اطبع هذه الصفحة


سفن الحرية، والتحرير

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه


بسم الله الرحمن الرحيم


الحدث: خليط من البشر - من أجناس وديانات - يرتحلون صوب غزة المحاصرة، على سفن عدة، محملة بمواد إغاثية: أطعمة، ومعدات طبية ونحوها، ومواد بناء وغير ذلك.
قصدوا فك الحصار عن غزة، غير أن إسرائيل هاجمت السفن، فقتلت نفرا، وجرحت، وأسرت، ثم ساقت الأسطول إلى موانئها، وصادرت كل الأحمال.. هاجمتها بالسلاح في مياه دولية إقليمية، وهذا يعد في القانون الدولي: قرصنة، لا يقوم بها إلا لصوص البحار؟!.

وعلى الفور صدرت احتجاجات الدول الغربية والشرقية والإسلامية، والاستنكار الشديد إلى حد استدعاء سفراء إسرائيل، لينعقد مجلس الأمن على الفور، ويجمع المشاركون على شناعة ما ارتكبته إسرائيل، غير أنه فشل في إصدار قرار يدينها، بسبب فيتو السيدة الكبرى (= الولايات المتحدة الأمريكية)، والتي عودت العالم على مواقف مكشوفة كهذه على الدوام، دون حياء، تكون هي الأداة – وهي الكبرى – في يد إسرائيل..!!.

ما حدث يذكرنا بسلسلة من العدوان الذي توالى على غزة، منذ انفراد حماس بالسلطة، ولن يتوقف حتى إشعار آخر، فلا تظنوا أن الصهاينة اليهود سيخجلون من فعلهم، فيعودوا أكثر أدبا؛ إذ بلغت من الصفاقة مبلغ الجلمود، فهي لا تخشى أي شيء.

ومما يستحق الذكر: أن هناك من بات يقف معنا من الشعوب الأخرى؛ ولهم الشكر على ذلك؛ إذ خذلنا من الأقربين. لكن الصوت مَهْما كان مُهمّا، فوحده لن يردع الصفيق، الذي يتلذذ بصفاقته، ويتفاخر ويتوعد - مع كل ما يفعله من عدوان – بالمزيد.

جميل أن نكسب تعاطف الشعوب، وهذه من السياسة الحكيمة، وحسن أن تقف معنا ولو بالمواقف القولية، والمؤازرة الحسية والمعنوية، كما حصل من المشاركين في أسطول الحرية، وفي حرب غزة الأخيرة، وهذا من حسن إدارة المعركة مع الصهاينة، من غير أن نفقد شيئا من مبادئ الولاء والبراء، وهذا ممكن.
كل ذلك حسن، لكن الأحسن: أن تكون لنا القوة القادرة على كسر صفاقة العدو؛ ليعود ذليلا يلتمس العفو والصفح مما صنع، ويبذل ما يمكن ليكفر عن جرائمه.
لكن كيف ذلك، وبعضنا يتحاكم إلى قانون عجيب غريب، فيه: أنه إذا احتلت الأرض من قبل القوى الكبرى، أو أحد أعوانها، فعلى أهلها أن يسلموا، ويقبلوا بالمحتلين ولاة أمر، وإلا فهم: إرهابيون، متمردون، متطرفون ؟.
هل سمعتم بمثل هذا القانون في التاريخ، إلا أن يكون جنونا أو نفاقا ؟!.
حل المشكلة أسهل مما نتصور، فها هنا بلد محتل هو فلسطين، والبلد المحتل لا يحرر إلا بالقوة، إذن فلسطين لا تتحرر إلا بالقوة؛ بالمقاومة والجهاد، والقتال بالسلاح.
وليس في اختيار القوة خيارا للتحرير، إلغاءا للمقاومة السياسية؛ أي التفاوض، كلا، فكل جهد للتحرير، فله أداتان: المقاومة، والمفاوضة. هما ركنا التحرير، وأحدها لا يغني عن الآخر.
أول طريق التحرير واستعادة الأرض المقدسة وسائر المغتصبات: أن نقف على أرض صلبة في فقه سياسة الحرب.
وهذا ما بدأنا نراه في الآونة الأخيرة، ولأنها تجربة وليدة، فلا تزال إلى الآن في الحد الأدنى.

فمن فقه السياسة: أن نتصل بشعوب الأرض – بما أن العالم اليوم قرية واحدة – لتطلع على قضايانا بشكل مفصل؛ لنكسب مواقفها، ونحرج الدول التي تدعي أنها مع الشرعية الدولية والإجماع والتوافق الدولي، ونحن نعلم أنها شعارات وضعتها الدول الكبرى، لتردع بها كل من يخرج عن إرادتها، لكن يمكن أن تنقلب ضدها، وهذا ما رأيناه منذ حوادث غزة: منذ الحصار، ثم الحرب، ثم أسطول الحرية أخيرا.

العالم كله يقف مع غزة، ويدرك الظلم الذي وقع، بتنا نرى أمورا ليست في الحسبان، فهذه فنزويلا – وأين هي في جغرافيتها وثقافتها منا؟ – تقطع علاقاتها مع إسرائيل، أيضا نيكاراجوا، وهو أمر لم تجرؤ عليه دول أخرى قريبة في كل شيء!!!.
ودول أجنبية كثيرة استدعت سفراء دولة الصهاينة، وهذا أحرج السيدة والحامية الكبرى، التي كانت تتخذ من مخالفة الإجماع الدولي مبررا للحرب والاحتلال.
نعم كسب التعاطف ليس هو الهدف الاستراتيجي الرئيس، الرئيس هو تحرير الأرض وفك الحصار، لكننا نكسب من التعاطف شيئا كثيرا، ولن نخسر أي شيء، لن نخسر ولاءنا لديننا، وقد فعل ذلك قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، لما أرسل المستضعفين إلى الحبشة، وقال: (إن فيها ملكا عادلا). فهاجروا، وأطلعوا النجاشي على أحوالهم، وعرفوه بالإسلام، فأسلم النجاشي، وحمى المسلمين، وكم أسلم أناس في هذه المحنة من طريق التعاطف، منهم رجل كان في الرحلة إلى غزة، وكم من أناس سعوا في حماية المسلمين، حتى عرضوا أرواحهم للخطر، بل قتلوا كالفتاة الأمريكية الشابة: "راشيل".
والأرضية التي تهيء لهذا التعاطف هي: التفريق بين المحارب وغير المحارب من المخالفين للملة. وهو فرق قرآني، قال تعالى:
{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}.
أما على طريقة من لا يفرق، فإنه يستدعي عداوة من لا يعاديه، مخالفا بذلك القرآن ونهج النبوة، لينظر فيجد أمامه الطرق كافة مغلقة، في عالم انكشف فيه كل شيء فضاق.

وأعظم طرق التحرير:
المقاومة. كما هو الاصطلاح المعاصر، أو الجهاد، كما هو الاصطلاح القرآني، وإذا كان استعمال الاصطلاح القرآني، يتخذ ذريعة لتشويه قضايانا، ووصف المجاهدين بالإرهابيين، أو المتطرفين المتمردين، فنحن في سعة أمرنا، فالعبرة بالمضمون، ولو اختلفت الألفاظ، فلا مانع – سياسة – من استبدالها بالمقاومة، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذه السياسة، في سياسته لصلح الحديبية، اعترض سهيل ابن عمرو موفد قريش على بدء كتاب الصلح بقول: باسم الله الرحمن الرحيم. وطلب أن تكتب: باسمك اللهم. وعلى وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وطلب أن يكتب: محمد بن عبد الله. فتنازل لهم بذلك، مع اعتراض المسلمين، لكن السياسة كانت تقتضي ذلك، والحقائق لا تتبدل بمجرد تغير الألفاظ.
فالمسلمون يمتلكون مساحة مناورة، أساء بعضهم فهمها، فظن ذلك تنازلا وتهاونا في الدين، وأن تمام الدين لا يكون إلا بالمصادمة..
ولم يكن هذا هدي النبي عليه السلام.

وهناك فئة لا ترى حلا إلا المفاوضات، فبظنهم أن بالكلام وحده، تسترجع الحقوق، والعدو يتنازل بها لأهلها، وهذه النظرية تصح مع إمام عادل، ظلم بغير شعور، فنبه إلى ظلمه، فرجع عنه، كعمر بن عبد العزيز شكا إليه أهل سمرقند احتلال بلدتهم غرة، فأمر الجيش بالخروج منها، أما مع ظالم وقوم كفرة فجرة، مذهبهم اللصوصية وسرقة الثروات، وإذلال البشر، فبعيد ومحال، فكيف يطمع في عدالة من لا يتحرك إلا بالظلم والفجور؟!.

فهذه المفاوضات ماضية منذ عقود، والخسائر تتوالى، فلم يبق شيء يستحق أن يسمى دولة فلسطينية، وأغري الصهاينة بمزيد من المطالب، كيهودية الدولة، والقدس عاصمة لإسرائيل، ورفض عودة اللاجئين، والاستيطان المتسارع.

المقاومة الحل، وهذا يعرفه كل كائن حي متحرك، وسيناء حررت بالمفاوضات لكن بمقابل مرير، أشبه ما يكون بالاحتلال نفسه، فهي منزوعة السلاح والبناء، وليس فيها مشاريع، ومصر حيدت تماما، وهي مكاسب أكبر من مجرد البقاء في سيناء، هذه هي المفاوضات تأخذ ولا تعطي، من جهة الطرف الأقوى.

على الشعوب المسلمة كافة، أن تستحضر قضية فلسطين وغزة، وتدرك أن الطريق الصحيح لتحريرها، أن تحذر من أوهام المستغفلين في التحرير، وأن تتعلم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في فتوحاته وغزواته، وسيرة الفاتحين بعده، وما صنعوه حتى فتح لهم، ما صفاتهم، وما أعمالهم؟. وكيف علاقتهم بربهم ومولاهم، وبمن حولهم، بأهليهم؛ وأولادهم، وقراباتهم، ثم الجيران، ثم الكافة؟، وفي علاقة الحاكم بشعبه، والشعب بحاكمه ؟. وكيف كانت جولاتهم مع المحتلين ؟. هي أمور تحتاج إلى دراسة عميقة؛ لمعرفة التفاصيل الدقيقة التي تساعد على انسجام الأمة وتكاتفها، شعوبا وحكاما؛ ليكون, قلبا واحدا على الحق، ونصرة المظلوم،.

فهذا أول طريق التحرير، فكل عمل حسن ونتاج مفيد، يسبقه تصور حسن وإرادة صالحة، والآفة فينا اليوم تتلخص في: سوء التصور والفهم للقضايا والمسائل والأحداث، ثم ينبني على ذلك ضعف الإرادة، أو سوءها، أو انعدامها.

 

د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية