اطبع هذه الصفحة


الإساءة

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
@khojah10


بسم الله الرحمن الرحيم


عند اجتماع الناس لا يأمن المرء من تصرف سخيف يقابله به أحدهم، يؤذيه به، بغير حق، في بدنه، أو نفسه، أو ماله، أو أهله، أو أولاده. فلا يمر يوم، هنا وهناك، دون حدوث مشادة، ومخاصمة، ومدابرة، ومقاطعة، ومقاتلة، وظلم وعدوان.
بعضهم يستجيب لضغوط النفس، فينتقم ويرد بالمثل وزيادة، ولا يرى الشفاء إلا في تأديب الجهلة المعتدين، بالقول الحاد، وربما القبيح، وبالثأر والانتصار، من باب قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}، وقوله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}.
فقد تخبو الفتنة بذاك، وقد تزداد، لأن الجاهل لا يفهم معنى العدالة، ولا يقر بأنه يستحق العقوبة، كأنه يرى لنفسه حقا أن يؤذي من يشاء، كما يشاء، أين شاء، ولا يحق لأحد القصاص منه؟!.
وإذا كان من العسير تحقيق العدالة سريعا، لأسباب شتى، منها لجاجة الجاهل، وامتلاك الشر نفسه، وعدم إقراره على نفسه بالخطأ، فإنه حينئذ من الخير الإعراض عنه، وتركه، فليس له دواء يشفيه كهذا، كما قال تعالى:
- {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}.
- {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}.
- {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}.

وهذه مرتبة على النفس شاقة، ولا يقدر عليها إلا الصابرون، أهل الرحمن، المصلحون، لكن ههنا ثمة أمور تعين على اكتساب هذه الفضيلة، والتخلق بها، هي:

- أولا: معرفة أن الأصل في الدنيا الشر.
الأصل في هذا العالم الشر، والأصل فيه الظلمة، ولولا الله سبحانه لم يكن في الأرض من خير، قال الله تعالى:
- {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء}.
- وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا معلونة، معلون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، أو عالم ومتعلم).
فإذا عرف الإنسان أن الأصل في هذه الدنيا الشر، فعلام يعجب من خطأ زوجته، أو ابنه، أو أخيه، في حقه، فضلا عن البعيد؟، بل يعجب منهم إذا أسدوا إليه خيرا ؟!!.

- ثانيا: لا مفر من القدر.

ما يصيب الإنسان من شر فإنما هو بقضاء الله وقدره لا مفر منه، كالبرد والحر والمرض والضيق والموت، وهذا يدفع إلى الصبر، فالإنسان لا يقدر على تغيير قضاء الله إذا وقع، لكن بمقدوره الصبر.
- {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور}.

- ثالثا: من لم يصبر اختيارا، صبر اضطرارا.

الصبر نوعان: اختياري، واضطراري. ومن لم يصبر اختيارا، صبر اضطرارا، وبينهما فرق، فالصابر اختيارا مثاب في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:
- {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}.
- {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}.
وهذا يدفع إلى العفو والصفح، فيصبر بإرادته على من أساء إليه، ليحصل الثواب.

- رابعا: الصفح خير.

ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيرته مثلا رائعا في العفو، جاء يهودي يتقضاه دينا قبل أن يحل الأجل، فأغلظ عليه اليهودي، فهم به أصحابه، فنهاهم، فقال اليهودي: كل شيء منه قد عرفته من علامات النبوة وبقيت واحدة، وهي أنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فأردت أن أعرفها، فأسلم اليهودي لما ثبت عنده أنه نبي، بما رأى من عفوه. [رواه ابن حبان وأبو الشيخ في أخلاق النبي انظر زاد المعاد 1/167].
فالعفو والصفح عن المعتدي من الرحمة به، فهو جاهل حين أخطأ، وهو محتاج إلى العفو والرحمة، ليتعلم كيف هو الخلق الحسن، أكثر من حاجته إلى أن المبادلة بالمثل، وإثارة نوازع الشر فيه.
ومن عفا وصفح رزقه الله حلاوة الإيمان، ولذة العفو، وصار قلبه مطمئنا، وهو من أسباب دخول الجنة.

- خامسا: المسيء يهدي حسناته.

الجاهل بإساءته يهدي حسناته، يمحوها من صحيفته، فيكتبها في صحيفة من ظلمه، فمثله يجب أن يكافأ بالإحسان لا بالإساءة، فقد كان سببا في تكفير السيئات وغفران الذنوب ورفعة الدرجات.
وانظر كيف عفا يوسف عليه السلام عن إخوته، وقد مكروا به فألقوه في البئر فعاش طريدا عبدا مملوكا، ثم مسجونا، فلما ملك ما كان منه إلا العفو والصفح عنهم، وقال لهم:
- { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}.
- ولما صارت قريش تحت حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ ، قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
هذا مع أنهم أخرجوه وحاولوا قتله، وقتلوا أصحابه، وأخذوا أموالهم وديارهم، فقد كان أذاهم سببا لعلو درجتهم ومنزلتهم عند الله، ونيلهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، ولولا تلك المحن والمصائب ما نالوا ذلك الخير العظيم، فالله تعالى يبتلي عباده بعضهم ببعض لينظر من يصبر ومن يتقي ومن يعدل، ومن يرضى ويصلح، قال تعالى:{ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} .

- سادسا: جزاء الإحسان إحسان.

{ هل جزاء الإحسان إلا إحسان}، فإذا أحسن المرء إلى هذا الجاهل مع إساءته إليه، فإنه ينال إحسان الله تعالى أحوج ما يكون إليه، جاء في الأثر الصحيح: ( أن رجل كان يداين الناس، فيقول لفتاه: إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فلقي الله فتجاوز عنه). متفق عليه.
وفي رواية أن الله تعالى قال:( نحن أحق بذلك منه، تجاوزوا عنه) رواه مسلم.

- سابعا: سلامة القلب أحسن.

سلامة القلب وبرده بالعفو والإحسان، خير من حرقته بالثأر وطلب الانتقام، فإن سلامة القلب من الغل ومن حب الانتقام واجب، فالقلب لم يخلق لذلك، فإن ذلك يصرفه عن مصالحه، وإذا انتقم، فإنه لا يأمن أن يرد عليه خصمه بالمثل، فيقع في الخوف، وتزرع العداوة بينهما، ويذهب العمر في الأحقاد، لكن إذا عفا وأصلح، فإنه يكسر شوكة عدوه، ويكف جزعه، ويريح قلبه، قال تعالى:
- {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}.

- ثامنا: الأجر أجر الآخرة.

من باع نفسه لله تعالى، فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأعراضهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فلا يطلب أجرا في الدنيا، وإذا آذاه الناس وتطاولوا على عرضه، فلا ينتصر لنفسه ولا يثأر حتى لا يفسد عقد البيع.
ولما فتح الله مكة على المسلمين، منع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين من سكناها، ولم يرد على أحد منهم داره، ولا ماله الذي أخذه الكفار، ولم يضمنهم دية من قتلوه في سبيل الله، ولذا أجمع الصحابة على عدم تضمين أهل الردة ما أتلفوه من نفوس المسلمين وأموالهم، وقال عمر: "تلك دماء وأموال ذهبت في الله، وأجورها على الله، ولا دية لشهيد".
فمن كان عمله لله تعالى، ينتظر الثواب من الله تعالى، لم يجز له الانتقام.

- تاسعا: كن عبد الله المظلوم، ولا تكن الظالم.

أن يكون المرء مظلوما يترقب النصر والثواب، خير له من أن يكون ظالما يترقب من الله المقت والعقاب.
فالله تعالى بشر المظلومين، وتوعد الظالمين، أثنى على المظلومين، وذم الظالمين، والظلم ظلمات يوم القيامة.
- {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع}.
- قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته). متفق عليه
- وقال: (واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). متفق عليه

- عاشرا: الأذى تكفير للسيئات.

من رحمة الله تعالى أنه يكفر خطايا المظلوم بأذى الناس له، فما يصيب المؤمن من هم ولا أذى إلا كفر الله عنه بها خطاياه، فالأذى والمصائب يستخرج بها أمراض القلوب، وما وقعت مصيبة إلا بذنب:
- قال تعالى:{ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}.
- قال بعض السلف:"إني لأجد أثر معصيتي في خلق زوجتي ودابتي"، فالزوجة تؤذيه ويشقى بها، والدابة تنفر منه وتعطله، بسبب معصيته.
والمصيبة في الدنيا أهو من المصيبة في الدين، والعقوبة المعجلة خير من ادخارها إلى يوم القيامة.
 

* * *


هذا وقدوة الصابرين العافين عن الناس في هذا الخُلق خلقُ العفو والصفح والإحسان هم الأنبياء قال تعالى:
- { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين}.

* * *

أعظم دافع.
إن الجامع لحسن الخلق هو الإيمان بالله وتوحيده، فإذا امتلأ القلب بمحبته والإخلاص له والتقرب إليه والاشتياق إليه، واتخاذه وليا ونصيرا، وتفويض الأمر إليه، والرضى بقضائه، والتوكل عليه، فلا يبقى في القلب متسع لشهود أذى الناس، فضلا عن اشتغاله بطلب الانتقام، فطالب الانتقام فارغ القلب من محبة الله والإخلاص له، فقير من الإيمان، ولو امتلئ بمحبة الله لم يكن فيه محل للحقد والثأر والانتقام.
ولا تتم كل تلك المراتب لحسن الخلق، من صبر، ورضا، وعفو، وحلم، وإحسان، وسلامة قلب، وتفويض الأمر إلى الله، وطلب الثواب منه، ورؤية نعمة الله في المصيبة، كل ذلك لا يتم إلا:
بتحسين الخلق مع الله تعالى:
- بأن يعلم أن كل ما يأتي منه من طاعة يوجب عليه أن يعتذر إلى الله منها، لما فيها من التقصير والتفريط.
- وأن يعلم أن كل ما يأتي من الله تعالى يوجب عليك الشكر والحمد.
فأنت ناقص وعملك ناقص والخلل فيه كامن، فلذا يجب عليك الاعتذار إلى الله منها والحياء منه، والله تعالى كامل وكل ما يأتي منه فهو كامل وهو الغني عن عباده،ولذا يجب عليك الشكر ، قال تعالى:
- {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة}، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هو الرجل يصوم ويتصدق ويخاف إلا يقبل منه).
ومدار حسن الخلق على كلمتين: "كن مع الله بلا خلْق، ومع الناس بلا نفس".
فإن سوء الخلق مع الله: أن تجعل بينك وبين الله وسائط تدعوهم وتشرك بهم.
فكن مع الله تعالى، ولا تلتفت إلى الناس، وأخرجهم من قلبك، ولا تتعلق بهم، بل اجعل قلبك كله لله تعالى، هذا هو حسن الخلق مع الله، فإذا حصلته، فقد حصلت حسن الخلق كله.
وسوء الخلق مع الناس: أن تطلب حظوظ نفسك منهم، وتقدمها عليهم، ولا ترى فضلا إلا لنفسك. وحسن الخلق معهم: أن تؤثرهم، ولا تطلب منهم شيئا لنفسك.
فإذا فعلت أحبوك وقدموك وأجلوك.. ( مدارج السالكين منزلة الخلق)
 

* * *

 

د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية