اطبع هذه الصفحة


جرس إنذار

مشعل بن عبدالعزيز الفلاحي

 
هاهي السيارات واقفة على جنبات الطريق، جموع من الناس تهرع إلى حافة الطريق هناك، تجمّع كبير، أصوات باكية، ووجوه يعلوها الاستغراب، ضجيج يتجاوز زجاج سيارتي، توقّف السير، زاد الزحام، لم أجد بُدّاً من النزول، أوقفت سيارتي، انطلقت هناك حيث يجتمع الناس، مشهد غريب، ومنظر محزن، وموقف مهول، سيارة مبعثرة من أثر حادث، تشتعل بها النيران، ثلاثة من الشباب داخل السيارة، اثنان تجاوز لهب النار منهما معقد الإزار، والثالث يلفظ أنفاسه، دماء تتصبب، وحريق يتأجج، وبكاء وعويل، الغريب في الأمر أن صوتاً نشازاً ينبعث من تلك السيارة. صوت غناء يدوّي في آذان الحاضرين، حاول أحد الحاضرين أن يوقف هذا الصوت لكن دون فائدة، فقد حال بينهم وبينه لهب النار المتطاير هناك.

وبعد زمن من المحاولة وقفت تلك النار المشتعلة، وتوقّف ذلك الصوت النشاز، التف الناس حول أولئك الشباب، اثنان منهما غادرا الحياة ولم تُبْق فيهم النار شيئاً يذكر، أما الثالث فلا زال ينبض بالحياة، غير أنه في حال بشعة، يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويختم آخر حياته بصوت الغناء، يردده ويودّع به هذه الحياة، قيل له: قل لا إله إلا الله! كُرّر عليه الطلب، تجمّع الناس حوله، ارتفعت الأصوات تنادي بأن يختم حياته بكلمة التوحيد، فلم يكن شيئاً من ذلك، لفظ آخر أنفاسه بذلك الصوت، ورحل وهو يردد صوت الغناء الذي ينبعث من سيارته، وكانت نهايته على تلك الحال، غُسّل أولئك الشباب، وواراهم الناس تراب المقابر، ولا زال صدى صوت ذلك الغناء في آذان الحاضرين، وفي زحمة العزاء راع الناس صوت أخاه وهو يبكي فقده، ويتحسّر على فواته، ويبكي لمأساته، وكأن صورة النهاية تعرض على ذاكرته فيهيَّج بكاؤه. هذه قصة حقيقية وقعت لهؤلاء الشباب، وهي قصة تحكي سوء خاتمتهم عافانا الله وإياكم، كيف لا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من مات على شيء بعثه الله عليه.

أخي الحبيب: إن الغناء أصله مرض شهوة تنتاب القلوب، فيسقيها الغناء بمائه الآسن حتى يروّي عروقها بالمرض فينسى مع ذلك معالم الحياة الكريمة. ويعيش ألم جحيم المعصية، ويستمر صدى الجحيم حتى يرحل من هذه الحياة وهو يئن من أثر وعواقب ذلك المرض المشين.

أخي الحبيب: لقد جاء التحذير من الغناء في كتاب الله - تعالى- في أكثر من آية، قال الله - تعالى -: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين) وقد فسر هذه الآية بالغناء حبر الأمة ابن عباس، وابن مسعود، ومجاهد، وعلى ذلك أكثر المفسرين. وهو المراد في قول الله - تعالى-: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) وفي البخاري معلقاً بصيغة الجزم من حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف.
وفي حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: يكون في أمتي خسف وقذف ومسخ، قيل يا رسول الله متى؟ قال: إذا ظهرت المعازف والقينات واستحلت الخمرة. وجماهير أهل العلم - رحمهم الله - تعالى -على تحريم سماعه.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: ( ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك فأقل ما فيه أنه من شعار الفسّاق وشاربي الخمور) . اهـ

أخي الحبيب: الغناء عافانا الله وإياك سبب من أسباب سوء الخاتمة، ودليل ذلك تلك القصص التي ترويها الأحداث في طيات الأيام، فتكتب بها معالم من معالم الحسرة والشقوة في حياة من شهدها. وكم هم أولئك الذين عكفوا على سماعه؟ وأدمنوا ذلك في حياتهم اليومية؟ فكان بلاؤهم أن استحوذ عليهم حتى رحلوا وهم يرددونه، وسيبعثون يوم القيامة على ما ماتوا عليه، فيالله أي نهاية تلك التي رحلوا بها؟ وأي خسارة تلك التي يعيشونها هناك؟ وصدق ابن القيم حين قال: ومن عقوبات المعاصي: أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه...وثمّ أمر أخوف من ذلك وأدهى منه وأمرّ وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله، فربما تعذّر عليه النطق بالشهادة، قيل لبعضهم: قل لا إله إلا الله! فجعل يهذي بالغناء حتى قضى.اهـ.

أخي الحبيب: إن الفرص تمر في حياة الإنسان كثيراً، والعاقل الحصيف من انتبه لها وتشبّث بها، وعاشها على أنها فرصة العمر الوحيدة في حياته.
وأكتب لك اليوم هذه الرسالة وأنت تعيش أعظم فرصة في حياتك، فرصة شهودك لشهر رمضان الكريم جعلني الله وإياك ممن عمره بطاعة الله ورضوانه.

أخي الحبيب: هاهو رمضان يلقاك بعد أن حرم منه غيرك، تشهد نهاره بسمته، وليله بنسماته وآخران من أهلك وصحبك يلقيانه غير لقائك، أما الأول فمريض مقعد لا يعرف من رمضان إلا أهازيج الناس لكنه لا يملك التعبير عن فرحته معهم. وأما الثاني فقد واراه التراب، وهو في طيات الحفر يتمنى لقاءه. قد حيل بينه وبين أمنياتك، فيالله كم بين هذه المشاهد من أحوال وذكريات.

أخي الحبيب: إن سماع الغناء ذلة ومقت بإمكانك أن تستبدل ذلك بعز ورفعه، وحقارة ودناءة بإمكانك أن تجعلها إباء ومنعه، ومرض وشهوة، وخيارك بيدك أن تحولها إلى عفة وصحة. كل ذلك يمكن أن يكون حين يحل القرآن كتاب الله - تعالى - محل الغناء رقية الزنا عافانا الله وإياك.

أخي الحبيب: الأمر أيسر مما تصوّر، وليس بينك وبين السعادة إلا قرار صادق، وعزيمة جادة، وهمة تتحطّم عليها ذلة الشهوات، وحين تكون كذلك سيكون رمضان في حقك هذا العام رمضان الانتصارات.

أخي الحبيب: هيا، ضع يدك في يدي، هيا قم إلى المعالي، هيا نصعد جبال العز، هيا نكتب حياتنا بوحي القرآن، هيا نسير في ركب الأشعري أبي موسى وقد سرى ليلة كأنما أوتي مزماراً من مزامير آل داود، هيا نعيش على القرآن في نسمات الليل، هيا نصدح بقرارنا في التنازل عن الشهوة، والصبر عن المعصية، ونعلنها مدوية أمام كل الأصدقاء، هيا نقول لهم كفى إتباع للشيطان.

أخي الحبيب: هذه رسالتي بين يديك، لا أطلب فيها سوى عزك، ومجدك، أريدك أن تسايرني في طريق المعالي، أريدك رفيقاً صادقاً، أريدك صاحب قرار، فهل تجسر على مرافقتي؟ دعني أقول لك: فكّر في رضاء ربك ورضاء الشيطان. فكّر وقارن أي الطريقين أسعد لك.
تأمّل قبل أن تتخذ قرارك كم هو حب الله لك حين تختار طريق التوبة؟ تحدث عن نفسك وأنت أسير أغنية ماجنة، يروّج لها عدوك، وتحدّث عن نفسك وأنت عبداً لخالقك، وشيخاً عزيزاً بطاعتك.
وحين تختار طريق العبودية أرجوك أن تهاتفني، تدري لماذا؟ أريد أن أحتفل معك، أريد أن ابتهج بك، أريدك أن ترافقني إلى عالم السعادة. أريد رجلاً مثلك قرّر بمفرده أن يكون عابداً ربانياً. أرجوك ألا تحرمني رؤيتك. أرجوك ألا تبخل علىّ بصوت توبتك. وأنا على انتظار رنين هاتفك .

 

مشعل الفلاحي
  • الكتب والبحوث
  • رسائل موسمية
  • رسائل
  • تنمية الذات
  • للتواصل مع الشيخ
  • الصفحة الرئيسية