اطبع هذه الصفحة


توبة ساب النبي صلى الله عليه وسلم

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه


بسم الله الرحمن الرحيم
توبة ساب النبي صلى الله عليه وسلم


من أعظم الذنوب والآثام، والتي تستوجب: كفرا، وعقوبة بالقتل حدا أو ردة في الدنيا، وفي الآخرة عذاب شديد في جهنم. التعرض لمقام النبوة بـ:سب، أو سخرية، أو انتقاص.

قد غُلّظ في عقوبة هذا الذنب، حتى وصل حدّ الحكم بكفر فاعله، من دون اعتبار لجهل ونحوه، بالنظر إلى أن المتعرض لمقام النبوة بما لا يليق، لم يكن يفعل ذلك لو كان في قلبه شيء من الإيمان، ففعله دليل انتفاء الإيمان منه، أو عدمه أصلا، كما لو سب الله تعالى أو سب الدين، فإنه لا يعذر، يستثنى من هذا أحوال خاصة، كالجنون وما كان في حكم الجنون كالمصروع ومن تلبس به الجان، فيتكلم بغير إرادة منه.

هذا الحكم الحازم في حق من تعدى على مقام النبوة حكم عادل، وليس فيه ظلم..

فإن مجرد التعدي على آخر – ولو كان من عموم الناس - ممنوع في كافة القوانين، وللمعتدى عليه أن يتقدم إلى القضاء بطلب محاكمة المعتدي، وكلما ارتفعت مقامات الناس، كلما كان إثم المعتدي وعقوبته أعظم، هذا معروف لدى الناس.

ونبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو أعلى البشر مقام؛ هو (سيد ولد آدم ولا فخر)، وهو الشافع المشفع، وحامل لواء الحمد يوم القيامة، وصاحب المقام المحمود، الذي يتكلم ويتقدم على غيره من الأنبياء.

فهو في نفسه معظم، ولغيره رحمة ونعمة: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، فقد أخرج الله تعالى به الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم به من الضلالة، وجمعهم بعد أن كانوا مفرقين، ورفع قدرهم وقد كانوا موضوعين، جعلهم أمة واحدة، وفي سالف أمرهم كانوا شيعا وأحزابا: {كل حزب ما لديهم فرحون}.

والمنة العظمى له على الناس، أنه حماهم - بإذنه تعالى - من جهنم، فصرف عنهم شررها، وذب عن وجوههم نارها: (مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا، فجعل الفراش والهوام يقعن فيه، ورجل يذب عنهن، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تأبون إلا أن تقتحموا فيها).

بذل العمر، والجهد، والراحة، والنعيم، والمال، والنفس من أجل هداية الخلق، ورضي بترك أحب البقاع إليه، وهاجر خفية يتقي أعداءه، وصبر على المشقة والكبد والتعب، وزهد في الدنيا، ولم يشبع من طعام قط، ولو أراد أن يجمع الدنيا وينعم بها، لكان له ما أراد، لكنه آثر أمته على نفسه، فأعطاهم وحرم نفسه.

كل ذلك يعظم حقه على الناس، ويوجب عليهم شدة إجلاله؛ إذ كان صاحب منة عليهم، وصاحب المنة يكافأ بما يليق ويستحق، فإذا ما قوبل بضد ذلك من انتقاص، أو سخرية، أو سب كان دليلا على جهل بقدره، مع خلو القلب من الإيمان؛ لأجله استحق عقوبة مغلظة.

هذا من جهة تعليل العقوبة عقلا، أما تعليلها شرعا؛ فإنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بقتل جماعة ممن تخصصوا في أذاه، وعامتهم من اليهود والمشركين، كـ: كعب بن الأشرف، وأبي رافع سلام بن أبي الحقيق، وابن خطل وجاريتيه وغيرهم. فإنهم كانوا يهجون النبي صلى الله عليه وسلم ويشتمونه، يفعلون ذلك ويعاودون، نفوسهم مردت على الكفر والنفاق، فما كان لهم دواء سوى قتل ما فيهم من شر.

ففعله وأمره صلوات الله وسلامه عليه، أقوى وأظهر الحجج في قتل من سبه، وعليه:

فإن العلماء اتفقوا – من حيث الحكم في نفسه – على: أن سب النبي صلى الله عليه وسلم كفر لذاته، يوجب القتل.

ثم اختلفوا بعد ذلك، حين إيقاع الحكم على ساب بعينه.

فمنهم من قال: يقتل بلا استتابة؛ فإن لم يتب فيقتل ردة، وإن تاب فتوبته بينه وبين الله، ويقتل حدا، فسب النبي له حد، هو: القتل. كما أن للقتل والزنى وشرب الخمر حدا.

أي إنه في كل الأحوال عليه القتل، وهذا القول هو المشهور عند الحنابلة والمالكية، وبه قال الأئمة مالك والشافعي وأحمد في رواية لهم.

وآخرون قالوا: لا يقتل إلا بعد الاستتابة، فإن تاب لم يقتل، ويعزر وينكل به بما يراه الإمام، وإن لم يتب يقتل. فهؤلاء أنجوه من القتل إن تاب، وهذا القول المشهور عند الشافعية، وقول أبي حنيفة والأحناف، وهو الرواية الأخرى للأئمة الثلاثة.

كل هذه الأقوال موجودة في كتب الحنابلة كالهداية لأبي الخطاب، وكتب الشافعية كالروضة، وكتب المالكية كالشفا، وكتب الحنفية كمختصر الطحاوي. وقد نقلها ابن تيمية في الصارم.

وفي فتاوى اللجنة الدائمة بتوقيع: ابن باز، عفيفي، ابن غديان [رقم 9407، 2/17-18]: (سب الله ورسوله وسب الدين كفر أكبر وردة عن الإسلام، فيستتاب، فإن تاب قائلها وإلا وجب على ولي الأمر قتله).

نلحظ من استقراء أقوال الأئمة الأربعة وأتباعهم: أن القول بقبول توبته أو عدم قبولها، قولان متكافئان عند الأئمة الذين يتبعهم المسلمون.

ينبني على هذا: أن قتل الساب مسألة خلافية، والخلاف فيها سائغ، وليس من قال بعدم الاستتابة، أكثر دينا وأحب وأنصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ممن قال بالاستتابة.

فإن الأئمة الثلاثة قالوا بالقولين معا، اجتهدوا بمرة بهذا القول، ومرة بهذا القول، والجميع متفق على هذه الثلاثة: كفر الساب، ومحاكمته، وقتله إن لم يتب. مختلفون في قبول توبته.

ومن قبل توبته فله في رسول الله صلى الله عليه وسلم سلف، فقد تجاوز عن قتل بعض من سبه، مع ثبوت السب عليه بالقرآن، وهو ابن أبي بن سلول، حيث قال أسوأ ما يقال: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل}. فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه وتركه، مع علمه به، وقال لولده عندما تبرع بقتله: (لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه).

وقام رجل إليه وهو يقسم مالا بين أصحابه، فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( وَيْحَكَ، أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ بِأَنِ اتَّقِيَ اللَّهَ؟ ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَامَ خَالِدٌ سَيْفُ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: "لا، إِنَّهُ لَعَلَّهُ يُصَلِّي، قَالَ: إِنَّهُ إِنْ يُصَلِّي يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، قَالَ:أِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَشُقَّ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ).

فهذا انتقاص، لكنه لم يقتص منه بأي نوع من القصاص؛ لأمر رآه راجحا، وقرر قاعدة مهمة في معاملة الناس، هو: اجتناب الحكم على بواطنهم، حتى يظهروا هم ما في قلوبهم.
 

* * *


فقد اقتص وعفا، فمن اقتفى أثره في القصاص، فقد اقتدى، ومن اقتفى أثره في العفو، فقد اهتدى.

ولكل مقام مقال، ففعله صلوات الله وسلامه عليه كله تشريع وتعليم، وفقه وسنة، فمثل هذا منه، دليل على أن المسلمين لهم أن ينظروا في ظرفهم، ويختاروا الأنسب.

فإن كان إنفاذ القتل يفضي إلى مفاسد أكبر، يضر بالمسلمين، أو يسلط عليهم ما لا يطيقونه، فليتبعوا سنته صلى الله عليه وسلم مع أُبي، ترك قتله، ولهم تعزيره.

وإن كان الأحسن إنفاذه، وبه تكف شرور كثيرة، فالسنة ما فعل مع كعب وأبي رافع وغيرهما.

فتقدير المصلحة؛ بمراعاة الظرف، وحال الساب، إن كان ماردا شيطانا، أو مغررا به.. أحمقا أرعنا، أو ماكرا.. حدثا غرا، أو شيخ ضلالة، كل هذه الأحوال مؤثرة في الحكم، ويستفاد فيها من تنوع أحكام النبي صلى الله عليه.

هنا ينبغي ألا تفوت مسألة متعلقة بالتوبة، وهي: أنه إذا صدرت من الساب توبة، وتأيدت بمصادر عدة من مقربين ومطلعين على حال، فلا يجوز تكذيب نسبتها، أو التشكيك في صدق قائلها؛ فإن الذي يتوب ويغفر لعباده هو الله تعالى، وهو أعلم بحال التائب، والناس يؤخذون بظواهرهم، وسرائرهم إلى الله تعالى، هكذا هي سنة النبوة.

قتل أسامة بن زيد رجلا - في واقعة حرب - بعد أن قال: لا إله إلا الله. فقال له: أقتلته بعدما قالها. قال: قالها تعوذا. [أي لم يصدق فيها]، قال: أشققت عن قلبه.

وقال: (أِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَشُقَّ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ).

فكما نغضب لسب النبي صلى الله عليه وسلم، فعلينا أن نفرح لتوبة الساب، والتوبة النصوح لها أمارات وعلامات، لا يخطئها الصادق المؤمن، الذي ينظر بنور الله.

هذا التوازن في المواقف مهم جدا، فليس الانتصار والغضب لمحارم الله بأقل ثوابا عند الله، من تقبل المسيئين، فإن لم نفعل ذلك لهم، فأبوابه مفتوحة ليل نهار، وليس يضره إن أغلقنا أبوابنا، بل نضر أنفسنا، من جهة التقصير في الأخذ بكل الكتاب.

ونضر أنفسنا إذا انصرف هذا المسيء عن باب الله تعالى، إذ وجده موصدا في وجهه، فلم يجد لنفسه موئلا، فيعود من حيث أتى، فكيف لنا أن نحتمل هذا، مع ما فيه من صد عن سبيل الله تعالى، وإغراء لغيره بالتمادي في كفره وإساءته؛ حين لا يجد صدورا تتقبله، ومع ضعف سلطان الشريعة، سيكثر هذا النوع، ويزداد حنقا على من قنطه من رحمة الله تعالى.

إن ما يحدث لم يكن لو كان للشريعة قوة وصولة على الرعاع، وهذا نذير شؤم علينا، ونحن نراه في كل شيء، يكفي من ذلك تأخر القطر؛ نستستقي في العام عشر مرات ثم لا نسقى.

نعم، هذا مؤلم جدا، لكن الحدث له جانبان: إساءة، وتوبة. فتعطى الإساء حقها من الصد والرد، والتوبة حقها من القبول والاحتضان. فلا ينسى هذا في هذا. ونحن نقرأ قوله تعالى لنبيه:{ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون}.


 

د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية