اطبع هذه الصفحة


نحن الذين جرأناهم

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه

 
نبينا هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ الذي أرسل للناس كافة، وللإنس والجن، وبه ختمت الرسالات.
وهو خير خلق الله تعالى، وأكرمهم على الله تعالى، وسيد ولد آدم، وهو خليل الرحمن، وهو الشافع المشفع، وهو أول من تفتح له أبواب الجنة.
وقد من الله تعالى على من أرسل إليهم، منذ بعثته إلى يوم القيامة، باختصاصهم به دون سائر الأمم، وقد فضلوا لذلك وتقدموا كل الناس، فكانت بين أيديهم منحة ربانية جزيلة عظيمة، فاغتنمها من آمن به وتبعه، وانضم إلى أمته.
وأما من كفر به وأعرض وتولى، فقد رد أسفل سافلين، وكان أضل من البهائم. وهكذا هو كل من عرض عليه الشرف العميم والمقام الرفيع، فأدبر عنه واستكبر، فقد خسر وانحط، وكان مثله كمثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث، ومثله كمثل الحمار يحمل أسفارا، صم بكم عمي فهم لا يعقلون ولا يرجعون.
فمن آمن به، فببركته صلى الله عليه وسلم صار من خير أمة أخرجت للناس. ومن أمة جعلها الله وسطا شاهدة على الأمم السالفة. ومن أمة هي ثلث أهل الجنة، بل هي ثلثي أهل الجنة.
وببركته صلى الله عليه وسلم كانت لأمته الشريعة الميسرة؛ وضعت عنها الأغلال والآصار التي كانت على من قبلها، فيسرت لها الصلاة، والطهارة، والتوبة، والغنائم.
وببركته تكاملت شريعته، فكانت أكمل شريعة وأعظمها، وأصلحها كل زمان ومكان.
ومن بركته أن أمته أقل الأمم عملا، وأكثرها أجرا وثوابا، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وقد استجاب الله تعالى لدعاه، فلم يخزه في أمته، وجعل شفاعته الكبرى في القيامة.
كل هذه الفضائل والشرف، يوجب على أمته اغتنام الفرصة والمنحة الإلهية بأقصى إمكان، واستغلالها أحسن الاستغلال، فالأمة تعز بكبارها، وإن خلو أمة من الكبار عذر لها، إن هي تأخرت فما تقدمت، ولا تعذر أمة كان كبيرها أعظم مخلوق على الله تعالى وأرفعهم، إن هي ذلت وتخلفت.
والله تعالى إذا اختار قوما، ففضلهم وقدمهم، فإما أن يكونوا أهلا، فهم مفضلون مقدمون، عزيزون مكرمون باختيار الله تعالى وتوفيقهم إلى العمل الصالح. أو يظهروا جحودا، ونكرانا، وإعراضا عن العمل بواجب هذا الاختيار، فهم ملعونون باؤون بغضب الله تعالى، كما قد حصل مع اليهود، فإن الله تعالى اختارهم وفضلهم على العالمين بعدد من الأنبياء والمرسلين، فلما أعرضوا وقتلوا الأنبياء، وحرفوا كلام الله تعالى، وغلوا وتنطعوا، واحتالوا وكادوا ومكروا، أعقبهم وبالا وخزيا، فكتب الله عليهم الذلة والمسكنة، وباءوا بغضب من الله، ولعنوا، وجعل بأسهم بينهم، وانحطوا عن مكانتهم.

* * *

نحن نعجب من إساءات الصحف الأوربية لمقام نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا نعجب إساءة أمته له صلى الله عليه وسلم ؟!!. وهل كانت لتسيء لولا تقدم أفراد وفئات في هذه الأمة بالإساءة ؟.

والإساءة على أنواع:

فمنها: الجفاء عن سنته، فالسنة تعيش غربة، وقد مكث الناس زمنا غير متقبلين سنة تربية الرجال لحاهم، وتقصيرهم ثيابهم فوق الكعبين، واستتار النساء بحجاب كامل، ذلك أنهم ما سمعوا بحديث فيه: (حفوا الشوارب، واعفوا اللحى)، وحديث فيه: (ما تعدى الكعبين فهو في النار)، وآخر فيه: (المرأة عورة)، واليوم وقد قل النكير، لكن لا زالت بقية لم تتقبل.
ومن الجفاء كذلك، الجهل بسيرته، وأحداث مر بها مدة حياته، وهو قد حمل لنا البشارات والغنائم، والرفعة، وكل ذلك لم يشفع في حملنا على البحث والتنقيب في سيرة هذا العظيم؛ الذي كان علة علونا وعزنا، تركنا ذلك للمتخصصين في التاريخ، وليتنا اكتفينا بما يعرفنا به، بل جهلنا أمورا ظاهرة في سنته، وخبرنا أمور التجارة، والرياضة، والملاهي ولم نخبر سيرته.

ومن الإساءة إليه صلى الله عليه وسلم: أن أفرادا وفئات تنكروا فدخلوا في نفق الساخرين من كلامه، بزعم أنه كلام المتشددين المتنطعين، مثل قولهم: "لا زال فينا من يرى المرأة فتنة، وعورة يجب أن تحتجب". وهذا القائل:
إما أنه لم يسمع بقوله صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة، هي أضر على الرجال من النساء)، وقوله: (المرأة عورة)، فهذا جاهل جهلا مقيتا؛ إذ كيف يجهل خبرا عن نبينا في قضية، هي محل عنايته؛ قضية المرأة، ثم لا يكلف نفسه أن يرى ما ورد فيها من النصوص ؟!.
وإما أنه سمع وعلم، ثم يقول كذلك، فهذه هي الإساءة، والتنقص، والسخرية منه صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع العلماء على أن من تنقص من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي أنواع التنقص، من سخرية، أو سب، أو تعريض، فإنه مرتد، واقرأ إن شئت: "الصارم المسلول على شاتم الرسول" لابن تيمية، والشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض.
نعجب أن الصحف الأوربية موغلة ومصرة على فعلها القبيح، وفينا من يفعل مثل ذلك كتابة، بأقبح فعل، كان ذلك في موقع ألكتروني معروف، كتب أحدهم فيه مقالا، ضمنه كل ما ضمنه ذلك الرسام الدنمركي وزيادة، والفرق: أن ذلك تنقص وسخر رسما وصورة، وهذا حرفا وكتابة. فماذا صنع الموقع، سوى أنه بعد أن كثر عليه النكير، اعتذر اعتذارا باردا؛ أنه كان خطئا غير مقصود، وحذف المقال وانتهى كل شيء عند هذا الحد.!!.
نغضب من سخرية الصحف الدنمركية، وقناة عربية إسلامية إخبارية هي الأشهر، تستضيف في برنامج لها امرأة تشتم القرآن كلام الله تعالى، وتطعن في آياته، وتتكلم بكلمات يقف لها شعر المؤمن ويقشعر بدنه، وتتأذى روحه. ثم ماذا كان من القناة، سوى أن كتبت اعتذارا في موقعها، ليس أكثر من هذا، هذا هو مقام نبينا الأكرم صلوات الله وسلامه عليه عند هؤلاء، مع كونهم مسلمين ؟!!.

* * *

في المرة الأولى سخر من نبينا صلى الله عليه وسلم، فوجدنا من بيننا من سافر إلى الساخرين، يمد إليهم يد التسامح والعفو، ويقول لهم بنبرة ضعيفة: لم تسخرون من نبينا ؟.
ألم يكن في وسعهم أن يعلنوا نكيرهم بطريقة عزيزة أبية، قد كان الرجل إذ يغضب على من ولغ في عرضه، يحلف ألا يأكل له طعاما، ولا يكلمه، وقد تكلم ابن عمر رضي الله عنه يوما بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، فقال أحد أولاده: (والله لنمنعهن)، فغضب عليه فسبه ما شاء الله، وشتمه، وأعرض عنه، وحلف عليه ألا يكلمه حتى يموت. كونه رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن سخر منه، هل يستحق أن يسافر إليه ؟.
أعلنت المقاطعة الاقتصادية من جماهير المسلمين، لكنها سرعان ما نقضت باجتهاد وتسرع، لمجرد أن شركة اعتذرت.. ألم يكن من الأحسن التريث والصبر، فما نحن بظالمين إن قاطعنا، فالتجارة معهم مباحة، ولنا الحق أن تمتنع من المباح، وليس علينا شيء، فلم الحرص إذن على إنهاء المقاطعة ؟.
إن وحشيا قتل وهو مشرك عم رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة رضي ا لله عنه، فتألم رسول الله وحزن حزنا شديدا، ثم إن وحشيا أسلم، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم ما زال في ألمه، فما نظر إليه. فقتل حمزة أعظم أم السخرية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟.
قيل: الضرر سيلحق الوكالات، وهي شركات يملكها مسلمون، ويعمل بها موظفون مسلمون، والإضرار لا يجوز بمسلم.
ويقال: هب أن الأمر كذلك، أفليس في قلوب هؤلاء التجار وموظفيهم من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم والغضب له، ما يضحون لأجله بأموالهم وأنفسهم، هل تجارتهم أعز عليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناءكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}.

ثم ألم يعد الله تعالى وعدا حسنا، أن من ترك شيئا لله عوضه خيرا منه ؟، أم لم نعد نذكر ثواب الله ؟.
قيل: المعتدية هي الصحف وليست الشركات، ولا تزر وازرة وزر أخرى.
يقال: لكنهم في حلف واحد، وبلد واحد، ودين واحد، وهم جماعة واحدة؛ أي إن بعضهم يقدر على بعض، خصوصا إذا كانت الحسابات مالية اقتصادية، فذلك أهم ما لديهم، وقد عرفنا من سنته صلى الله عليه وسلم، جواز معاقبة إفراد من قوم معتدين وأحلافهم، حتى لو كان المعتدون غيرهم، كما حصل من أسره صلى الله عليه وسلم رجلا من أحلاف ثقيف، لما أسرت ثقيف رجلين من الصحابة، فاشترط لإطلاقه إطلاق الصحابيين، ولم يكن ذنب الرجل سوى أنه حلف لهم، فكان منهم في المعاملة.
ثم نعود ونقول: إذا كانت التجارة معهم من المباحات، فلن نكن ظالمين ولا معتدين إذا تركنا هذا المباح.
ورد في الأثر: (ولن يستحل البيت إلا أهله)، فلما استحل أقوام منا التنقص من مقامه صلى الله عليه وسلم، وأقوام استعملوا الجفاء مع سنته وسيرته، وأقوام سخروا منه: وجد من الكفار المحاربين من يتجرأ على مقامه الرفيع.
ثم لما رأوا ردة فعل ضعيفة، وعلى استحياء في المرة الأولى، مع مسارعة إليهم بالتسامح، ومسارعة في رفع المقاطعة: عرفوا أنه لا هيبة لنا، وأن الطعن في أخص وأعز آياتنا لن تحركنا إلا حركة المشلول. فكان ذلك علة عودتهم إلى سيرتهم الأولى.
فإذا كنا لائمين، فلا نلومن إلا أنفسنا ..

 

د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية