيته بشيء سوى الشرك، ولا يملك أحد أن يدفع هذه الرحمة عنه، مهما بدا في النظر غير مستحقا.
قد نالها من ولد على الشرك، ونافح عن الظلم والكفر، ثم كانت لقلبه التفاتة إلى الإسلام، وخفة إلى الإيمان، فأخذ الله بيده، فجعله من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو شرف ما بعده شرف، فأين كان، وإلى أين صار ؟.
لله في عباده أقدار وشئون لا نعملها، ولا نقدرها حق قدرها، ولما قصد إلى خلق البشر، قال للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفة}، فبادروا: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون}.
يعلم ما لا تعملون؛ يعلم السر وأخفى، ويعلم المفسد من المصلح، يعلم من يموت على خير، ويفعل الخير، وله الحكمة الباهرة، والقدر السابق الذي لا يرد ولا يبدل.
والأصل الأصيل الذي قدمه وبنى عليه الدين هو: الرحمة الواسعة.
يقبل بها عتاة المجرمين حين يقبلون، ويتجاوز بها عن الذنب الكبير حين ينكسر القلب، أو يتطلع إلى الرحمة في لحظة تمر به. وما أحسن ما أفتى به الإمام الموفق ابن تيمية في الذين يرتكبون بعض البدع كالموالد، ودافعهم حب الله ورسوله:
أن لهم أجر نيتهم، وهم مثابون على ذلك، ولو أخطئوا بفعل البدعة.
بنى قوله على ذلك الأصل الكبير، حيث ظنوا أنه عمل مقرب، ولم يظنوها بدعة، فلم يؤاخذهم بهذا الجهل، لأن من فروع هذا الأصل الكبير: عذر الجاهل العاجز عن رفع الجهل لأمر ما. {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}.
موافقة السنة من أعظم القربات لا شك، لكن من لم يعرفها فركب بدعة:
فهو إما قادر على معرفتها، فهذا يلام، إلا أن يكون مجتهدا بنية خالصة ليس فيها الهوى.
أو عاجز عن المعرفة، فهذا لا يكلفه الله إلا ما يطيق، ولا يحرمه أجر عمل تقرب به إليه، إلا أن يكون عملا باطلا من كل وجه كالشرك ونحوه، لا العمل الذي أصله مشروع، والبدعة في صيغته وهيئته، فهذا يثيبه على صدق نيته في التقرب.
هذا ما خلصت إليه الفتوى التيمية، وهي تحفها أنوار الإيمان والرحمة.


 

د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية