اطبع هذه الصفحة


إلى من أتحدث ؟
إلى الشباب

مشعل بن عبدالعزيز الفلاحي

 
إلى من أتحدث ؟ من أحق الناس ياترى بدقائق الحياة الغالية من عمري ؟ من ياتراني أسطر له رسالة العمر ، وحديث الأماني ، إن لم يكن لك أنت أخي الشاب مثل هذه الأحاديث فليس في حياتنا مساحة للآمال والطموحات . أخي الشاب : كم هي المرات التي أراك فيها ؟ وكم هي المرات التي أحدّث نفسي بحديث أخوي كريم إلى شخصك المبارك . عدد لا يمكن أن أحصيه فهو بقدر الأماني لشخصك ، وأماني تجاهك أعيشها مع الأنفاس . ووالله يا أخي وجدت في الطريق مرات عدة من زهدني فيك ، وقال تتحدث إلى خيال لا يمت للحقيقة بصلة فالشباب الذين تعقد عليهم الآمال عقد انفرط في ركام الرمال ، ولن تستطيع أن تجمعه مرة أخرى ، شباب يلهث خلف المعصية ، يراهن على فوز فريقه ، شباب يعبث في رأسه ، ويتجمل لخلانه وأصحابه ما ذا تنتظر منه ، وماذا سيتحقق علي يديه ؟ تساؤلات يبعثها المثبطون في طريقي إليك ، ووالله يا أخي الفاضل بما ألمسه فيك ، وما أظنه تجاه شخصك الكريم ، لو تعرضت فيه إلى أكبر من هذا ما أعادني للوراء خطوة ، ولما استطاعوا أن يوهنوا عزيمتي في الحديث إلى شخصك الكريم . فلتسمح لي من وقتك أخي الشاب ببضع دقائق معدودة أرجو ألا أكون مملاً لشخصك الكريم فأنت عندي أعز من أتحدث إليه :

أخي الشاب : أعلم يقيناً أنك تبحث عن السعادة ، وتجهد من أجلها كثيراً ، وكل ما صنعت ورآه الآخرون عيباً في شخصك الكريم إنما هو في ظني بحثاً منك عن هذا الطريق ، ومن ترى من الأخيار ممن تزدان الرؤى في محياهم هم الآخرون كانوا يبحثون ، وتوفيق الله بعد جهد طويل ، أوصلهم إلى الصورة الجميلة التي تراها اليوم ، وظني بك يارعاك الله أنك ستصل بإذن الله تعالى إلى الطريق الصحيح

عما قريب . بقي أخي الشاب من حقك علينا أن نوضح لك عن السبيل الذي يوصلك إلى عالم السعداء ، فهذا حق واجب ، ودين لك في أعناقنا ، ولعل ما أبدأ به معك أخي الفاضل هو قول الله تعالى (( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ... الآية )) فهذا الوعد نسوقه بين يديك ، وهو وعد من أصدق الصادقين ، وأعظم الراغبين في سعادتك ، رب العالمين ، فالسعادة حكر على هؤلاء فقط ، وغيرهم إنما يسلّون أنفسهم بسعادة وهمية سرعان ما تزول ، ويعود عالم الحيرة والاضطراب . ولما لا يكون كذلك ، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول : (( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواه ، وأن يحب المرء لايحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار )) ، هذا هي عاقبة الإيمان والعمل الصالح ، حلاوة يتلذذ بها الصالحون ، ويجدون أثرها طعماً حالياً في حياتهم ، وعندما ندلّك أخي الشاب إلى مثل هذا الطريق إنما هو داعي الحب أن تعيش مثل ما عاش المصلحون ، وإن تجد لحياتك طعماً آخر غير ما يعيشه البطالون ، عيش آخر وصف النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه بقوله : (( من أمسى آمناً في سربه ، معافى في بدنه ، عنده قوت يومه وليلته فكأنما حيزت له الدنيا )) هذا هو العيش ، وهذه هي السعادة الحقيقية لا السعادة الوهمية التي يعيشها كثير من الشباب على وتر سامر ، وصورة خليعة ، وصوت ما جن ، فهذه أوهام السعادة وليست السعادة الحقيقية ، والأدلة على صدق مقالتي أكثر من أن تحصى ، ولك أن تحسب معي كم من المغنين ، واللاعبين ، والممثلين ، الذين صفّق لهم الجمهور عجباً لهم ، وتمنوا أن ولغوا في ماهم فيه ظناً أنهم وجدوا السعادة ، ووصلوا إليها ، ثم ما يلبث الزمن أن يبرهن على أن تلك سعادة وهمية لا تمت للحقيقة بصلة ، فكثير من أؤلئك عادوا من جديد ، وبدأوا من طريق الصفر ، وهاهم في طريق العائدين يحكون قصصهم ، ويعبرون بالأسى عن ما ضيهم الرديء ، فمن باب أولى أن تبدأ من حيث انتهى الأولون وحينها تكون أنت أحق ممن تستفيد من تجارب الآخرين . أخي الشاب : لقد جاء في كتاب ربك تكريماً عظيماً لبنى آدم في قول الله تعالى في سورة الإسراء (( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً )) وأقسم الله عز وجل في سورة التين أقساماً متعددة على أنه خلقك في أعظم خلقة وأحسنها فقال تعالى (( والتين والزيتون ، وطور سينين . وهذا البلد الأمين . لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم )) وفي سورة الانفطار أعاد هذا الامتنان وفصّله سبحانه وتعالى فقال : (( إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت ، وإذا البحار فجرت . وإذا القبور بعثرت . علمت نفس ما قدمت وأخرت . يا ايها الإنسان ما غرك بربك الكريم . الذي خلقك فسواك فعدلك . في أي سورة ما شاء ركبك )) إلى غير ذلك من الآيات التي ذكّر فيها بتكريمك وعظم خلقك ، فيا لله العجب رب كريم عظيم ، يخصّك بالتكريم من بين سائر المخلوقات ، والعجب أخي الشاب أننا مع هذا التكريم نكابر ، ونتناسى ، ونتغافل ، عن كل ماذكر الله لنا من تكريم ، بل نغمس في الخطيئة ونلغ في المعصية بعمد وإصرار ، ونصل في التيه والضلال إلى أبعد ما يتصور المخلوق ، وكل ذلك تناسياً منا لحق الرب جل وعلا ، وهذا غاية ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من انحطاط . وتأمل بارك الله فيك الإنسان الذي يصل في المعصية إلى حد الإسراف ثم تجد أن الله يفتح له باب الأمل (( قل يعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم )) يقول سيد((نها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية ، كائنة ما كانت ، وإنها الدعوة للأوبة ، دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبعدين في تيه الظلال . دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله تعالى . إن الله رحيم بعباده ، وهو يعلم ضعفهم وعجزهم .... يعلم الله سبحانه عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون ، ويوسع له في الرحمة ، ولا يأخذه بمعصيته ، حتى يهيئ له جميع الوسائل ليصلح خطأه ويقيم خطاه على الصراط ، وبعد أن يلج في المعصية ، ويسرف في الذنب ، ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره ، ولم يعد يُقبل ولا يستقبل . في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف (( قل يعبادي ..... )) الآية . اهـ وهذا رسول الهدي صلى الله عليه و سلم يعرض التوبة في ثوب أفسح ما يكون فيقول صلى الله عليه وسلم : (( لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها ، فأتى شجرة ، فاضطجع في ظلها ، وقد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح . ويأتي في مرة أخرى فيكرر تلك الدعوة بأسلوب آخر لطيف فيقول صلى الله عليه وسلم : (( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها )) بل يصل الأمر إلى أروع من ذلك بكثير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض ، فدُل على راهب فأتاه فقال له إنه قتل تسعة وتسعين نفساً ، فهل له من توبة ؟ فقال : لا فقتله فكمّل به مئة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم ، فقال : إنه قتل مئة نفس فهل له من توبة ؟ قال : نعم ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا ، فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب . فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيراً قط ، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم ـ أي حكماً ـ فقال : قيسوا مابين الأرضيين فإلى أيتهما كان أدنى فهوله ، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة . متفق عليه . فتصور يارعاك الله هذه الرحمة في أعظم صورها ، صورة تبين لنا عن ضعفنا وجهلنا تجاه من خلقنا وأكرمنا وكلي أمل بإذن الله تعالى أن نصل وإياك إلى تقدير هذا الإكرام .

أخي الشاب : الحديث عن الماضي حديث جليل ، وكيف لا يكون كذلك وهو حديث عن الأجداد والآباء ، حديث عن التاريخ ، حديث عن الماضي بكل ما فيه من عز وعلو وشموخ . وكما قال الشاعر وهو يصف تلك الحال التي كانوا عليها :

عباد ليل إذا جن الظلام بهم *** كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم *** هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
يارب فابعث لنا من مثلهم نفراً *** يشيدون لنا مجداً أضعناه

وهاهي كتب السيرة تروي لنا تاريخاً عبق الذكريات عن سيرة هؤلاء رحمهم الله : فهذا عمير بن الحمام : يردد يوم بدر بخ بخ والله إنها لحياة طويلة لأن بقيت إلى أن آكل هذه التمرات فينطلق في غمار المعركة فيموت شهيداً . وهذا أنس ابن النظر تفوته غزوة بدر فيبكي أسفاً على فواتها وتأتي غزوة أحد فينطلق صوب المعركة وهو يردد قولته المشهورة : إني لأجد ريح الجنة من دون أحد فيقاتل فلم تعرفه إلا أخته بعد موته ببنانه . وجعفر يخوض معركة تجاه جيوش الروم فيأخذ راية الإسلام بيمينه فتقطع ، فيأخذ الراية بشماله فتقطع ، ويأخذ الراية بعضديه حتى تكسرت الرماح في صدره وهو يردد :

ياحبذا الجنة واقترابها *** طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها *** علىّ إن لاقيتها ضرابها

وغير هؤلاء كثير برهنوا على سموهم ورفعتهم وعلو قدرهم ، ورفعة أمانيهم أن قدموا رقابهم في سبيل الدفاع عن دينهم ، فكتبوا أسماءهم في سجلات أفذاذ الأمة ورجالها وأنا وإياك أخي الشاب إلى اليوم نذكر هذه السير ونتسلى بها ، ونذكّر أنفسنا بماضيهم العريق ، وسجلاتهم الحافلة بالذكريات ـ، والعجب أننا نتذاكر هذه الصور الجميلة ، وشبابنا للأسف اليوم نسي هذه العزة فبات مغرماً بترجيل رأسه ، وتزيين عارضيه ، بات يقضي ساعات طوال في انتظار دوره على حلاق يعبث برأسه باسم التقليد الأعمى والمدنية الزائفة . نتحدث عن العزة وشبابنا يلبس الضيق من الثياب ، ويجهد في أن يتصوّر بصورة الغربي اليهود فإنا لله وإنا إليه راجعون من هذه النكسات التي تعيشها الأمة في أسوء فترات تاريخها . ولعل هذه الصور المحزنة التي أملتها ظروف تعيشها الأمة اليوم قد آذن ليلها بالبلج وأصبح صبح زوالها قريب جداً ، ولأن تدنّس شبابنا اليوم بمثل هذه الصور العارضة فستأتي الأيام قريباً لتبرهن على علو كعب شبابنا ،وعزتهم بإذن الله ، ولأن عشنا اليوم الحسرات أساً على الواقع المرير الذي يعيشه شباب الأمة فإننا على يقين بأننا عما قريب سنرى الصورة الحية والمثل العليا تتأجج في أوساطهم ولئن ردد الشاعر حزناً قوله :

وآلمني وآلم كل حر *** سؤال الدهر أين المسلمينا

سنردد نحن عما قريب بإذن الله :

سنعود للدنيا نطبُّ جراحها *** سنعود للتكبير والتأذين
ستسير فُلك الحق تحمل جنده *** وستنتهي للشاطئ المأمون

فإلى الإمام ياشباب أروني وأروا كل حريص على مجدكم ياشباب صورة من تاريخنا الماضي ، أعيدوا لنا الذكريات ياشباب . أنتم الأمل يارعاكم الله ، وأنتم التاريخ ، بل أنتم الأمة كلها ، ولئن عاش سلفنا الصالح أحاديث مجد بناه لهم الشباب فالأمجاد التي سنعيشها معكم هي في أعيننا أقرب ما يكون .
وفقك الله ورعاك وعلى طريق الخير سدد خطاك .

 

مشعل الفلاحي
  • الكتب والبحوث
  • رسائل موسمية
  • رسائل
  • تنمية الذات
  • للتواصل مع الشيخ
  • الصفحة الرئيسية