اطبع هذه الصفحة


حدثان..؟!.

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه

 
هما حدثان:
- نصرة المسلمين للنبي صلوات الله وسلامه عليه بعامة.
- وحرصهم على صيام تاسوعاء وعاشوراء بعامة.
كشفا عن: حب المسلمين لدينهم، ونبيهم.
ودلاّ على: تدينهم، وقربهم من الدين. وحرصهم على الخير والبر.
وأعطيا أملا: أن جهد الصالحين والأخيار، لن يذهب سدى.
وأثبتا: خطأ من أساء الظن بالمسلمين، وحكم بهلاكهم، لما يرى من كثرة معاصيهم.
وحملا: على التساؤل: إذا كان هذا هو حب المسلمين لدينهم، ونبيهم: فلم كثر فيهم الشهوات المحرمة، حتى ضج العقلاء والأخيار من حال آلت إليه أمة الإسلام ؟!.
وأوجب : على العلماء والدعاء أن يتمثلوا الصدق في قولهم وعملهم، حتى لا يكونوا فتنة لغيرهم.


* * *


في الأيام المنصرمة وقع أمر عظيم، وعدوان كبير على المسلمين، لما تجرأت الصحف الدنمركية بنشر رسومات تسيء إلى النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
وقد وقع ما لم يكن في حساب الغرب والشرق: قام المسلمون بحملة استنكار شملت كل دول الإسلام.. هذا بقلمه.. وهذا بفكره.. وهذا بقوله.. وهؤلاء بمظاهرة.. ودول وحكومات بالتنديد وسحب السفراء.. والجميع بمقاطعة اقتصادية شاملة لجميع المنتجات الدنمركية.. ولا زالت كل هذه سارية المفعول إلى هذا الوقت.
وقد حرك هذا القيام للمسلمين بنصرة نبيهم صلوات الله وسلامه عليه: العالم كله.
حتى بابا الفتيكان نفسه اعترض على هذه الرسومات، وكذا الأمين العام للأمم المتحدة، والرئيس الأمريكي، والرئيس الفرنسي، ووزير خارجية بريطانيا، وغيرهم، وباتت الدنمرك في وضع قلق لا تحسد عليه، اضطر فيه رئيس تحرير الصحيفة إلى الاعتذار. وما تزال الحكومة مترددة..!!.
وفي اليومين الماضيين صام سواد المسلمين اليوم التاسع والعاشر من محرم، اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في صيام العاشر، وصيام التاسع معه مخالفة لليهود [مسلم]، وأخبر أنه يوم تكفر فيه ذنوب سنة كاملة [الترمذي]، وقد رأيتَ الناس فيه، وكأنه يوم من رمضان، من صيام الصغير والكبير، والشيخ والشاب، والمرأة والرجل، حتى العمال صاموه وهم يعملون في يوم مشمس حار، يطلبون الأجر والكفارة.

هذان الحدثان كشفا عن شيء مهم للغاية، ربما غفل عنه بعض الناس من العقلاء والأخيار، هو:
أن في الناس حب للدين كبير:
- فما مسارعتهم لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم والذب عنه، إلا لحبهم دينهم.
- وما مسارعتهم لصيام يوم تطوعا، دون فرض عليهم، إلا لحبهم دينهم.
وقد كان من الممكن أن يتقاعسوا.. قد كان من الممكن أن يقوم به قليلون، وينام كثيرون.. ولن يجدوا أحد يسوقهم بعصاه، أو يأطرهم أطرا إلى البذل والتضحية والمسارعة.. لكنهم مع ذلك تحركوا، تحركوا بملء إرادتهم، ورغبتهم.. حركهم حب صحيح، وعاطفة صادقة.


* * *


فذلك دلّ دلالة واضحة على: أن المسلمين متدينون. فمن لم يكن التدين ظاهرا عليه، فباطنه فيه خير كثير، وربما كان باطنه خيرا من ظاهره، كما أن بعض الناس ظاهره خير من باطنه.
هذا الحدث دل على أن التدين ليس في الظاهر فحسب، بل الباطن كذلك، نعم تدين الظاهر مطلوب، وهو دليل على حب النبي صلى الله عليه وسلم، لكن تدين الباطن مطلوب كذلك، وهو الأول طلبا. والأحسن والأقوم تدين الظاهر والباطن جميعا، حتى يكون ظاهر الإنسان مرآة باطنه، يشف ويُبين ما في نفسه وداخل قلبه، يراه الناس كما يرون ما وراء زجاج، كله صفاء ونقاء.


* * *


هذان الحدثان أعطيا أملا، لكل ساع في الإرشاد والنصح: أن جهده في هذه الأمة ليس بضائع، فالثمرة قريبة، متى حصل: الصدق، والإخلاص، والاجتماع.
فلو سألت أحدا: هل كنت تتوقع مثل هذا الموقف العام من المسلمين، الشديد العاطفة والألم، والاستعداد لفعل أي شيء، ردا على انتهاك عرض النبي صلى الله عليه وسلم ؟.
لقال لك: كنت أتوقع ردا، وعاطفة، واستعدادا، لكن ليس بهذا القدر والاجتماع.
ومثله: هل كنت تتوقع من المسلمين أن يتواطئوا على صيام يوم عاشوراء، كما لو كان فرضا ؟.
لقال لك: كنت أتوقع صيامهم، لكن ليس بهذا الكم.
لكن الذي حدث غيّر كل التوقعات، وقلب كل الحسابات، وبيّن أن المسلمين على خير كبير، وما فيهم من مخالفات ومعاصٍ هي ظاهرة مؤقتة، ليست أصيلة، يحتاجون إلى مواقف كهذه تستفز إيمانهم، وتستحث قلوبهم لفعل الخير. وما على الناصحين والعلماء والداعين للخير إلا البذل، ومعرفة طرائق تبليغ الدين للناس، ودلالتهم على الخير بأحسن الوسائل، ليجدوا بعدها كل استجابة من الناس.
فإذا لم يستجيبوا، وتقاعسوا، فليس بالضرورة أن يكون داء في الناس منعهم من الاستجابة، بل قد يكون الداء في طريقة: التبليغ، والإصلاح، والنصح. فالفشل إما من الملقي، أو من المتلقي.

وإن من أسباب نجاح النصرة وحصول أثرها: أن المسلمين اجتمعوا في هذه الحادثة على كلمة الإسلام، ولم يلتفوا إلى: شعارات، أو أحزاب، أو جماعات. بل طالبوا كل من له اسم الإسلام أن يهب لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يشترطوا لذلك شرطا سوى الإسلام. وهذا الاجتماع الذي يحبه الله تعالى، وأمر به كثيرا في كتابه، وأبان أن التنازع سبب الفشل:
- {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين}.
- {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ }.
وهذا الاجتماع مطلوب، وبيان الحق ووجوب اتباع السنة والصحابة مطلوب.. ولا يتعارضان، وكل مسلم فيه من الخير بحسبه، لا يخلو من ذلك، والواجب أن ينمى الخير الذي فيه، ولا يترك لأجل ما فيه المخالفة للسنة والإسلام، بل يناصح بحكمة، وموعظة حسنة، ومجادلة بالتي هي أحسن.


* * *


فهذان الحدثان أثبتا خطأ من أساء الظن بالمسلمين، وقضى بأنه لا خير يرجى، فحكم بهلاكهم، لما يرى من كثرة معاصيهم، وجرأتهم على المخالفة، واستعلانهم بها، وسعيهم فيها كسعي النار في الهشيم.
كلا، بل هذه الأحداث أنبأت أن المسلمين يسعون في الخيرات، كسعي الماء في الجداول والأنهار، وأنه كما قال صلى الله عليه وسلم وسلم:
- (أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير، أم آخره) [أحمد 3/130]
فهذه الأمة فيها الخير، والعاقل الموفق هو القادر على استخراج هذا الخير، أما الفاشل فهو الذي إذا عجز جلس يقول: هلك الناس. وإذا قال كذلك فهو الهالك، كما قال عليه الصلاة والسلام:
- ( إذا قال الرجل: هلك الناس. فهو أهلَكُهم). [مسلم، البر، باب: النهي من قول: هلك الناس]
أي فهو أولهم وأكثرهم هلاكا، وهذا على رواية الضم للكاف. وأما على الفتح فمعناه: فهو الذي أعانهم على الهلاك، وتسبب في ذلك. وفي كلا الحالتين هو أعظمهم إثما وجرما.


* * *


وإن السؤال الذي يرد في هذا المقام: إذا كان هذا حال المسلمين في النصرة، والمسارعة في قضاء النافلة، فلم هم يسابقون إلى الشهوات المحرمة الظاهرة ؟.
- أليس من التناقض: الجمع بين الإيمان والمعصية ؟.
- أم عودة صادقة، وانتفاضة إيمانية مخلصة ؟.
- أم شبهات مضللة، ومضلون لبسوا عليهم دينهم ؟.

والجواب: كل هذه الأسباب والحالات واردة:
- فهناك من المسلمين من يفعل الخطايا والطاعات على حد سواء، ولا يستغرب من مثلهم أن ينصروا النبي صلى الله عليه وسلم، إذ يجوز للمسلم أن يكون جامعا بين الطاعة والمعصية، مع كرهه للمعصية، وحبه للطاعة، والأمثلة على هذا كثيرة: كالرجل الذي كان يشرب الخمر، ويجلد فيه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب الله ورسوله. ومثل هذا يَعلم بمعاصيه، وأنها مشئومة وخاطئة، ويرجو من الله تعالى أن يعافيه، ويغفر له، ويتمنى الهداية والصلاح، وهذا من الله قريب، ورحمته إليه أقرب، والغالب في مثله: الإقلاع عن معاصيه الظاهرة، والاستقرار على الطاعة. كأبي محجن الثقفي الذي نكل بالفرس في معركة القادسية، وكان حبسه سعد بن أبي وقاص في شربه الخمر، فانفلت من قيده، فقاتل وأبلى بلاء حسنا، ثم عاد إلى قيده موفيا وعدا قطعه لزوجة سعد بذلك، فلما علم بأمره سعد أطلقه، فعاهده ألا يشرب الخمر بعدها.
- وهناك من المسلمين من انتفض وعاد إلى إيمانه مخلصا، بسبب هذا العدوان، فالاستفزاز يحفز الإيمان، ويعيده جذعا، حتى إنك لتجد الغارقين في الذنوب من ينقلب صالحا، بسبب عدوان صريح أظهره كافر على الإسلام، لا يحتمله، ولا يرضى به، فيظهر من النصرة والغيرة شيئا يحبه الله تعالى، فيكافئه على ذلك بصلاح الحال والمآل.
- وهناك من المسلمين مضللون، بالشبهات والشهوات، حتى زُين لهم الإثم. ففي الأمة أئمة مضلون، يضلون الناس بعلم وبغير علم، يجعلون المنكر معروفا، والمعروف منكرا، منهم الذين يلبسون لباس الدين، فيلبسون على الناس بالشبهات، ومنهم الذين ينشرون الشهوات، في كل مكان وزمان، حتى يصدوا الناس عن الخير، والأخطر من ذلك: ربط هذه الخطايا بالأرزاق. فلا يكون سبيل للرزق إلا بركوب معصية وخطيئة، فيضطر الناس اضطرارا إليها، ويحتمل وزرها الأكبر من دفعهم إليها. ففي المسلمين من هذا النوع كثير، وهؤلاء لا يستغرب منهم القيام لله تعالى بنصرة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنهم أخيار، ولولا هذه الأحوال المغرية بالمعصية، وربطها بالعيش والرزق، لوجدتهم من عباد الله الصالحين.


* * *


وإن هذا الصنف من المسلمين ليلقي على: العلماء، وطلبة العلم، والدعاة. حملا ثقيلا من الأمانة، والصدق، والتقوى. فإن الناس مهما أغرقوا في الشبهات والشهوات، إذا وجدوا: صادقين، مخلصين، أتقياء، زاهدين في الدنيا، أبعد الخلق عن الشبهات: تمسكوا بسبيلهم، واقتدوا بهم. فكانوا أحسن مثال لهم في الخير، ونورا وبرهانا لهم في ظلمات الشبهات والشهوات. ولهم أجر وثواب جزيل؛ أن كانوا سببا في هداية الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
وما أسوأ أن يكونوا على الدنيا مقبلين، وللشبهات والشهوات تحت أية ذريعة مقتحمين، من: تأول، واجتهاد، وتخريج، واختلاف في المسألة، وحاجة، ومواكبة عصر، وملائمة زمان.. إلخ. فكل هذه الأعذار لا تهتك حرمة الشريعة فحسب، بل تضل هؤلاء المسلمين الصادقين في حبهم دينهم، ونبيهم، وتبعدهم على الطريق المستقيم، وتبقيهم في: حيرة، وألم، وعطش. لا يجدون: دليلا يدل، ولا طبيبا يداوي، ولا ساقيا يروي..!!. وكيف يجدونهم، وقد تركوا الطريق ورقوا إلى الشرفات يطلبون الدنيا، كما يطلبها أولادها وعبادها..؟!!. إنهم غرقى، إنهم غرقى.. وكيف ينقذ الغريق الغريق ؟!.

 

د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية