اطبع هذه الصفحة


أقسام الكفار

د. مهران ماهر عثمان

 
بسم الله الرحمن الرحيم

أقسام الكفار ([1])

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
أقسام الكافرين:
فالكفار على أربعة أقسام :
القسم الأول : الكافر المحارب ، الذي اجتمعنا معه في معامع القتال ومواقع النزال .
الثاني : الذمي ، وهو من يدفع الجزية لولي أمر المسلمين كل عام .
الثالث : المعاهد ، وهو من كان بيننا وبينه عهد لمدة معينة أو مطلقة ، كالذين عاهدهم النبي  صلى الله عليه وسلم  من المشركين بصلح الحديبية .
الرابع : المستأمِن الذي أُعطي أماناً من مسلم .
هذه أقسام الكفار .
وكل ذلك داخل فيما أجمله ابن عباس رضي الله عنهما في صحيح البخاري بقوله: "كان المشركون على منزلتين من النبي  صلى الله عليه وسلم  والمؤمنين؛ كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه"

حكم كل قسم من الأقسام:

أما المحارب فلاريب أنّ الواجب أن يعمل فيه قول رب العالمين :} فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ{ [محمد 4] .
وأما الذمي فقد كثرت النصوص التي تحرم علينا أن نقتله ، ولا يوجد كافر ذمي في هذا العهد ؛ لأن المسلمين عطلوا شعيرة الجهاد في سبيل الله ، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث بُرَيْدَةَ بن الحصيب t أنه قال :كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ، ثُمَّ قَالَ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ، اغْزُوا ، وَلَا تَغُلُّوا ، وَلَا تَغْدِرُوا ، وَلَا تَمْثُلُوا ، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا. وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ » والخصال هي:
1/ « ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ » .
2/ «فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ » .
3/ « فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ» .
فمن دفع الجزية من هؤلاء فهو الذمي نسأل الله أن يعيد للإسلام مجده .
قال تعالى :} قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ{ [التوبة 29] .
فهذا النوع حرم النبي  صلى الله عليه وسلم  أن يمس بسوء، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا » [أخرجه الإمام أحمد].
قال علي t: "إنما بذلوا الجزية حتى تكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا" [رواه الدارقطني].
وأما المعاهَد فلا يجوز أن يغدر به ، فإن خفنا غدره نبذنا عهده ، قال تعالى :} وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ{ [الأنفال 58] .
وقد حرم رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قتله بقوله : «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا » [أخرجه البخاري] .
وقال  صلى الله عليه وسلم  :« مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدَة بِغَيْرِ حِلِّهَا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِ الْجَنَّة» [أبو داود والنسائي] .
ولو قتل المعاهد خطأً فقد أوجب الله الدية والكفارة على القاتل بقوله :} وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا{ [النساء 92] .
قال الطنطاوي في الوسيط: "وإن كان المقتول خطأ }مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ{ أي : من قوم بينكم وبينهم - أيها المؤمنون - عهد من هدنة أو أمان وهم على دنيهم وأنتم على دينكم ، فعلى القاتل في هذه الحالة دية تدفعها عاقلته إلى أهل القتيل ، لأن حكمهم كحكم المسلمين ، وعليه كذلك } تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ { لتكون كفارة له عند الله ، وقدم الدية هنا على تحرير الرقبة على العكس مما جاء في صدر الآية ، للإِشعار بوجوب المسارعة إلى تسليم الدية حتى لا يتردد القاتل في دفعها إلى غير المسلمين الذين بينهم وبين المسلمين عهد يمنع عدم الاعتداء .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد جعل الحكم في قتل المعاهد كالحكم في قتل المسلم من الدية وتحرير الرقبة ، وبعضهم يرى أن المراد بالمقتول خطأ هنا المسلم الذي هو في قوم معاهدين وأن الدية لا تدفع لهؤلاء القوم فيكون معنى الآية : وإن كان المقتول المؤمن مِن قَوْمٍ كفار بينكم وبينهم ميثاق ، فعلى قاتله دية مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ من أهل الإِسلام إن وجدوا ، ولا تدفع إلى ذوى قرابته من الكفار وإن كانوا معاهدين ، إذ لا يرث الكافر المؤمن .
ويبدو لنا أن الرأي الأول أقرب إلى الصواب ، لأنه لو كان المراد بالمقتول خطأ هنا القتيل المسلم لكان مكررا ولما كان هناك معنى لإِفراده إذ حكمه يكون داخلا في قوله - تعالى - في صدر الآية } وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ { . فلما أفرده - سبحانه - بالذكر علمنا أن المقصود بالتقيل هنا من قتل خطأ من قوم كفار بيننا وبينهم ميثاق سواء أكان المقتول على دينننا أم على دينهم" .

والرابع المستأمِن ، وهو جنس ينتظم أنواعاً عديدةً ، وهي :
1/ من أعطاه مسلمٌ أماناً .
فالمسلم يُدخل الكافرَ في جِواره ([2])  ، قال  صلى الله عليه وسلم  :« الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، ويَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ » [أبو داود] .
« الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» : كما يقتص للشريف إذا قُتل يقتص للضعيف .
« ويَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» يحير أدناهم كعبد –خلافاً للأحناف- وامرأة، فيحرم دمه على عامة المسلمين .
وقد قال النبي  صلى الله عليه وسلم  في الصحيحين  لأم هانئ بنت عمه أبي طالب وأخت علي t :« قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ » .
فمن دخل في جوار مسلم فلا يجوز قتله للحديث آنف الذكر :« مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» [أخرجه البخاري] .
قال ابن حجر رحمه الله (فتح الباري 12/259): " وَالْمُرَاد بِهِ مَنْ لَهُ عَهْد مَعَ الْمُسْلِمِينَ ، سَوَاء كَانَ بِعَقْدِ جِزْيَة ، أَوْ هُدْنَة مِنْ سُلْطَان ، أَوْ أَمَان مِنْ مُسْلِم"
وقد أوجب الله علينا أن لا نتعرض له فقال:} وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ{  [التوبة:6]
وجاءت هذه الآية بعد قول الله تعالى :} فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ{ ، أي فاقتلوهم ولكن إذا أراد أحد منهم أن يتعرف على الإسلام فأعطه الأمان ، فإن أسلم وإلا فلا إكراه في الإيمان ، والواجب علينا أن نُبلِّغَه ما يأمن فيه من مكان .
ومما يدل على أنّ المعاهد يشمل هذه الأنواع حديث النبي  صلى الله عليه وسلم  :« أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا ، أَوْ انْتَقَصَهُ ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » [أبو داود] . فهذا في الذمي سماه النبي  صلى الله عليه وسلم  معاهداً .

2/ الرسل .
رسل المشركين لا يقتلون ، فلقد نهى رسول الله  صلى الله عليه وسلم  عن قتل الرسل ، ولقد بعث إليه مسيلمة الكذاب برسولين قد صدقا بنبوته قال لهما النبي  صلى الله عليه وسلم  :«أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا» [أحمد وأبو داود] .
ومثلهم في الحكم السفراء ، وأعضاء البعثات الدبلوماسية لا يشك عاقل في ذلك .

3/ من دخل إلى الدولة بإذنها .                    
فكل من سمحت له الدولة بدخولها فلا يجوز التعرض له ، كالتجار ومن دخل لحاجة كعلاج وتعليم ، وإذا كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قد أنفذ جوار امرأة فكيف بإذن دولة ؟
ولو وُجد من ليس عنده إذن من الدولة فهذا يُرفع أمره لولي الأمر ولا يجوز لأحد أن يتعرض له بسوء .
وكما دلت النصوص على تحريم التعرُّض لهؤلاء الكفّار فقد دلّت الفطرة السليمة على ذلك ، فالفطرة دالة على وجوب احترام مثل هؤلاء .

مفاسد الاعتداء على الكافر معصوم الدم:

إنّ قتل هؤلاء عمل إجرامي تتولد منه كثير من المفاسد ، منها :
1/ الوقوع في الغدر والخيانة .
فالتعرض لهؤلاء الذين احترم رسول الله  صلى الله عليه وسلم  دماءهم غدر وخيانة ، ولذا بوّب المنذري في الترغيب والترهيب بقوله :" الترهيب من الخيانة والغدر ، وقتل المعاهد أو ظلمه".
فما حال الغادر يوم القيامة ؟
يجيب سيد الأوفياء  صلى الله عليه وسلم  بقوله في صحيح البخاري ومسلم :« إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ ، فَقِيلَ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ » ، فيفضحه الله قبل أن يقضيَ في أمره .
لقد أعطى عثمان بن طلحة مفتاح الكعبة للنبي  صلى الله عليه وسلم  لما دخلها منتصراً ، فدخلها وصلى في جوفها ثم جاء إليه عمه العباس فقال : اجعل لنا السِّدانة مع السِّقاية . فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  :«أين عثمان بن طلحة» ؟ فجاءه ، فدفع إليه بمفتاحها وقال :«هذا يوم بر ووفاء» ونزلت الآية :} إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا{ [النساء :58] . فما أعظمَه من دين !

2/ مخالفة النصوص التي سبق إيرادها والتعرض للطرد من رحمة الله .

3/ الانتحار .

ففي كثير من الأحيان لا يتمكن هؤلاء المتهورون من الوصول إلى أولئك الكفار لقتلهم إلا بأن يقتحم الإنسان منهم أماكنهم بنفسه ، فيجرهم ويفجر نفسه معهم . ويا ليت شعري أيُّ دين يأمر بذلك ؟ وأيُّ عقل يقر ذلك ؟ وأي حجة عند هذا المنتحر ؟!
أما سمع هؤلاء بحديث رسول الله  صلى الله عليه وسلم  في الصحيحين :«مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» ؟!

4/ قتل بعض المسلمين .
فأماكن هؤلاء لا تخلو من وجود المسلمين فيها .
وحسبي هنا أن أُذكِّر بقصتين :
الأولى : رواها ابن ماجة وحسنها الألباني ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ t قَالَ : بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  فِي سَرِيَّةٍ ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِالرُّمْحِ ، فَلَمَّا غَشِيَهُ قَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، إِنِّي مُسْلِمٌ . فَطَعَنَهُ ، فَقَتَلَهُ ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ ؟ قَالَ :«وَمَا الَّذِي صَنَعْتَ»؟ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  :«فَهَلَّا شَقَقْتَ عَنْ بَطْنِهِ فَعَلِمْتَ مَا فِي قَلْبِهِ» ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : لَوْ شَقَقْتُ بَطْنَهُ لَكُنْتُ أَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ . قَالَ :«فَلَا أَنْتَ قَبِلْتَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ ، وَلَا أَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ» ؟! فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ ، فَدَفَنَّاهُ ، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ . فَقَالُوا : لَعَلَّ عَدُوًّا نَبَشَهُ ، فَدَفَنَّاهُ ثُمَّ أَمَرْنَا غِلْمَانَنَا يَحْرُسُونَهُ ، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ . فَقُلْنَا : لَعَلَّ الْغِلْمَانَ نَعَسُوا ، فَدَفَنَّاهُ ثُمَّ حَرَسْنَاهُ بِأَنْفُسِنَا ، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ ، فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الشِّعَابِ. فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ  صلى الله عليه وسلم  فَقَالَ :«إِنَّ الْأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ أَنْ يُرِيَكُمْ تَعْظِيمَ حُرْمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» .
والثانية : في الصحيحين عن أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال : بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  إِلَى الْحُرَقَةِ ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ ، فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ . فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ  صلى الله عليه وسلم  فَقَالَ :«يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»؟! قُلْتُ : كَانَ مُتَعَوِّذًا . فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ .

5/ تشويه صورة الإسلام .

والإسلام بريء من هذه الأعمال فهو دين بر وصدق ووفاء . ولقد قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام :} رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا{ ، وعلى لسان أتباع موسى عليه السلام : }رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ{، أي لا تسلطهم علينا فيظنوا أنهم على الحق، فمعنى الآية: لا تجعلنا فتنة لهم بما يصدر عنا وبما يقع علينا، بما يصدر عنا من تصرفات تسيء إلى ديننا، بما يقع علينا من تغلبهم، فإن ذلك يقدح في أنفسهم: لو كانوا على حق لكانت الغلبة لهم. ولئن قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  :«لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» [أخرجه الشيخان] فلأن يضل بك كافراً شرٌّ لك من كذا وكذا !
إنّ الإسلام دين لا يعرف الغذر .. دين المرحمة .. لقد قالت أمنا عائشة لنبينا  صلى الله عليه وسلم  :هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ ؟ قَالَ :«لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي ، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ ، فَنَادَانِي ، فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ . فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ . فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ ؟
فبماذا ردّ رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، قال :«بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».

6/ تشويه صورة الملتزمين .
فإن الاتهامات ستنالهم ، وحسبهم قول ربهم :} إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا{ [الحج: 38] . وبوقوع الناس في عرضهم تجرى لهم حسناتُهم .

7/ زعزعة الأمن وزراعة الفوضى .

8/ تسليط الكافرين علينا ، وفينا -أيها المؤمنون- من الجراح ما يكفينا .

ثلاث شبه:
1/ البراء من الكفر والكافرين يقتضي أن نعاملهم هكذا، بالتفجير والتدمير
والجواب: فرق كبير، وبون شاسع بين الولاء والوفاء .. فعدم التعرض لهؤلاء وفاء لا ولاء .
ومن علمنا عقيدة البراء من الكافرين؟ أليس رسول الله  صلى الله عليه وسلم  الذي عصم دماء هؤلاء؟!
2/ قال بعضهم -عندما اعترض عليه بأنهم يقعون في إزهاق روح المسلم مع من يقتلون من المستأمنين-: أما المسلمون فعجَّلنا بهم إلى الجنة!!
وأقول: ما أعظمَ تلاعبَ الشيطان بهم !
ومن أنت حتى تشهد لفلان بجنة أو نار؟
أليس المؤمن في الجنة؟ أليس قد شهد الله في بداية سورة المؤمنون بالفردوس لهم؟ ومع ذلك قال: }وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا{ [النساء: 93].
لقد أعلمنا نبينا  صلى الله عليه وسلم  بأن شر الناس من قتل نبيا أو قتله نبي، فلو كان التعجيل بالنبي إلى الجنة عذراً لما كان المعجل به أشد الناس عذبا في نار الله!
3/ وبعضهم قال: من قتل من المسلمين فإنما قتل قياسا على مسألة التترس!
لقد هزلت حتى بدا من هزاله كُلاها   وحتى سامها كل مفلس
ولو سئل هذا عن القياس وتعريفه لما اهتدى إلى جواب لفرط جهله! ثم هو يتكلم ويتجاسر على هذه القضايا العظام!

فما هي مسألة التترس؟
التُّرس بضم التاء: ما يتوقى به في الحرب، يقال : تترس بالترس إذا توقى به.
والتترس له حالتان :
الحالة الأولى:
وهي تتعلق بجهاد الدفع..
أن يقابل جيشُ المسلمين جيشَ الكافرين (المحاربين) ، وعند الكفار أسرى من المسلمين ، فيهدد المشركون بقتل أسرى المسلمين إن لم يسلموا ديار الإسلام لهم ، أو يهجم جيش الكفار لاستباحة بيضة الإسلام وقد جعلوا أسرى المسلمين درعاً لهم .
ففي هذه الحالة أجمع العلماء على قتال المشركين ولو تترسوا بمسلمين ولو أصيب أولئك الأسرى على ما سيأتي تفصيله.
لأنهم إذا تركوا وهجموا على المسلمين أبادوهم جميعاً، وموت تسعة أهون من موت مائة، ولذلك قال من قال بقتال الكفار ولا يقصد المسلم الذي تترسوا به.
الحالة الثانية:
وهي تتعلق بجهاد الطلب..
أن يغزو المسلمون أرض الكفر، وعند الكفار أسرى من المسلمين ، فيهدد المشركون بقتل أسرى المسلمين إن لم يرحل المسلمون عنهم ، أو يجعل المشركون أسرى المسلمين كالدرع والحاجز بينهم وبين جيش المسلمين ولا يكون في ترك قتال الكفار قضاء على بيضة الإسلام واستئصال للمسلمين..
فهذه محل خلاف.
فمسألة التترس لها شروط، وهي:
- أن تتميز الصفوف بين المسلمين والمشركين.
- أن يكون المشركون محاربين ، ولا يكون بيننا وبينهم عهد ولا ذمة .
- في الحالة الأولى: أن يترتب على الكف عن قتال المشركين استئصال المسلمين.
- وفي الحالة الثانية: أن يترتب على الكف تعطيل الجهاد بالكلية
- أن لا يستطيع التوصل إلى قتل المشركين المحاربين إلا بمظنة قتل أولئك الأسرى، فلو قدر عليهم بغير هذا السبيل فلا خلاف بين أهل العلم في تحريم رميهم متترسين.
- أن لا يتقصد قتل أسرى المسلمين ، وأن يحول دون ذلك بكل قدرة وطاقة.
- أن لا يكون في مسألة التترس غدرٌ ، ولا خيانة ، ولا مخالفة لسلطان المسلمين .
قال ابن قدامة رحمه الله في المغني (13/141-142) : "فصلٌ: وإن تترسوا بمسلم ولم تدع حاجة إلى رميهم لكون الحرب غير قائمة ، أو لإمكان القدرة عليهم بدونه، أو للأمن من شَرِّهم لم يجز رميهم ، فإن رماهم فأصاب مسلماً فعليه ضمانه".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى (20/53) : "اتفق الفقهاء على أنه متى لم يمكن دفع الضرر عن المسلمين إلا بما يفضي إلى قتل أولئك المتترس بهم جاز ذلك وأن لم يخف الضرر لكن لم يمكن الجهاد إلا بما يفضي إلى قتلهم ففيه قولان".
فأين فعلهم من هذا الذي ذكره علماؤنا؟!
ولعلي أختم مذكراً بهذا الحديث النبوي، ففي سنن أبى داود، عن عبادة بن الصامت t أنه قال: قال نبي الله  صلى الله عليه وسلم : «من قتل مؤمنا فاغتَبط بقتله لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا».
ومعنى «فاغتبط بقتله»: ظن أنه على هدى ولم يستغفر!
فاللهم اهد ضال المسلمين، واجمع كلمتنا على الحق المبين
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

-----------------------------
[1] / أصله خطبة جمعة كانت يوم 12 شعبان 1428، الموافق : 24/8/2007م
[2] / الجار : من يُؤمِّن غيره .

 

د. مهران ماهر
  • الخطب المنبرية
  • المقالات
  • البحوث
  • الردود
  • برامج إذاعية
  • المواعظ والدروس
  • الصفحة الرئيسية