اطبع هذه الصفحة


صراعٌ بين الدعوة والدعاة

مشاري بن سعد الشثري
@m_alshathri

 
بسم الله الرحمن الرحيم

 
المحن التي عصفت بالإسلاميِّين - على اختلاف توجهاتهم - وحجَّرت عليهم في كثيرٍ من البلدان العربية خلقت مساحاتٍ من وعي الائتلاف ما كان له أن يتحقق في أزمنة الرخاء، وذلك أن الظلم حين ينزل بالفُرَقاء يضفي عليهم عَلمًا يجتمعون فيه ويوسمون به، فهم (المظلومون) .. وتزيد آصرة اللحمة والاجتماع إذا ما كان الدافع لظلمهم كونهم دعاةً إلى الله، ثم ما إن تمضي الأيام وتلوح في الأفق بادرةُ أمل، فإذا بك تجد المؤتلفين يُحِدُّون النظر في مساحتها، وأيهم الأحق بنوال النصيب الأكبر منها، تزيد الآمال وتتنامى حدَّة النظر ويزداد الوثوق باتساع أحقية الظفر، حتى تغيب بسمة الهمِّ الواحد وترتسم على الجباه تجاعيد الأنا والسبق إلى مبادئ الفرص، وأواسطها، بل وخواتمها، وهكذا حتى يستحيل المظلومُ ظالمًا، وتلبس الضحية بِزَّة الجلاد، وإذا بمحرِّكاتِ الولاء قد أضحت منابعَ عداوةٍ وافتراق، فمهلًا أيها الدعاة.

*****


قلَّ أن تجد خلافًا إلا وكان الهوى مكوِّنا رئيسًا في إثارته وتناميه، ومن هنا تدرك عمق فقه السلف حين سموا أهل البدع (أهلَ الأهواء)، فإنه لولا الهوى لما وقعوا في شَرَكِ الضلالة، وأقبح صور الهوى أن يأتيه صاحبه من حيث ظنَّه اتباعًا للشرع، فالهوى إذا دخل (أدى إلى اتباع المتشابه حرصًا على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف، وأدَّى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء، لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها)[1].

والدعاة إلى الله أولى الناس بحسم مادة الهوى بشتى تجلِّياته، فإن ذلك سبيلٌ لتجفيف منابع الخلاف المفضي إلى العداوات، لاسيما وأن هذه الخلافات إذا بدت على السطح كانت من أشد عوامل الصدِّ عن دين الله، فعامَّة الناس إنما ينيخون مطاياهم عند أعتاب الدعاة، رغبةً في سلامة الدين والدنيا، فإذا رأوهم قد سلطوا سهامهم على أنفسهم حرفوا وجوههم إلى غيرهم، إذ لو كان ما يقوله هؤلاء الدعاة حقًّا لكانوا أولى الناس باتباعه، وإذا كان ما يرشدون غيرَهم إليه أمنًا وسلامًا لكانوا أجدر الناس بالسبق إلى ظلاله .. وليس هذا الذي يخطر بأذهان العامَّة بدعًا من القول، فإن السلف جعلوا الفرقةَ أمارةَ انحرافٍ عن القصد، ولذا لما تحدَّث قتادةُ رحمه الله عن الخوارج استدل بفرقتهم على ضلالهم، فقال: (لَعَمري، لو كان أمرُ الخوارج هُدًى لاجتمع، ولكنه كان ضلالا فتفرّق، وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافًا كثيرًا)[2].

وما دام الأمر كذلك كان من اللازم على الدعاة تعهُّدُ مسارهم الدعوي، وتجريدُه من حظوظ النفس وموجبات الخلاف، فليس مجرد الانخراط في سلك الدعوة إلى الله بعاصمٍ من الزلات، ولا أضرَّ على العمل الدعوي من اعتقاد أصحابه سلامة آرائهم وتصرفاتهم اعتقادًا يصرف عن معاودة النظر في مدى استقامتها، مما يغذِّي نزعة الاستبداد الدعوي، ويجعل كلَّ حزب فَرِحا بما عنده، حتى تختزل كلُّ طائفة مصالح الدعوة في مشروعها، وتجعل منه معيارا للولاء والبراء، فمن رضي به فهو الموفَّق، وإلا كان حمالَ حطبٍ في سبيل المصلحين!
وهذا من البغي الذي ما فتئ يصاحب كلَّ نزاعٍ بين الدعاة، (وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة، علمائِها وعبَّادها وأمرائها ورؤسائها = وجدتَ أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي، بتأويلٍ أو بغير تأويل)[3].

*****

 
ربَّما كان النزاع بين الدعاة مبنيًّا على تجاذبِ أنظارهم في مراعاة الأولويات، وعلى فرض صحة ذلك فإن من أهم الأولويات في عصرنا خاصةً تحقيقُ الائتلاف، فإن كل تصرُّفٍ صادرٍ من الإسلاميين قد هُيِّئ له من يرصده ويوظِّفه، سواء من مراكز الأبحاث والدراسات أو الأذرعة الإعلامية التي ما زالت تخضع لأيادٍ غيرِ نزيهة، والمطالع للإعلام العربي أثناءَ الثورات وبعدها يلحظ استدعاءً محمومًا لصراعاتٍ عتيقةٍ بقصد تشويه الصفِّ الإسلامي لصرف الناس عنه، فكيف إذا كانت هذه الصراعات حيَّة جذعةً لا نملك سترها وتأويلها؟

وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وأوصاهما فقال: (تطاوعا، ولا تختلفا)[4]. ولما بعث عليه الصلاة والسلام جيش ذات السلاسل استعمل أبا عبيدة على المهاجرين، وعَمْرَو بن العاص على الأعراب، وقال لهما: (تطاوعا)[5]. وذلك أن المقصود من البَعْثين تحقيقُ مصالح الإسلام، وما كان هذا شأنه فليس مناخًا صالحًا للخلافات، حفاظا على سمعة الدعوة وتمهيدًا لاستيطانها قلوبَ الجماهير، فلا غرو إذًا أنْ كانت الوصية النبوية بالائتلاف والتطاوع أعظمَ ما يحتاجه العامل لدين الله، بل إن أبا عبيدة لما أتاه المغيرة بن شعبة وقال له: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعملك علينا، وإن ابن فلان - يعني عمرَو بن العاص - قد ارتبع أمرَ القوم وليس لك معه أمر) = لم يحِد عن وصية رسول الله، ولم يشتغل بتسوية الخلافات مع عمرو، بل قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتطاوع، فأنا أطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن عصاه عمرٌو).

هذا الفقهُ النبوي بحاجة إلى بعثٍ وتجديد، فإنَّا نرى معالمه تندرس مع كلِّ خلافٍ يطرأ على الساحة الدعوية، وفي الكتاب والسنة وآثار السلف وسيرهم فقهٌ راسخ وتوجيهاتٌ عاليةٌ في تدعيم أواصر الوحدة والاجتماع ونبذ الخلاف، فلسنا نعاني فقرًا في هذه الأدبيات، لكننا نعاني من فاقةٍ حادَّةٍ في تطبيقها، ترى الواحد منَّا يتحدث طويلًا عن بواعث الولاء وضرورة احتواء النزاعات، فإذا به يفتتح الرسوب في أول اختبار، ثم يجتهد في قراءة ذرائع الفشل ويوسِّع النظر في سبل تفاديها، ثم ينزلق في اختبارٍ آخر، وهلمَّ جرا، وذلك يرجع إلى جملةٍ من الأسباب، من أهمها: الشعورُ بتلك الطهورية المفرطة التي تجعل الطرفَ الآخر سببَ الخلاف مطلقا، بتبريرٍ أو دونه، والتي تمنع صاحبها من مراجعة موقفه ولو من باب الظن فقط، ويزداد الأمر سوءًا إذا نمت هذه الخصلة في أوساط الأتباع، حتى تكون عنايتهم منصبةً على صيانة سجل الطائفة من كل ما يلوِّثها، ولو على حساب مصالح الدعوة العامة، فترى الواحد منهم يستميت في الدفاع عن تصرفاتها، ويصيِّرها مشرطَ تمييز بين من يستحق الولاء والبراء، ولا يجسر على مخالفة متبوعه إذا رأى منه حيدةً عن سبيل الحق، وهذا من شؤم تعاليم بعض القادة، والحقُّ أنْ (ليس لأحدٍ منهم أن يأخذ على أحد عهدًا بموافقته على كل ما يريده، وموالاةِ من يواليه، ومعاداةِ من يعاديه .. بل عليهم وعلى أتباعهم عهدُ الله ورسولِه بأن يطيعوا الله ورسوله،  ويفعلوا ما أمر الله به ورسوله، ويحرموا ما حرم الله ورسوله، ويرعوا حقوقَ المعلمين كما أمر الله ورسوله، فإن كان أستاذ أحد مظلومًا نَصَره، وإن كان ظالما لم يعاونه على الظلم، بل يمنعه منه)[6].

ومن الآفات التي تقطع الطريق أمام التطاوع، وتجرُّ إلى احتراب تامٍّ ونزعٍ لحبال الالتقاء: تصيير المتشابهاتِ محكماتٍ، مما يضيِّق من دائرة تداول الآراء بقدرٍ من التصافي، فيضفي كلُّ طرفٍ لبوسَ الإحكام على رأيه، فلا يكاد يحيد عنه ولو أدَّاه ذلك إلى هجر إخوانه الدعاة، بل ربما كان النزاع نابعًا من محض إجراءاتٍ إدارية لا علاقة لها برأي ولا فكر، فيجد الشيطان له مدخلًا وينفخ روح العداوة حتى يشقَّ بتلك الرسومِ الشكلية صفَّ  المتآلفين.

وقد وردت على شيخِ الإسلام ابنِ تيمية رحمه الله فتيا مفادها: أن أحد المنتسبين لمذهب الشافعية زعم عدم صحة الصلاة خلف أئمة المالكية، وذلك أنَّ الإمام المالكي ربما فعل ما تبطل به الصلاة عند الشافعي - واستحضِر أن مناط الشافعيِّ في الإبطال بذلك الفعل مناطٌ معتبرٌ، لكن البحث في اغتفار الائتمام حال رجحان عدم الإبطال به عند الإمام - فأجاب فقيهُ التطاوعِ والائتلاف بقوله: (إطلاق هذا الكلام من أنكر المنكرات وأشنع المقالات، يستحق مطلقُه التعزيرَ البليغ ... وكيف يستجيز مسلمٌ يطلق مثل هذه العبارة الخبيثة، وقد اتفق سلفُ الأمة من الصحابة والتابعين على صلاة بعضهم خلف بعض، مع تنازعهم في بعض فروع الفقه، وفي بعض واجبات الصلاة ومبطلاتها. ومن نهى بعض الأمة عن الصلاة خلفَ بعضٍ لأجل ما يتنازعون فيه من موارد الاجتهاد، فهو من جنس أهل البدع والضلال الذين قال الله فيهم: "إن الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء" وقال الله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا" وقال تعالى: "ولا تكونوا كالذين تفرَّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات" إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقة والاختلاف ... فإن مصلحة الجماعة والائتلاف ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظمُ من أمر المسائل الجزئية)[7].

 اللازم على الدعاة إنزالُ كلِّ قضية منزلَها، والتعاطي معها بقدرِ ما تحتمله من وفاق وخلاف، فليس كل نزاع يقع يكون بين خيرٍ وشرٍّ خالصين أو غالبَين، بل ثمة مساحة تمكِّن المختلفين من تجاوزها بالقدر الذي يحقق أولوية الائتلاف، فربما كان ما يصدر من بعضهم فسادًا، لكنَّ ما يترتب على محادَّته والمفاصلة معه أعظم فسادًا منه، والفقه كلَّ الفقه أن يعلم الداعية أن (الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين، حتى يقدم عند التزاحم خيرَ الخيرين ويدفع شر الشرين)[8].

والمشرِف على الخلاف بعين البصير لن تخطئ عينه أن طرفي النزاع ليسا داعيتين، ولا مؤسستين دعويتين، بل هو في واقع الأمر صراعٌ بين الدعوة والدعاة، تطمح الدعوة أن يتطاوع أبناؤها ويغفر بعضهم زلات بعض مع التصحيح بالتي هي أحسن، ويبحث كلٌّ من الدعاة المختلفين عن غلبة ذاته ونفاذ مصالحه ولو تهشَّمت أعظُمُ الدعوة، فمن المنتصر؟!

----------------------------------------------
[1] الموافقات (5 : 221).
[2] جامع البيان للطبري (5: 207).
[3] مجموع الفتاوى لابن تيمية (14: 482-483).
[4] أخرجه  البخاري في صحيحه (2873).
[5] أخرجه أحمد في مسنده (1698).
[6] مجموع الفتاوى (28: 16).
[7] جامع المسائل - المجموعة الخامسة (273-274).
[8] منهاج السنة (6: 118).

 

مشاري الشثري
  • سلسلة طالب العلم
  • مقالات في التربية
  • مقالات متفرقة
  • مقالات منهجية
  • مقالات نقدية
  • الصفحة الرئيسية