اطبع هذه الصفحة


قنوات السحر والكهانة

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه

 
الصورة كما نراها على الهواء مباشرة: كاهن يتكهن، وساحر يتعاطى السحر.. يقرأ القرآن ويدعو.. مع.. تمتمات خفية ؟!!.

غرضهم من فعلهم هذا كما يقولون: استشكاف المستقبل، وحل المشكلات الزوجية ونحوها، وعلاج الأمراض المستعصية.

المستهدفون هم: جملة من المشاهدين، ذوي المعاناة المزمنة.

فأين المشكلة إذن ؟. أصحاب القنوات، ومتعاطوا الكهانة والسحر يقولون: نقدم حلولا، وعلاجا، وأملاً.

المعترضون المنكرون المستنكرون يقولون: هذه كهانة وسحر، وخزعبلات ودجل، وكفر بالله تعالى. واستخفاف بعقول الناس ودينهم، واستغفال، واستغلال حاجاتهم.

المتعاطون قالوا: كيف يكون كفرا ودجلا، ونحن نعالج بالقرآن والدعاء، ونأمر بالصلاة والذكر. وكم رأى الناس في المعالجين من آثار التقوى، من جبهة ساجدة، ولحية وافرة، إن كان ذكرا. وإن كانت أنثى فحجاب سابغ يغطي حتى اليدين. وهم يستغيثون بالله تعالى وحده ويستعينون.

قال المعترضون المنكرون: فالتمتمات ما هي ؟!.. لم تخفون شيئا مما تقولونه؟!!..
- أهو استغاثة بالجن وتقرب وتضرع، كما سمع منكم على حين فلتة؟، أم إرضاء الجن ؟.
- ألم تظهر منكم كلمات تحسنون فيها السحر ؟.
- ألستم تأخذون اسم المتصل، واسم أمه، تكتبون أشياء خفية، بالحساب وبالجمع، فمن أين هذا؟. - أتريدون إقناع الناس أن هذا من الشرع من المنزل، وقد عرفوا أنها طرق السحرة والكهنة والمنجمين، الذين يكتبون أبا جاد، وينظرون في النجوم، ويستعينون ويستغيثون بالشياطين ؟.

المراقبون يقولون: لكن كيف تقولون فيمن حلت مشكلته، وشفي مريضه.. وكيف تفسرون تجدد آمال آخرين، بواسطة هذه البرامج، أليس دفع الضر وجلب المنفعة من مقاصد الإسلام ؟.
تلك صورة القضية، وتفصيل الاعتراض عليها كما يلي: الكهانة والسحر معدن الوهم والظنون، والتجربة هي الدليل؛ فالفوائد المرجوة من ورائهما: إما أنها حاصلة، أو ليست بحاصلة.. فأيهما؟.
إن كانت الثانية فهي القاضية على فكرة الكهانة والسحر من كل وجه ابتداء؛ فإذا لم يتحصل من ورائهما فائدة فهو دليل بطلانها، لكن ماذا عن الأولى؛ ماذا لو تحققت الفوائد المرجوة ؟.
ذكرنا هذه الحالة؛ لأنها واقعة، ولو بنسبة قليلة، وهذه هي الفتنة؛ فلولا أن بعض الناس انتفعوا لما تداعى الناس إليها، لكن مع ذلك ثمة أمور مهمة وخطيرة تدعو للحذر، وتمنع من الإقبال على هؤلاء الكهنة والسحرة.. وإنها لمعادلة مستعصية على بعض الناس: أن يكون في الشيء فائدة، ثم يكون المنع منه هو المتوجب، والمطلوب ؟!!.
إلا أن عرض هذه المعادلة على موازين القبول والرفض، سوف يبين ويثبت هذه المعادلة. والموازين التي بها نقبل بالشيء أو نعرض عنه ثلاثة، هي: التجربة، والعقل، والحكم الإلهي.

* * *

- فأما التجربة.
فتقول: إن تلك المنفعة المتحصلة عنهما موهومة مظنونة، بدليل أنها قليلة ونادرة، والقاعدة: أن الحكم لما غلب لا ما ندر. فأكثر الذين يلجئون لهؤلاء يرجعون بلا شيء، واسألهم إن شئت.
وأما الذين انتفعوا فنفعهم موهوم مظنون، من جهة أنه مؤقت؛ أي ينتفعون زمنا، لا أبدا مؤبدا، ثم ترجع إليهم المشكلات والبلايا نفسها، أو من جنسها، بعد حين ليس بالبعيد. وفي ذلك سر ؟.
فهؤلاء السحرة يتقربون إلى الجن - الذين أصابوا هذا المريض، واستولوا على بدنه - بما يرضيهم من أنواع الكفر والشرك؛ ليخففوا عنه، ويتركوه وشأنه. فيحصل ذلك في شبه اتفاق: المريض يدفع للساحر مالا، ذلاً، وخضوعا، وامتثالا. والساحر يتقرب إلى الجن، وهم يخرجون من بدن المريض أو يخفوا عنه، ليعود إلى حالة الصحة. فيحسن الظن بهم وبعملهم هذا، فيكثر المقبلون.. هذا هو السر!!.
لكن ذلك لا يدوم عادة؛ لأن هذا المريض لا زال ضعيفا عرضة لتسلط الجن عليه تارة أخرى؛ فمشكلته حلت بإرادتهم ورضاهم، بالتقرب إليهم، فما أسهل أن ينقلبوا ويعودوا..!!.. ولو أنه استعمل الرقى الشرعية لحلت المشكلة رغما عنهم، بكسرهم وطردهم أذلاء، فأنى لهم أن يعودوا ؟.. لكنه استعمل رقية جعلته ميدانا لتسلط الشياطين متى شاءت !!..

* * *

- وأما العقل.
فيقول: ما أدرى هذا البشر الضعيف المسمى بالكاهن بالغيب، حتى يقدر على استكشاف المستقبل؟. لو كان يعلم الغيب لوقى نفسه شرورا تفجؤه، فتبهته، فلا يستطيع ردها. فإن كانت الجن تخبره، فالجن كانت تسترق السمع قبل البعثة، فتلقي على الكاهن، فيكذب معه مائة كذبة، ومنذ البعثة حرست السماء بالشهب، فمن يسترق يجد له شهابا رصدا، فالجن معزولون عن خبر السماء إذن، فمن أين له أن يعرف الغيب المستقبل؟. ما بقي إلا أن يخبروه بالغيب الحاضر؛ مثل مكان المسروق أو الضائع، فالجن تخبر بعضها بعضا، فالأقصى يخبر بما يراه الأدنى، حتى يبلغ هذا الكاهن، فهذا ممكن.. لكن لا تأمنه، فما أدراك بصدقه ؟. فإنه وإن أصاب أحيانا في الدلالة على مكان الضالة، غير أنه يفتح على هذا السائل باب شر، من التعلق به، وسؤاله ما هو أكثر وأكبر كالحظ والمستقبل، واعتقاد أنه ينفع ويضر؛ ولأجله منع الشارع سؤال السحرة الكهان وإتيانهم، وهذا يتبين في الميزان الثالث، وهو:

* * *

- الحكم الإلهي.
فإنه حرم السحر والكهانة، وحرم الذهاب إلى السحرة والكهنة..
- حرم السحر بقوله تعالى: { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق}.
- وحرم الذهاب إلى السحرة والكهنة، فقال صلى الله عليه وسلم:(من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد). [رواه الطبراني وحسن إسناده ابن حجر]، وقال: (من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما). [رواه مسلم]

فيستفاد من النصوص هذه:

1- أن الساحر كافر، وهذا متفق عليه إذا كان سحره باستخدام الشياطين، وترصد الكواكب، واتفق الصحابة على قتله، حكم بذلك: عمر، وجندب الأزدي، وحفصة.
2- أن الكاهن كافر كفرا أكبر إذا ادعى علم الغيب، وكفرا أصغر إذا زعم أن الشياطين تخبره.
3- أن من أتاهم، فإن صدقهم أنهم يعلمون الغيب، أو يقدرون على النفع والضر بذاتهم، فهو كفر. وإن صدقهم أن الشياطين تخبرهم، أو أنهم أسباب للنفع والضر فهو كفر أصغر.
4- يستفاد من النهي عن سؤالهم، وإتيانهم: المنع من متابعة هذه القنوات. لمن خاف على إيمانه.
هكذا تغلق الشريعة كل الأبواب أمام هذا الدجل؛ لأنه لا ينفع الإنسان، بل يضره، فإنه ولو نفع بعض الناس، لغاية في نفوس السحرة والكهنة والشياطين، إلا أن ضرره أكبر؛ لأنه يضر الدين والإيمان، والقاعدة: أن كل ما يضر الدين والإيمان فهو محرم، مهما بدا فيه من نفع. لذا حرم الخمر والميسر، مع ما فيهما من فائدة: للبائع، والشارب، والمقامر المستفيد. في قوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما}.

وأما وجه ضرره بالدين والإيمان:
1- أنه يعلق القلوب بغير الله تعالى؛ بهؤلاء السحرة والكهنة. وكفى بهذا ضررا، وما الشرك إلا هذا، وما التوحيد إلا تعليق القلوب به تعالى.
2- أنه إذا تعلق قلبه بغير الله تعالى كثرت شكوكه ووساوسه، واضطرب حاله؛ لأن الشياطين حينئذ تتولاه، فيقع في التطير والتشاؤم.
3- أنه من أسباب ترك التوكل على الله تعالى، فالمقبل على هؤلاء الدجالين ضعيف التوكل، ضعيف العزم، كثير الخوف والوجل.
وبهذا تحل المعادلة السابقة (= أن يكون في الشيء فائدة، ثم يكون المنع منه هو المتوجب، المطلوب). فالحل باختصار: لأن فيه ضررا هو أكبر. والحكم لما غلب.

* * *

إن الإنسان له حاجات وضرورات، فحيثما أنزلها كان فيها ذليلا خاضعا:
- إن أنزلها بالله تعالى كان بين يديه بالذل والخضوع.
- وإن أنزلها بالساحر والكاهن صار بين يديه عبدا مطيعا.
فإن لم ينزلها بالله تعالى أنزلها بغيره ولا بد.. فلينظر الإنسان من أولى به:
آلرحيم الذي يقله، أم الرجيم الذي يستغله ؟.
آلكريم الذي يعطيه، أم اللئيم الذي ينهشه ؟.
آلقادر الذي يكفيه ما يخشى، أم العاجز الذي لا يرد عن نفسه البلوى ؟.
آلهادي الذي يهديه، أم المضل الذي يعده ويمنيه ؟.
من أولى به:
آلذي له ملكوت السموات والأرض، وهو يجير ولا يجار عليه..
أم الذي لا يملك مثقال ذرة، وهو كل على مولاه، أينما يوجه لا يأت بخير ؟.
{قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار}.
 

* * *

 

د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية