اطبع هذه الصفحة


من الخارجي؟

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
@khojah10


بسم الله الرحمن الرحيم


أعظم داء ابتليت به الأمة الإسلامية من داخلها هي: فتنة الخوارج.

وفتنتهم من جهة أنهم نبغوا من رحم الأمة، والأدواء من الداخل - في أحيان كثيرة - تكون أعسر وأخطر من التي تأتي من خارج؛ إذ تتربى في الأحضان بسعي وجهد الذات، على حين غفلة من شأنها وحالها؛ لتكون يوما ما عدوا وحزنا بالإثم والعدوان.

وللخوارج فتنة أخرى هي فتنة الدين؛ أنهم يصدرون بلباس الدين والتقوى، فيغتر بهم الجاهل، فيظن أنهم على هدى، وأن فعلهم يحبه الله تعالى؛ ولذا كان عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله يعد قتله عليا رضي الله عنه – الذي هو الخليفة الراشد الرابع، وأحد العشر المبشرين بالجنة، وأول الفتيان إسلاما، ومن مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض - أعظم قربة تقرب بها إلى المولى سبحانه! يشاطره الرأي في هذا جميع الخوارج، منهم عمران بن حطان، الذي قال:

يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيَ مَا أَرَادَ بِهَا إلاَّ لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي العَرْشِ رِضْوَانا

إنِّي لأَذْكُرُهُ يَوْماً فَأَحْسَبُهُ أَوْفَى البَرِيَّةِ عِنْدَ الله مِيزَانا

ثم كذلك من فتنتهم في الدين: أنهم يصدون عن سبيل الله تعالى بأفعالهم الشنيعة؛ تكفير مخالفهم واستحلال الدماء، فغير المسلم إذا رأى ذلك، ساء ظنه بالإسلام نفسه فأعرض عنه، كما هو الحال اليوم، حينما يتناقل في الإعلام صور الذبح والقتل – من الوريد إلى الوريد - التي تنال أهل الإسلام قبل أهل الأوثان، فتكون سببا في الصد عن سبيل الله، فما بهذا يقبل الناس على الإسلام، وقد توعد الله تعالى من صد عن سبيله بقوله: {ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم}.

وقد توج الخوارج فتنتهم بالخروج على الأمة، ونفورهم من الجسد الواحد إلى المنازعة والمشاقاة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والجماعة، بزعم إقامة الحق، وهم إنما أقاموا الباطل والضلالة، وأي دليل على ضلالهم من انحيازهم عن معسكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان، المرضي عنهم المتفق على إمامتهم في الدين، إلى معسكر مجهول الحال والمآل، معسكر عبد الله بن وهب الراسبي ونافع بن الأزرق ونجدة العامري وغيرهم من رؤوس الخوارج في زمن الصحابة رضوان الله عليهم، أيتركون فريق أهل الرضوان والسبق بالإسلام، ليلحقوا بفريق سيماهم: التحليق، والسفاهة، والجهل، والتكفير، والقتل. قد ذموا بأوصافهم هذه في كلمات النبوة، ثم يكونوا من بعد ذلك من المهتدين؟.

اللهم لا، أو تكون أمة محمد كلها على ضلالة، وذلك محال.

فعلامة الخوارج الذي يميزهم عن غيرهم، بحسب ما جاء في وصفهم بالحديث النبوي، وما ذكره المصنفون في الفرق، أنهم: يكفروا عليا وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، ويكفرون بالكبيرة ومن خالفهم، ثم يخرجون على الأمة، ثم يقاتلونها. ثم يحكمون على صاحب الكبيرة بالخلود في جهنم. فهذه إذا اجتمعت في قوم فهم خوارج، وإن وجد فيهم بعضها، ففيهم منهم بقدره.

فأما تكفيرهم بالكبيرة، فذلك منذ حادثة التحكيم في وقعة صفين؛ الحرب التي كانت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، خرجوا على الفريقين، وانحازوا وحدهم، وتمردوا على علي رضي الله عنه وقد كانوا معه، وزعموا أنه كفر ومن معه صاروا كفارا، ذلك لأنه لم يوافقهم على رأيهم في العودة لقتال معاوية رضي الله عنه، فصار كل من خالفهم مذنبا، ومن أذنب عندهم فقد كفر، فكفروا صاحب الذنب ومن خالفهم، وذهب بعضهم إلى كفر من ركب أي ذنب كان صغيرا أم كبيرا، لكن جلهم قالوا: يكفر بالكبيرة دون الصغيرة. وهكذا كفروا من ركب الكبيرة مطلقا، فصار هذا علامة مميزة عليهم، فمن قال بقولهم هذا فهو منهم، وعلى هذا أجمعت الخوارج إلا النجدات منهم، كما يقول الأشعري في "المقالات" (1/168):

"وأجمعوا على أن كل كبيرة كفر، إلا النجدات، فإنها لا تقول ذلك.

وأجمعوا على أن الله سبحانه يعذب أصحاب الكبائر عذابا دائما إلا النجدات".

ونصر قوله هذا البغدادي في "الفرق بين الفرق"، وإن كان حكى عن الكعبي نسبته القول بتكفير صاحب الكبيرة إلى جميع الخوارج، فقال (55-56):

"وقد اختلفوا فيما يجمع الخوارج على افتراق مذاهبها، فذكر الكعبي في مقالاته: أن الذي يجمع الخوارج على افتراق مذاهبها: إكفار علي، وعثمان، والحكمين، وأصحاب الجمل، وكل من رضي بتحكيم الحكمين، والإكفار بارتكاب الذنوب، ووجوب الخروج على الإمام الجائر".

ثم قال عن شيخه أبي الحسن الأشعري: "ولم يرض ما حكاه الكعبي من أجماعهم على تكفير مرتكبي الذنوب. والصواب ما حكاه شيخنا أبو الحسن عنهم، وقد أخطأ الكعبي في دعواه إجماع الخوارج على تكفير مرتكب الذنوب منهم، وذلك أن النجدات لا يكفرون أصحاب الحدود موافقتهم، وقد قال قوم من الخوارج: إن التكفير إنما يكون بالذنوب التي ليس فيها وعيد مخصوص، فأما الذي فيه حد أو وعيد في القرآن، فلا يزاد صاحبه على الاسم الذي ورد فيه".

وقد عدد أبو الحسين الملطي في "التنبيه والرد" (47-54) فرق الخوارج، فنسب إليهم جميعا كلهم القول بتكفير أصحاب المعاصي، من: الشراة، والأزارقة، والعمرية، والشبيبية، والنجدية، والإباضية، والصفرية، والحرورية، والحمزية، والصليدية. عشر فرق كلها تكفر مرتكب المعاصي.

وهكذا اتفق العلماء على هذه العلامة المميزة للخوارج، وهي: تكفير صاحب الكبيرة. لكن اختلفوا في الإجماع، فمنهم من يقول: أجمعوا كلهم. ومنهم يقول: أجمعوا إلا النجدات.

تلك علامة على الخوارج، وأخرى هي: الخروج على جماعة المسلمين. وإذا خرجوا تبعته علامة ثالثة أيضا، هي: القتال واستحلال الدماء. فقد اتفقت الخوارج على ذلك أيضا، وقد ذكره البغدادي عنهم آنفا، واتفق العلماء على أنه من علامات الخوارج. قال الملطي (ص54):

"أنتم بإجماع الأمة مارقون خارجون من دين الله، لا اختلاف بين الأمة في ذلك، مع أن أفعالكم من إهراق دماء المسلمين، وتكفيركم السلف والخلف، واستحلالكم لما حرم الله عليكم، ظاهرة شاهدة عليكم، بأنكم خارجون من الدين داخلون في البغي والفسوق".

ثم في الحديث لهم أوصاف يشتركون فيها مع غيرهم، كمثل: كثرة قراءتهم للقرآن، وتعبدهم؛ صلاتهم وصيامهم. حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، سيماهم التحليق. علامات يشتركون فيها مع غيرهم في آحادها، لكنهم يتميزون بها مجتمعة فيهم، بإضافة: التكفير بالمعصية والمخالفة، والخروج، والقتل. ويلاحظ في أوصافهم هذه: أنها متناقضة.

فحيث يبالغون في التعبد، يغلون في التكفير.

وحيث يقرءون القرآن، يخرجون على الجماعة.

وحيث يقتلون أهل الإسلام، يدعون أهل الأوثان.

فهؤلاء هم الخوارج، الذين جمعوا بين أوصاف كثيرة، لكن خمسة منها تميزوا بها مجتمعة، هي الكبرى والرئيسة لأثرها البالغ، وهي: إكفار عثمان وعلي رضي الله عنهما، وتكفير صاحب المعصية، والخروج على الجماعة، وقتالها واستحلال الدماء، ثم خامسة ثمرة كل ذلك: الحكم على صاحب المعاصي، أنه خالد في جهنم.

واكتسبوا اسم الخروج من خروجهم على أمرين مجتمعين، هما: الدين، والجماعة.

فمن وقع في الخمسة هذه فهو خارجي لا شك، لكن ما حال من وقع في بعضها؟.

من قال بكفر صاحب الكبيرة وحده، فهو منهم لا شك؛ لأنه قول تميزوا به. لكن من كفر بعض الصحابة، فهناك من يشاركه في هذا المسلك كالرافضة.

ومن استحل الدماء دون تكفير، فالمجرمون والقتلة يفعلونه وليسوا بخوارج.

ومن خرج على الجماعة، فالشهرستاني في الملل والنحل (ص114) يعده خارجيا؛ والبغاة يفعلون ذلك أيضا. وإنما الخارجي الذي امتاز بأوصاف لا يشاركه فيها أحد غيره، فإذا ما استوى هو وغيره في وصف واشتركا فيه، فليس هو بأحق بهذا الوصف من الآخر.

فلا يصح إلحاق أحد بفئة أو فرقة، لمجرد أنه شابههم في بعض أوصافهم؛ فالمسلم ربما شابه النصارى في شيء من أصافهم كالرهبنة، أو شابه اليهود في شيء كالحيلة والخداع، فلا يحل أن يلحق بهم لأجله، لكن يقال: فيه شبه منهم.كما قال سفيان: "من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى".

فإن ظلم الإنسان نفسه وركوبه جرما، لا يسوغ ولا يحل أن يلصق به ما ليس من ذنبه، فالمنحرف في باب التكفير هو ضال مضل، ويكفي لتعريته وتضليله أن يوصف أنه من الغلاة في التكفير، منحرف العقيدة في باب الإيمان، لكن بعض الناس يظن: أنه لا يمكن التحذير منه إلا بإلحاقه بالزنادقة والخوارج. وهذا ليس بلازم، فالضلالة أنواع منوعة، والضلال أصناف وأشكال.

نأتي إلى أولئك الذين خرجوا على الجماعة اليوم، فكفروا المسلمين وكل من خالفهم، واستحلوا دماءهم؛ لنعرضهم على صفات الخوارج، إن كانوا منهم، أو فيه شبه منهم:

إنهم يتفقون مع الخوارج في تكفير من خالفهم، لا مرتكب الكبيرة وعثمان وعلي رضي عنهما، وهم متسرعون في التكفير بلا شروط، وهم يخرجون على الجماعة، ثم يستحلون قتل المسلمين.

ففيهم من أوصاف الخوارج أكثرها، وفيهم من أوصاف البغاة كذلك؛ لأن البغاة يخرجون ويقاتلون وإن كانوا لا يكفرون، فهم خليط بين بغي وخارجية، مما يوجب الحذر منهم، ومن مسالكهم، فما كل من ظاهره التدين فهو صالح، بل قد يكون ضالا مضالا، والميزان في ذلك: موافقة جماعة العلماء والأمة من لدن الصحابة إلى اليوم. فمن خالفهم فهو ضال، وهؤلاء الذين ضلوا السبيل لا تجد بينهم عالما معتبرا، ولا عالما يؤيد أفعالهم، وكفى بهذا آية على جنوحهم عن الصراط المستقيم، واتباعهم صراط المغضوب عليهم والضالين.

 

د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية