اطبع هذه الصفحة


صون الأسرة

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه

 
في أول الأمر خلقت المرأة من الرجل، بحسب ما جاء في الآية الأولى من سورة النساء: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا..}.
وهذا يفيد حاجة كليهما للآخر؛ لأن الموجود من شيء مستند إليه في الوجود، وفي البقاء. وهو لايكمل إلا به؛ كالوالد والولد: الولد مستند إلى والده، والوالد يستكمل نفسه من النقص بولده.
فحاجة الرجل إلى المرأة لاستكمال نقصه، وحاجتها إليه سندا وعضدا:
فهو من غيرها معوق مشوه؛ كالفاقد طرفا أو عضوا..
وهي تائهة ضائعة لا قوام لها؛ كجسد بلا قدم، أو بلا يد، أو بلا رأس.
إذن الحاجة فطرية ضرورية، هذه هي فلسفة (= حقيقة) العلاقة بين الجنسين: {وخلق منها زوجها}. ولأجله كانت له سكنا: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها..}. وكانت بينهما مودة ورحمة: {وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}.
السكن.. والمودة .. والرحمة هي الأصل فيهما وبينهما؛ فطريةً متجذرةً، ومن هنا: لم يكونا في حاجة لتوليد الألفة والتلاؤم. فذلك أصل جبلا عليه، فإذا التقيا، حصل التلاؤم والألفة بينهما تلقائيا، بدون أن أي حاجة إلى شفيع أو محرك.
وعليه: فإن نجاح الحياة الزوجية مقدرة بنسبة 100%، أو قريبا من ذلك جدا. وأي إخفاق، فحالة عارضة غير معتادة ولا طبيعية.
نعم قد يكثر الإخفاق ويغلب، حتى يصبح سمة العصر أو المصر، لكنه يظل مناقضا للفطرة والجبلة، دالا على حجم المشكلة ومدى الانحراف في الفطرة والجبلة الإنسانية.
وقبل أن نبحث في علة الإخفاق، نقف لندق نواقيس الخطر حيال نسب الطلاق المرتفعة في المملكة، حيث لامست نسبة 40% في مدن كالرياض ومكة، فكل مائة يتزوجون ينفصل منهم أربعون زوجا في العام الأول، وبلدان العالم الإسلامي الأخرى لا تقل نِسَبا.
ولا يخفى على أحد أهمية قيام الأسرة، في حفظ وريادة الأمة، فهي النواة، وهي الممد بكافة الطاقات التي تعتمد الأمة عليها في البناء، التقدم، والحماية، وتهاوي هذه المؤسسة خطير جدا، حيث يغلق باب إنتاج الأجيال منها، لتنتج من طرق غير شرعية، فيصعد جيل لم يرضع لبن الأم، ولم يتلق تربية الأبوين، ولم يتمتع بحضن الأسرة الدافئ المحب، مكسور النفس، مهيض الجناح، معذب الخاطر، مقطوع الصلة بالمجتمع، لا يشعر بالولاء ولا بالحب، بل الحزن والحسرة، ليتكون فيه - من كل هذا الركام السلبي المشؤوم - الاستعداد لأي انحراف، والاستغلال من جهات فاسدة، تلحق الضرر بالأمة والمجتمع. وفي الاحصائيات المنشورة: أن عدد اللقطاء بلغ 10000 آلاف لقيط من الجنسين.
بعد هذا الوصف المؤلم للواقع، نعود إلى البحث عن سبب إخفاق الحياة الزوجية.؟
إن سبب الإخفاق هو العوارض؛ أي ما يعرض للزوجين، بمعنى أن الإخفاق ليس من ذاتهما؛ إن ذاتهما منجذبة بعضهما إلى بعض بقوة، كقوة المغناطيس السالب والموجب، بل من الصعوبة التفريق، لكن مع ذلك فقد نجحت هذه العوارض النحسة، في هذه المهمة النكدة!!.
فقد تكون العوارض من ذات التكوين الثقافي والتربوي لهما. باختلافهما في هذين البناءين، فهذا له تربية وثقافة مختلفة عنها، وهي كذلك. كأن يكونا من بلدين، أو عرقين، أو اتجاهين تربويين مختلفين.
وقد تكون العوارض لعلة خارجية يتسبب في الإخفاق؛ كأسرتيهما، أو الزملاء، أو الإعلام.
فالتدخل الأسري من الطرفين، في كل حال وقضية، ينتج انحلال المؤسسة الزوجية، فالخلاف منه ما يكون حله من قبل الزوجين، من دون تدخل أحد، وهذا كثير، ولو كبر عقلهما لاقتدرا على حل كل خلاف بينهما، حتى أكبر المشكلات والخلافات: ذاتيا. فقط عليهما أن يتعلما على طريقة ذلك، وهي معروفة وسنشير إلى ذلك فيما يأتي.
والزملاء والزميلات لا يقلون أثرا، فكل حديث عن الزوج في مجلس يضم متزوجين، سواء بالسلب أو الإيجاب، يكون من أثره: أن كل حاضر يعتمل في ذهنه مقارنة حاله مع زوجه، بحال زميله المتحدث. ونتيجة المقارنة قد تكون سلبية؛ إن زوجته - أو زوجها - ليست لديها الخصائص مثل ما لزوج صديقه. وهكذا تبدأ مطالبة الزوجة بما قد لا تقدر عليه، ليكون هذا أول خطوة إلى الطلاق.
وأما وسائل الإعلام، فهي الأخطر على الإطلاق؛ إذ تقوم برامجها – إلا قليلا – على قلب مفاهيم العلاقة بين الجنسين، من التكامل والتكافل إلى الندية والخصومة، فتحرض المرأة على شرائع إلهية، كالقوامة، والقرار في البيت. كما تحرض الرجل على تبرج المرأة وسفورها واختلاطها. فيظهر القلق في البيت، فلا الزوج يعجبه شكل وحركات المرأة، ولا المرأة يعجبها أوامر الرجل وسيادته.
وخطورة الإعلام – في غالب أحواله - في أثره الطويل البطيء، فإنه يعمل على كافة الأصعدة، بكافة وسائله على تعطيل مؤسسة الزواج عن القيام، وإذا قام أعمل أدواته على انحلالها، ولا أجد دليلا على هذا أدل: من أنه لم يهتم يوما – في كافة وسائله - بقضايا الطلاق، والمشكلات الزوجية، والعنوسة، واللقطاء. كاهتمامه بنفي القوامة، وجر المرأة إلى العمل المختلط، ونزع الحجاب.
تلك أسباب الإخفاق الرئيسة، فلو خلي الزوجان من هذين النوعين، فإن مصيرهما إلى الفطرة والجبلة، ستنجح المؤسسة الزوجية بشكل رائع لا مثيل له، كما كانت ناجحة قرونا، قبل أن تظهر هذه المدنية الحديثة بوسائلها الفاتنة الخادعة.
في الحديث: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).
وهذا في عموم الناس، ليس في المرأة والرجل، فأرواحهم متعارفة.
كيف لا، وقد خلقت منه، فهي منه، وهل ينكر المرء نفسه ؟!.
إنهما متعارفان ومن تعارفهما: تخطيهما عوائق جمة وكبيرة. من اختلاف تربوي وثقافي، وخطط شيطانية. فالمؤسسة الزوجية إذا توفر فيها: الحب العميق، والعقل الموفور. صمدت أمام كافة العوارض كلها وتخطتها، كما تتخطى السفينة المحكمة أمواج البحر العالية.
إذا لم يمكن تجنب العوارض السابقة، فوجود هذين الأمرين المهمين: الحب العميق، والعقل الموفور. يكفي لإنجاح مؤسسة الأسرة. إنهما السر الأكبر للنجاح، لمن سعى فيهما تحقيقا وتنمية.
* * *
وهكذا نكون قد بينا عوامل نجاح الأسرة في أمرين: وقوفها على قدميها، ثم استمرارها قائمة.
غير أننا نذكر بعامل آخر مهم لاستمرارية مؤسسة الأسرة، وهو طريق معالجة الخلاف بين الزوجين.
فالخلاف بين اثنين أمر طبيعي، أنتجه اختلافهما في أشياء كثيرة؛ لذا فمن المستحيل إيجاد حياة مشتركة من غير خلافات، والخلاف إذا لم يحسن التعامل معه، فهو مهدد خطير لنقض هذه الحياة.
وهو على نوعين:
- خلاف مستحق؛ أي حقيقي، وهو ما كان حقا شرعيا.
- وغير مستحق؛ أي "موهوم"، ما لم يكن حقا شرعيا.
فغير المستحق يترك؛ فإذا طالب بما ليس له، أو هي بما ليس لها، فاختلفا، فهذا "وهم"، يجب عليهما أن يعرضا عنه، وعليهما أن يتعلما ويتفقها في الحقوق، حتى لا يطلب أحدهما إلى الآخر ما ليس له. وعليهما أن يسلما ويخضعا لما فرض الله من الحقوق، وإلا فلا إيمان لهما. قال تعالى: {فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسلميا}.
فإذا طلب - هو أو هي – بما هو حق شرعا، فعلى الآخر أن يلتزم الأداء، وبمقتضى الرحمة بينهما: عليهما أداء أفضل ما يمكن للآخر، قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة}، قال ابن جرير: " {وللرجال عليهن درجة}، بتفضلهم عليهن، وصفحهم لهن عن بعض الواجب لهم عليهن، وهذا المعنى الذي قصده ابن عباس بقول: ما أحب أن استنظف [= أستوفي] جميع حقي عليها؛ لأن الله تعالى يقول: {وللرجال عليهن درجة}". التفسير 4/124

وإليكم بعض القواعد النافعة لمؤسسة زوجية مستقرة:
1- لكل منهما محاسن ومعايب، ورسول الله يقول: ( لا يفرك مؤمن مؤمنة؛ إن كره منها خلقا، رضي منها آخر). فالكمال عزيز ومتعذر، فهذا يدعو إلى التغاضي عن المعايب.
2- الاحترام؛ لأنه يتوافق مع أساس الفطرة والجبلة فيهما: السكن، والمودة، والرحمة. وضد الاحترام لا يتوافق، بل يتعارض، فمن ساءت أخلاقه على الآخر، فقد ناقض الفطرة.
3- الصبر من غير إحصاء، ولا عد، ولا منّة، وهذا شرط عاقبة الصبر، والحياة كلها تقوم على الصبر، فمن صبر على لؤم البعيد، فصبره على الحبيب أولى.
4- الانحناء عن العاصفة؛ فإذا غضب أحدهما، فعلى الآخر اجتناب غضبه، حتى يزول، وإلا فالغضب منتقم، لا يسلم فيه الكبير القوي، من الصغير الضعيف.
5- بذل العاطفة، كل العاطفة، وهو المتلائم مع التجانس، الحاصل من خلقتها منه.
6- التخول بالهدايا، ورسول الله صلى الله وعليه يقول: (تهادوا، تحابوا). فيتخولها وتتخوله، ولا يكثرا فيملاّ.
7- تجنب الاستفزاز، عن طريق دراسة ومعرفة خبايا النفس، ومعرفة ما تحب وما تكره.
8- تحجيم دائرة الخلاف، وضبطه، وتعلم قواعد الجدل والخصومة المؤدبة.
9- تخصيص أوقات للجلوس والاجتماع، وتجاذب أطراف الحديث بعيدا عن أمور الزوجية.
10- تقديم القربات، وتجنب الآثام، فالقربات بركة، والآثام شؤم.
كلمة للزوجين: إذا أردتَ العيش معوقا. وإذا أردتِ الحياة من غير سند. إذن تطالقا أو تخالعا !!.

 

د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية