اطبع هذه الصفحة


محاولات الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قديماً وكيف وجهت منه ومن أصحابه

د. مهران ماهر عثمان

 
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين ، أما بعد ؛
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أيها الإخوة الأكارم والأخوات الكريمات ..
عنوان هذه الورقة : (محاولات الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قديماً ، وكيف وجهت منه ومن أصحابه) ([1]).
وقبل البدء أرى أن من المتعينِ علي أن أتقدم بالشكر للإخوة الذين نظموا هذه الندوات ؛ للذب عن عرض نبينا صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان الذب عن آحاد المسلمين مما ينجي من عذاب النار فكيف بالذب عن سيد الأولين والآخرين ، قال صلى الله عليه وسلم :« من ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ بِالْغِيبَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنْ النَّارِ» ([2]) ، فاللهَ أسأل أن يجعلنا من الذَّابين عن عرض محمد صلى الله عليه وسلم ..

محاور هذه الورقة كما يلي :
* تسلية الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم  بما كان يواجه من سب وتكذيب .
* تعريف السب .
* الذين صدر عنهم هذا الفعل قديماً ، وكيف واجه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأذية ؟
* كيف واجه الصحابة ذلك ؟
* توبة من سب النبي صلى الله عليه وسلم .
وبعد هذا التعريف بمبادئ ورقتنا هذه يمكن أن أدلِفَ إلى أول محاورها ..
 



تسلية الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم  بما كان يواجه من سب وتكذيب

سلَّى الله نبيه بآيات عديدة لما واجه من صد وتكذيب ، من ذلك قوله تعالى : }وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا { ([3]) .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله :" }وكفى بربك هادياً ونصيراً { أي : لمن اتبع رسوله ، وآمن بكتابه ، وصدقه ، واتبعه ، فإن الله هاديه وناصره في الدنيا والآخرة " ([4]).
وقوله : } مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ{ ([5]) .
 
تعريف السب

ما هي الإساءة ؟ وما هو السب ؟
قال شيخ الإسلام رحمه الله معرفاً السب :" الكلام الذي يقصد به الانتقاص و الاستخفاف ، و هو ما يفهم منه السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم كاللعن و التقبيح و نحوه " ([6]) .
 
الذين صدر عنهم هذا الفعل قديماً .. وكيف واجه النبي صلى الله عليه وسلم هذه المحاولات ؟

الإخوة الأكارم .. ليس من الممكن حصر جميع المحاولات في مثل هذه الندوة ، ولكني أجتزئ بعضها ، فممن  أساؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قديماً :
 
أ/ المنافقون .

وهذه بعض النماذج التي تبين ذلك :
من ذلك ما جاء في قول الله تعالى : }يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ{ ([7]) .
قال ابن كثير رحمه الله :" عن محمد بن كعب القُرَظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قُرّاءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء. فرُفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب. فقال: } أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون { إلى قوله: } مجرمين { وإن رجليه لتنسفان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " ([8]) .
فهذه الآية نصٌّ في أنَّ الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر ، فالسب بطريق الأولى ، و قد دلت الآية أيضاً على أن من تنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر ، جاداً أو هازلاً .
ومن ذلك :
بعد غزوة المُريسيع سنة ست من الهجرة ورد الناس الماء ، وفيهم عمر ، ومع عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ t أَجِيرٌ لَهُ مِنْ بَنِي غِفَارٍ ، يُقَالُ لَهُ جَهْجَاه بْنُ مَسْعُودٍ يَقُودُ فَرَسَهُ ، فَازْدَحَمَ جَهْجَاه وَسِنَانُ بْنُ وَبَرٍ الْجُهَنِيّ -حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ - عَلَى الْمَاءِ فَاقْتَتَلَا ، فَصَرَخَ الْجُهَنِيّ : يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، وَصَرَخَ جَهْجَاه : يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ وَعِنْدَهُ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، فقال : ما مثلنا ومثلهم إلّا كَمَا قَالَ الْأَوّلُ : سَمّنْ كَلْبَك يَأْكُلْك ، أَمَا وَاَللّهِ  لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ ، ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ : هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ ؛ أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ ، وَقَاسَمْتُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ ، أَمَا وَاَللّهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ عَنْهُمْ مَا بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوّلُوا إلَى غَيْرِ دَارِكُمْ . فَسَمِعَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَمَشَى بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَذَلِكَ عِنْدَ فَرَاغِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَدُوّهِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ ، وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، فَقَالَ : مُرْ بِهِ عَبّادَ بْنِ بِشْرٍ فَلْيَقْتُلْهُ . فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : «فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إذَا تَحَدّثَ النّاسُ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ؟  لَا وَلَكِنْ أَذّنَ بِالرّحِيلِ» . وَذَلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْتَحِلُ فِيهَا ، فَارْتَحَلَ النّاسُ .
وَقَدْ مَشَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَلَغَهُ أَنّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَدْ بَلّغَهُ مَا سَمِعَ مِنْهُ ، فَحَلَفَ بِاَللّهِ مَا قُلْت مَا قَالَ وَلَا تَكَلّمْت بِهِ . - وَكَانَ فِي قَوْمِهِ شَرِيفًا عَظِيمًا - ، فَقَالَ مَنْ حَضَرَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِهِ : يَا رَسُولَ اللّهِ عَسَى أَنْ يَكُونَ الْغُلَامُ قَدْ أَوْهَمَ فِي حَدِيثِهِ وَلَمْ يَحْفَظْ مَا قَالَ الرّجُلُ ([9]) . فَلَمّا اسْتَقَلّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَارَ لَقِـيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ، فَحَيّاهُ بِتَحِيّةِ النّبُوّةِ وَسَلّمَ عَلَيْهِ ، ثُمّ قَالَ : يَا نَبِيّ اللّهِ وَاَللّهِ لَقَدْ رُحْتَ فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ مَا كُنْتَ تَرُوحُ فِي مِثْلِهَا؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم :«أَوْ مَا بَلَغَك مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ» ؟ قَالَ : وَأَيّ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ :«عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ » . قَالَ : وَمَا قَالَ ؟ قَالَ :« زَعَمَ أَنّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَن الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ» . قَالَ : فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَللّهِ تُخْرِجُهُ مِنْهَا إنْ شِئْت ، هُوَ وَاَللّهِ الذّلِيلُ وَأَنْتَ الْعَزِيزُ . ثُمّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللّهِ اُرْفُقْ بِهِ ، فَوَاَللّهِ لَقَدْ جَاءَنَا اللّهُ بِك ، وَإِنّ قَوْمَهُ لَيَنْظِمُونَ لَهُ الْخَرَزَ ؛ لِيُتَوّجُوهُ ، فَإِنّهُ لَيَرَى أَنّك قَدْ اسْتَلَبْته مُلْكًا.وجاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللّهِ ، إنّهُ بَلَغَنِي أَنّك تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ فِيمَا بَلَغَك عَنْهُ ، فَإِنْ كُنْت لَا بُدّ فَاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ ، فَأَنَا أَحْمِلُ إلَيْك رَأْسَهُ ، فَوَاَللّهِ لَقَدْ عَلِمَتْ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ لَهَا مِنْ رَجُلٍ أَبَرّ بِوَالِدِهِ مِنّي ، وَإِنّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ فَلَا تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْظُرُ إلَى قَاتِلِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ يَمْشِي فِي النّاسِ فَأَقْتُلَهُ ، فَأَقْتُلَ رَجُلًا مُؤْمِنًا بِكَافِرِ ، فَأَدْخُلَ النّارَ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم :«بَلْ نَتَرَفّقُ بِهِ ، وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا»
وَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَحْدَثَ الْحَدَثَ كَانَ قَوْمُهُ هُمْ الّذِينَ يُعَاتِبُونَهُ وَيَأْخُذُونَهُ وَيُعَنّفُونَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِمْ : «كَيْفَ تَرَى يَا عُمَرُ ، أَمَا وَاَللّهِ لَوْ قَتَلْته يَوْمَ قُلْتَ لِي اُقْتُلْهُ لَأُرْعِدَتْ لَهُ آنُفٌ لَوْ أَمَرْتهَا الْيَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلْته» ؛ فقَالَ عُمَرُ : قَدْ وَاَللّهِ عَلِمْتُ لَأَمْرُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ أَمْرِي ([10]).
ومن ذلك إشاعتهم للإفك والتهم بعد هذه الغزوة في محاولة بائسة لتدنيس فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يخفى ما نزل بشأن ذلك من القرآن في سورة النور .
 
ب/ اليهود :

من ذلك محاولتهم قتله صلى الله عليه وسلم ..
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما طلب من بني النضير أن يعينوه في دية الكلابيين –وكان ذلك واجباً عليهم حسب بنود المعاهدة معهم – قالوا : نفعل وطلبوا زيارته قائلين : نفعل يا أبا القاسم ما أحببت، قد آن لك أن تزورنا وأن تأتينا، اجلس حتى نتشاور ونصلح أمرنا فيما جئتنا به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مستند إلى بيت من بيوتهم، ثم خلا بعضهم ببعض فتناجوا، فقال حيي بن أخطب: يا معشر يهود قد جاءكم محمد في نفر من أصحابه لا يبلغون عشرة - ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وسعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير، وسعد بن عبادة - فاطرحوا عليه حجارة من فوق هذا البيت الذي هو تحته فاقتلوه، ولن تجدوه أخلى منه الساعة، فإنه إن قتل تفرق عنه أصحابه، فلحق من كان معه من قريش بحرمهم، وبقي من كان هاهنا من الأوس والخزرج، فما كنتم تريدون أن تصنعوا يوما من الدهر فمن الآن، فقال عمرو بن جَحَّاش النضري: إذا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة، فقال سلام بن مشكم: يا قوم أطيعوني هذه المرة وخالفوني الدهر، والله لئن فعلتم ليخبرن بأنا قد غدرنا به، وإن هذا نقض للعهد الذي بيننا وبينه، فلا تفعلوا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وكان هذا هو سبب غزوة بني النضير ([11]) .
ولقد حاول المنافقون منعهم من الخروج واعدين بأن يكونوا معهم كما أخبر الله في سورة النضير :} أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ{ [الحشر:11-12] .
ومن محاولاتهم قتله حادثة الشاة المسمومة .. فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ ، فَأَكَلَ مِنْهَا ، فَجِيءَ بِهَا ، فَقِيلَ : أَلَا نَقْتُلُهَا ؟ قَالَ :«لَا» ، قال أنس : فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ ([12]) رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ([13]) .
وعن أبي هريرة t قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ ، فَأَهْدَتْ لَهُ يَهُودِيَّةٌ بِخَيْبَرَ شَاةً مَصْلِيَّةً ([14]) سَمَّتْهَا ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا وَأَكَلَ الْقَوْمُ ، فَقَالَ :«ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ ؛ فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ» ، فَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ الْأَنْصَارِيُّ ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ :«مَا حَمَلَكِ عَلَى الَّذِي صَنَعْتِ» . قَالَتْ : إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ الَّذِي صَنَعْتُ ، وَإِنْ كُنْتَ مَلِكًا أَرَحْتُ النَّاسَ مِنْكَ . فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُتِلَتْ ([15]) .
قال النووي رحمه الله :" وَاخْتَلَفَ الْآثَار وَالْعُلَمَاء : هَلْ قَتَلَهَا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَمْ لَا ؟ فَوَقَعَ فِي صَحِيح مُسْلِم أَنَّهُمْ قَالُوا : أَلَا نَقْتُلهَا ؟ قَالَ: «لا» ، وَمِثْله عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَجَابِر ، وَعَنْ جَابِر مِنْ رِوَايَة أَبِي سَلَمَة أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَتَلَهَا . وَفِي رِوَايَة اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَفَعَهَا إِلَى أَوْلِيَاء بِشْر بْن الْبَرَاء بْن مَعْرُور ، وَكَانَ أَكَلَ مِنْهَا فَمَاتَ بِهَا ، فَقَتَلُوهَا . وَقَالَ اِبْن سَحْنُون : أَجْمَع أَهْل الْحَدِيث أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَتَلَهَا . قَالَ الْقَاضِي : وَجْه الْجَمْع بَيْن هَذِهِ الرِّوَايَات وَالْأَقَاوِيل أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلهَا أَوَّلًا حِين اِطَّلَعَ عَلَى سُمّهَا . وَقِيلَ لَهُ: اُقْتُلْهَا فَقَالَ : لَا ، فَلَمَّا مَاتَ بِشْر بْن الْبَرَاء مِنْ ذَلِكَ سَلَّمَهَا لِأَوْلِيَائِهِ فَقَتَلُوهَا قِصَاصًا ، فَيُصْبِح قَوْلهمْ : لَمْ يَقْتُلهَا أَيْ فِي الْحَال، وَيَصِحّ قَوْلهمْ : قَتَلَهَا أَيْ بَعْد ذَلِكَ . وَاللَّهُ أَعْلَم" ([16]) .
ومن صور إساءتهم : ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُنَاسٌ مِنْ الْيَهُودِ ، فَقَالُوا : السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ . قَالَ : «وَعَلَيْكُمْ» . فقالت عائشة : بَلْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَالذَّامُ واللعنة . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ». فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟ فقَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :«قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُم» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : }وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ{ [المجادلة :8] ([17]) .
 
ج/ الكفار :
آذى الكفار نبينا صلى الله عليه وسلم  بلسانهم وفعالهم ..
قال تعالى :} وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ{ [الحجر:6] ، وقال :} إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ{[الصافات:35-36] ، وقال: } وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ{ ، وقال: }وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ{ [القلم:51] ، وقال :} أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ{ [الطور :30] ، وقال :} وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ{ [ص:4]، وقال :} وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ{ [النحل:101].
كانوا يرمون عليه سلا الجزور ..
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود t قَالَ : مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا عَلَى قُرَيْشٍ غَيْرَ يَوْمٍ وَاحِدٍ ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَرَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ جُلُوسٌ ، وَسَلَى جَزُورٍ قَرِيبٌ مِنْهُ ، فَقَالُوا : مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّلَى فَيُلْقِيَهُ عَلَى ظَهْرِهِ ؟ فَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ : أَنَا . فَأَخَذَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى ظَهْرِهِ ، فَلَمْ يَزَلْ سَاجِدًا حَتَّى جَاءَتْ فَاطِمَةُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهَا فَأَخَذَتْهُ عَنْ ظَهْرِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْمَلَأَ مِنْ قُرَيْشٍ ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ» . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ t : فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ جَمِيعًا ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ ، غَيْرَ أُبَيٍّ أَوْ أُمَيَّةَ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلًا ضَخْمًا فَتَقَطَّعَ  ([18]).
وكسروا رباعيته وشجوا رأسه ([19]) ، عن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود t قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ:«رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» ([20]) . وهذا حدث يوم أُحد.
وحصبوه بالحجارة في الطائف ، فأرسل الله ملك الجبال ليأمره في قومه بما شاء ، فعفا صلى الله عليه وسلم ، قَالَتْ له عائشة رضي الله عنها : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ :«لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ([21])، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ :إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ»؟ فماذا كان رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال :«بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»([22]).
وبعد غزوة أحد لما انحاز صلى الله عليه وسلم إلى الجبل أراد أبي بن خلف أن يلحق به ليقتله ، فأخذ صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصِّمَّة – وكان قريباً منه - وقام وانتفض انتفاضةً تطاير منها شعره، ثم رماه في تَرْقُوَتِه ، فانقلب من على فرسه، فَلَمّا رَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ وَقَدْ خَدَشَهُ فِي عُنُقِهِ خَدْشًا غَيْرَ كَبِيرٍ احتقن منه الدم ، قَالَ: قَتَلَنِي وَاَللّهِ مُحَمّدٌ. فقَالُوا لَهُ: ذَهَبَ وَاَللّهِ فُؤَادُك وَاَللّهِ إنْ بِك مِنْ بَأْسٍ. قَالَ: إنّهُ قَدْ كَانَ قَالَ لِي بِمَكّةَ :«أَنَا أَقْتُلُك» ، فَوَاَللّهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيّ لَقَتَلَنِي. فَمَاتَ عَدُوّ اللّهِ وَهُمْ قَافِلُونَ بِهِ إلَى مَكّةَ ([23]) .
وكان بعض زعماء الطائف قد قال له : أما وجد الله غيرك حتى يرسله إلينا ؟
وقال له ابن عمته : والله لا آمنت بك حتى تتخذ سلماً إلى السماء ، فتعرج فيه وأنا انظر، ثم تأتي بصك وأربعة من الملائكة يشهدون أن الله قد أرسلك" ([24]) .
لقد اتضح لنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يعفو – وهذا هو الغالب- وربما أخذهم بسبهم وجرمهم ، فلقد أهدر دماء بعضهم وأوصى بقتلهم ولو وجدوا متعلقين بأستار الكعبة ، ودعا على بعضهم .
قال ابن تيمية رحمه الله :" كان النبي صلى الله عليه وسلم تارة يختار العفو عمن سبه ، وربما أمر بقتله إذا رأى المصلحة في ذلك " ([25]).
 
كيف واجه الصحابة ذلك ؟

لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهاونون مع من أساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقد كان عليه الصلاة والسلام أحب إلى أحدهم من كل شيء ..وهذا ما توضحه الأحاديث التالية :
عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَتَقَعُ فِيهِ ، فَخَنَقَهَا رَجُلٌ حَتَّى مَاتَتْ ، فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَمَهَا ([26]).
و عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلاً أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَتَقَعُ فِيهِ ، فَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي ، وَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ ، فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَشْتُمُهُ ، فَأَخَذَ الْمِغْوَلَ ([27]) فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا . فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ :«أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا فَعَلَ مَا فَعَلَ لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلَّا قَامَ» . فَقَامَ الْأَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا صَاحِبُهَا ؛ كَانَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي ، وَأَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ ، وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً ، فَلَمَّا كَانَ الْبَارِحَةَ جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ ، فَأَخَذْتُ الْمِغْوَلَ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «أَلا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ» ([28]) .
وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ : أَغْلَظَ رَجُلٌ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، فَقُلْتُ : أَقْتُلُهُ ؟ فَانْتَهَرَنِي، وَقَالَ : لَيْسَ هَذَا لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ([29]).
وهذا عبد الرحمن بن عوف يقول :" بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ نَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا تَمَنَّيْتُ لَوْ كُنْتُ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ قَالَ قُلْتُ نَعَمْ وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي قَالَ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا قَالَ فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ فَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ مِثْلَهَا قَالَ فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَزُولُ فِي النَّاسِ فَقُلْتُ أَلَا تَرَيَانِ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلَانِ عَنْهُ قَالَ فَابْتَدَرَاهُ فَضَرَبَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلَاهُ ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ أَيُّكُمَا قَتَلَهُ فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَا قَتَلْتُ فَقَالَ هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا قَالَا لَا فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ كِلَاكُمَا قَتَلَهُ وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَالرَّجُلَانِ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ " ([30]).
 
توبة من سب النبي صلى الله عليه وسلم

يقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم ولو تاب وهذا لا خلاف فيه بين العلماء ، وهذا الإجماع قد حكاه غير واحد من أهل العلم كالإمام إسحاق بن راهويه وابن المنذر والقاضي عياض والخطابي وغيرهم ([31]) .
ومن الأدلة على أنه يقتل ولو تاب :
ما ثبت عن سعد بن أبي وقاص t قال : لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَقَالَ :«اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ» - والأربعة عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ ، وَمَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ-  فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ فَأُدْرِكَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَاسْتَبَقَ إِلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، فَسَبَقَ سَعِيدٌ عَمَّارًا وَكَانَ أَشَبَّ الرَّجُلَيْنِ فَقَتَلَهُ ، وَأَمَّا مَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ فَأَدْرَكَهُ النَّاسُ فِي السُّوقِ فَقَتَلُوهُ ، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ فَرَكِبَ الْبَحْرَ فَأَصَابَتْهُمْ عَاصِفٌ ، فَقَالَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ : أَخْلِصُوا ؛ فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لَا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا هَاهُنَا . فَقَالَ عِكْرِمَةُ : وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ يُنَجِّنِي مِنْ الْبَحْرِ إِلَّا الْإِخْلَاصُ لَا يُنَجِّينِي فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ ، اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَيَّ عَهْدًا إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ أَنْ آتِيَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ فَلَأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا ، فَجَاءَ فَأَسْلَمَ ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ . قَالَ : فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا ، كُلَّ ذَلِكَ يَأْبَى ، فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ :«أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ» . فَقَالُوا : وَمَا يُدْرِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ ؟ هَلَّا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ . قَالَ :«إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ أَعْيُنٍ» ([32]) .
وجه الدلالة من الحديث : أحب النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة أن يقتلوا ابن أبي السرح بعدما جاء تائباً .
وكان عبد الله بن سعد من كتبة الوحي فارتد وزعم أنه يزيد في الوحي ما يشاء ، وهذا كذب وافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا من أنواع السب كما لا يخفى ، ثم أسلم وحسن إسلامه ، فرضي الله عنه .
وسب النبي صلى الله عليه وسلم يتعلق به حقان ؛ حق لله ، وحق له ، حق الله يسقط بالتوبة ، وأما حق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يحتم علينا قتل الساب، فتوبة الساب تنفعه ديانةً ولا تنفعه قضاءً .
فإن قيل : أليس قد ثبت أن من الناس من سب الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وقبل النبي صلى الله عليه وسلم توبته ؟
أجيب : بأن هذا في حياته ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعفو عمن شاء ، ولكن ليس لأحد أن يعفو بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
في هذا القدر الكفاية .
اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،،،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

--------------------------------------------------------
[1] / نظمت هذا النشاط مجموعة روابط من للطلاب الأفارقة بجامعة إفريقيا العالمية ، يوم الأربعاء 18 ربيع الآخر 1429 عصراً .
[2] / خرجه الإمام أحمد والطبراني وابن أبي شيبة.
[3] / الفرقان (31) .
[4] / تفسير القرآن العظيم  (3/318) .
[5] / فصلت (43) .
[6] / الصارم المسلول ، ص (563) .
[7] / التوبة (64-66) .
[8] / تفسير القرآن العظيم (4/171)
[9] / وهذا سبب نزول الآية :} يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا{ [التوبة:74] .
[10] / سيرة ابن هشام (291-293) بتصرف يسير .
[11] / الفصول في سيرة الرسول لابن كثير ، ص (47) .
[12] / " قال النووي رحمه الله :" (لهوات) بِفَتْحِ اللَّام وَالْهَاء ، جَمْع لَهَاة بِفَتْحِ اللَّام ، وَهِيَ اللَّحْمَة الْحَمْرَاء الْمُعَلَّقَة فِي أَصْل الْحَنَك . قَالَهُ الْأَصْمَعِيّ ، وَقِيلَ : اللَّحْمَات اللَّوَاتِي فِي سَقْف أَقْصَى الْفَم . وَقَوْله : ( مَا زِلْت أَعْرِفهَا ) ، أَيْ الْعَلَامَة ، كَأَنَّهُ بَقِيَ لِلسُّمِّ عَلَامَة وَأَثَر مِنْ سَوَاد أَوْ غَيْره "شرح النووي على مسلم (14/179)   .
[13] / البخاري ومسلم  .
[14] / مشوية .
[15] / سنن أبي داود .
[16] / شرح النووي على مسلم (14/179)  
[17] / البخاري ومسلم .
[18] / أحمد .
[19] / البخاري ومسلم.
[20] / البخاري، ومسلم  .
[21] / موضع بالقرب من مِنَى كانت الثعالب تأوي إليه ، انظر فتح الباري (3/385) .
[22] / البخاري  ، ومسلم  .
[23] / سيرة ابن هشام (2/83) .
[24] /  البداية والنهاية (4/ 328) .
[25] / الصارم المسلول (2/438) .
[26] / أبو داود .
[27] / سيف قصير .
[28] / سنن أبي داود .
[29] / سنن النسائي .
[30] / البخاري ومسلم .
[31] / انظر الصارم المسلول (2/13-16) . وانظر هذه النقول على هذا الرابط : http://saaid.net/Doat/mehean/6.htm
[32] / سنن أبي داود والنسائي .
 

د. مهران ماهر
  • الخطب المنبرية
  • المقالات
  • البحوث
  • الردود
  • برامج إذاعية
  • المواعظ والدروس
  • الصفحة الرئيسية