اطبع هذه الصفحة


سلسلة طالب العلم (3)
طالبُ العلم .. والحُبّ

مشاري بن سعد الشثري
@m_alshathri

 
بسم الله الرحمن الرحيم


لا شيء يحفز على طلب العلم مثلُ ترويض النفس على حُبِّه والرغبة فيه، ولا أعونَ على الإقبال عليه من امتلاءِ القلب شوقًا له، وتحرُّكِ الحواس واضطرابِها من فرط الشهوة في طلبه!

وكلُّ حركة في العالم فإنَّما يبعثها الحبُّ، فهو (أصلُ كلِّ حركةٍ في العالم) كما يقرر ابن تيميَّة[1]، ويتلقَّى ذلك عنه تلميذه وصفيُّه ابنُ القيِّم، ويبيِّن أن (الحب والإرادة أصلُ كلِّ فعلٍ ومبدؤُه)[2] .. ومع أن هذا شأنُ الموجودات كلها، إلا أنه في العلم أمكنُ وأعمقُ أثرًا، ولذلك قال ابنُ تيميَّة: (الحاجةُ التي يقترن مع العلم بها ذَوقُ الحاجة هي أعظمُ وقعًا في النفس من العلم الذي لا يقترن به ذوقٌ، ولهذا كانت معرفة النفوس بما تحبه وتكرهه وينفعها ويضرها هو أرسخَ فيها من معرفتها بما لا تحتاج إليه، ولا تكرهه، ولا تحبه)[3].

ويُترجِمُ ابنُ تيميَّة ذلك واقعًا بعد أنْ قرَّره نظرًا، فإنه لـمَّا تغشَّاه أحدُ الأمراض جَرَتْ بينه وبين الطبيبِ المباشرِ لعلاجه هذه المحاورة:

- قال الطبيب: إنَّ مطالعتَك وكلامَك في العلم يزيد المرض!
- فقال الشيخ: لا أصبرُ عن ذلك، وأنا أحاكمك إلى علمك .. أليستِ النفسُ إذا فَرِحت وسُرَّت قويت الطبيعة فدفعتِ المرض؟
- فقال الطبيب: بلى!
- فقال له الشيخ: فإنَّ نفسي تُسَرُّ بالعلم، فتقوى به الطبيعة، فأجد راحةً، وإذا اشتغلت نفسي بالكلام في العلم وظفرت بما يشكل عليها منه فَرِحَت به وقَوِيَت فأوجب ذلك دفع العارض.
- فقال له الطبيب: هذا خارجٌ عن علاجنا[4]!
وصَدَق ..

لا يعرف الشوقَ إلا من يكابدُه ... ولا الصبابةَ إلا من يُعَانيها

وقد ذكر ابنُ جماعةَ أن (بعضهم لا يترك الاشتغال بعُرُوضِ مَرَضٍ خفيفٍ، أو أَلَمٍ لطيفٍ، بل كان يستشفي بالعلم، ويشتغل قدر الإمكان، كما قيل:

إذا مَرِضنا تداوينا بذِكرِكُمُ ... ونتركُ الذِّكرَ أحيانًا فننتكسُ)[5].

وقد جاء في ترجمة الشيخ زكريا الأنصاري أنه كان يستشفي من مرضه بمطالعة كتب العلم .. فـ (لا فرقَ بين من أعدمك الدواءَ الذي تستشفي به من دائك، وتستبقي به حُشاشةَ نفسك، وبين من أعدمك العلمَ بأنَّ فيه شفاءً، وأنَّ لك فيه استبقاءً)[6].

*****

بل إنَّ الرغبةَ في العلم ومحبتَه فوقَ كونِها حافزةً على طلبه، فإنها تكادُ تكونُ شرطًا في تحصيلِه والتحقيقِ فيه، وأنتَ حين تقلِّب طرفك في كتب السير والتراجم ستخرج بشيءٍ يَقرَعُ سمعَك أشبهَ بهاتفٍ ينادي: إنك لن تكون عالـمًا حتى يصير العلم شهوةً من شهواتك.

وقد كنتُ كتبتُ ذلك قديمًا وأنا على وَجَلٍ من صدق هذا الهاتف، وأنَّ المرءَ ربَّما كان عالـمًا وهو لا يجد من لذة العلم وشهوته إلا النزر اليسير، وإنما حسبه منه المجاهدة والمصابرة على لأوائه في سبيل تحصيل منافعه دون أن يذوق ما يغني من عُسيلَتِه، ثم إني رأيتُ ابنَ القيم يقرِّرُ ما هو أشدُّ مما ذكرت، وأنَّ المرء لن يكونَ عالـمًا حتى تقومَ فيه شهوة العلم، وتكونَ - زيادةً على ذلك - غالبةً على شهواته الأخرى، فـ (من لم تَغلِبْ لذَّةُ إدراكِه للعلم وشهوتُه على لذَّة جسمه وشهوة نفسه لم يَنَلْ درجةَ العلم أبدًا، فإذا صارت شهوتُه في العلمِ ولذَّتُه في إدراكه رُجِيَ له أن يكون من جملة أهله)[7].

ولذلك، فإنْ جدَّ بك السيرُ في طلب العلم ولم تَجدِ للعلم لذةً تُلامِسُ شَغَاف قلبك فخُذْ بوصية الحكيمةِ أمِّ سفيان، فإنَّها لما بعثتْ ابنَها سفيانَ ليطلب العلم قالت له: (اذهبْ، فاطلبِ العلمَ حتى أعُولَك بمغزلي هذا، فإذا كتبتَ عِدَّةَ عشرةِ أحاديثَ فانظرْ: هل تجدُ في نفسك زيادةً فاتَّبِعْهُ، وإلا فلا تَتَعنَّ) .. فأخَذَ سفيانُ بوصيَّة والدته، ووجدَ في نفسه زيادةً فاتَّبعَ، فكان بعد ذلك الثوريَّ[8].

وقال مُجايِلُ الثوريّ، وصاحبُ أبي حنيفة، محمد بن الحسن الشيباني: (عِلمُنا هذا لا يصلح إلا بثلاثِ خصالٍ) وذكر منها: (أن يكونَ الرجلُ مشتهيًا له)[9].

وبعده أبو هلال العسكريُّ، فقد نقل في كتابه (الحث على طلب العلم) أنه لا يتم العلمُ لطالب العلم إلا بسبعة أمور، وذكر منها أن تكونَ للطالب (شهوةٌ يكون بها أنشطَ، وأسمحَ، وأقبلَ للمعاني)[10].

وذكر الماورديُّ الشروطَ التي يتوفَّرُ بها علمُ الطالب، وينتهي معها كمالُ الرَّاغب، وبلغ بها تسعًا، وعدَّ منها (الشهوة التي يدومُ بها الطلب، ولا يُسرِعُ إليها المللُ)[11].

وكما أن حبَّ العلم شرطُ تحصيله، فكذلك حبُّ متعلَّقاته ووسائله، ومنها حبُّ كتبه، والتهالكُ على اقتنائها، وعن ذلك يقول الجاحظ: (من لم تكن نفقته التي تخرج في الكتب ألذَّ عنده من إنفاق عشَّاقِ القيان والمستهترين بالبنيان = لم يبلغ في العلم مبلغًا رَضِيًّا، وليس ينتفع بإنفاقه حتى يُؤْثِرَ اتخاذ الكتب إيثارَ الأعرابي فرسَه باللبن على عياله، وحتى يؤمِّل في العلم ما يؤمِّل الأعرابيُّ في فرسه)[12].

ويُبيِّنُ الجاحظُ فارقَ ما بين التحصيلِ الممتزجِ بالرغبة والشهوة والتحصيلِ الخالي منهما، فيقول: (ليس من نَظَرَ في العلم على الرَّغبة والشهوة له كمن نظر فيه على المكسبة به والهرب إليه، لأن النَّفسَ لا تُسمِح بكُلِّ قواها إلا مع النشاط والشهوة، وهي في ذلك لنفسها مستَكرِهَةٌ، ولها مكابِدةٌ)[13].

*****

 وكم في طلب العلم من أنَّاتٍ وأوجاعٍ، ولكنها - عند المحبِّين - أنَّاتٌ معسولةٌ وأوجاعٌ معشوقةٌ، يجدون لحرارة طلبه حلاوةً، ولمشقة نواله بَرْدًا، فعشَّاقُ العلم أعظمُ شغفًا له وعشقًا له من كلِّ عاشقٍ بمعشوقه كما يقول ابن القيم، (وكثيرٌ منهم لا يشغله عنه أجملُ صورة من البشر!)[14].
وما تزال لذَّةُ العلم بابن القيم حتى أطلقتْ قلمَه ليكتبَ بأنه (لو ظهرتْ صورةُ العلم للأبصار لزادَ حُسنُها على صورة الشمس والقمر)[15].
وانظرْ مصداق ذلك عند العلامة اللغوي الكبير محمد محمود بن التلاميد التُّركزي الشنقيطي، أحد أعلام القرن الرابع عشر، فقد طرقت شهرتُه أسماعَ ملوك أوروبا، ففي إطار التحضير لعقد المؤتمر الثامن للعلوم الشرقية طلب أوسكار الثاني ملك السويد والنرويج من السلطان عبدالحميد أن يبعث إليه بوفد من أبناء العرب يسألهم عن القرآن واللغة وأشعار العرب، وأن يكون الوفد برئاسة ابن التلاميد، فبلغ ذلك ابنَ التلاميد، وتشجَّع لذلك، وكتب قصيدة تخطَّت حاجزَ المئتَي بيتٍ ليصدع بها في قلب ستوكهولم، غير أنَّ خلافًا بينه وبين السلطان عبدالحميد حال بينه وبين ذلك، وكانَ مما جاء في قصيدته  - التي ضمَّنها مجموعَه المسمى (الحماسة السنية الكاملة المزية في الرحلة التركزية) -  تلك الأبيات التي بيَّن فيها كيف أنه ما زال بالعلم، طالبًا له، راحلًا في جمعه، حتى طغتْ لذةُ العلم على سائر لذاته، بل أحالتها سمومًا مهلكة! فقال:

ولـمَّا طعمتُ لذَّة العلمِ صيَّرتْ ... سواها من اللَّذات عندي كالسُّمِّ
ولـمَّا عَشِقتُ العلمَ عشقَ درايةٍ ... سلوتُ عن الأوطان والأهل والخِلْمِ
ولـمَّا علمتُ ما علمتُ بغربنا ... ترحَّلتَ نحو الشرقِ بالحزم والعزمِ
ولم يَثْنِ عزمي نهيُ حسناءَ غادةٍ ... شبيهةُ جُمْلٍ بل بُثَينَةَ بل نُعْمِ
ولم يُعْمِ قلبي حبُّ عذراءَ كاعبٍ ... وحبُّ العذارى قد يُصِمُّ وقد يُعمِي
رحلتُ لجمع العلم والكتب ذاهبًا ... إلى الله أبغي بسطةَ العلمِ في جسمي
وأمعنتُ في إدراك ما رُمتُ نيلَهُ ... فأدركتُ ما أدركتُ بالصَّبرِ والحزمِ
وصرتُ بما أدركتُ من ذَينِ هاديًا ... بشمسٍ على شمسٍ ونجمٍ على نجمِ
 

وتبلُغُ بطلاب العلم الحالُ أنْ يستحيل العلمُ جزءًا لا يتجزأ من حواسِّهم بعد أن كانوا يطلبونه بها، واستمعْ إلى ابن وهب حين يقول: (ما مللتُ العلمَ قط، وما نبت لحمي إلا من الكتاب)، وهكذا الحال حين تكونُ أنتَ والعلمُ روحًا في جسدين.


*****


طالبَ العلم .. اجعل طلبك للعلم تفاعلًا بينك وبينه، بينك وبين أهله، بينك وبين طلابه .. لا تقتصر في تحصيله على وسيلة واحدة، بل ازدَدْ دون مَلَلٍ ولا كَلَل.
اقرأْ، وتأمَّلْ، واحفظْ، واكتبْ، ولخِّصْ، واشرحْ، وحاوِرْ، وناظِرْ، وابحثْ، واستشكِلْ، وانتقِدْ، وما شئتَ وراءَ ذلك، فإن ذلك كلَّه مما يُذْكِي نارَ حبِّك للعلم، ويجعلُ بينكما علاقة حميمية لا تملك معها أن تفارقه، فلا تغادرُ وسيلةً إلا التقيتَ بأخرى، وما تخرجُ عن سبيلٍ إلا دخلتَ في آخر .. لِتَكُنْ حياتُك العلميَّة حافلةً بالمنجَزَات الواصلةِ بينك وبين مسائل العلم، بذلك يدومُ الحبُّ وتعظمُ المودَّة.
طالبَ العلم .. اجعل طلبك للعلم روحًا ساريةً في محيطك، مجالسك، أقرانك .. كنُ بالعلم، منه وإليه .. إذا وردتَ مجلسًا فليكنْ لسانُك بالعلم ناطقًا، بُثَّ في من حولك بهجة العلم وأذِقْهُم لذته، واسْعَ قدرَ طاقتك للتخفُّفِ من العلاقاتِ الطاردةِ لحديث العلم المجافيةِ لمسائله.

خذْ بوصية الإمام أبي حنيفة التي جلَّل بها تلميذَه أبا يوسف، فقد أوصاه بوصيةٍ دافعةٍ رافعةٍ يومَ قال له: (لا تُكثِرْ معاشرة الناس إلا بعد أن يعاشروك، وقابلْ معاشرتهم بذكر المسائل، حتى إنَّ مَن كان مِن أهله اشتغل بالعلم، ومن لم يكن من أهله يجتنبُك، ولا يجدُ عليك، بل لا يحومُ حولك)[16].

فأوصاه أولًا بدفع العلائق بعدم مباشرة عقدها، وثانيًا برفعها بعد أن يباشره الناس بها وذلك بجعلِه العلمَ هو المتولِّيَ لطَرَفي العقد، فإن لم يجدِ العلمُ أحد الطرفين محلًّا قابلًا ألغاه، وبسقوط ركنٍ ينحَلُّ العقدُ كلُّه!
وبهذه الروحِ الرساليَّةِ يتنامى حبُّ العلم في قلبك، ويزداد شغفك بتحصيله، فتكون معرِّفًا به منتميًا إليه بعد أن كنتَ طارئًا عليه مداريًا له.

طالبَ العلم .. خُذْها موجزةً من ابن المقفَّع:

(حبِّبْ إلى نفسِك العلمَ حتى تلزمَه وتألفَه ويكونَ هو لهوَك ولذَّتَك وسلوتَك وبُلغتَك)
 

طالبَ العلم .. أفسِحْ لحبِّك
 

----------------------------------------------------
[1] قالها في مواضعَ، منها: الاستقامة (1: 456).
[2] روضة المحبِّين (93).
[3] درء تعارض العقل والنقل (3: 134).
[4] انظر هذه المحاورة في: مفتاح دار السعادة لابن القيم (2: 712)، روضة المحبين (109).
[5] تذكرة السامع والمتكلم (57).
[6] دلائل الإعجاز للجرجاني (9).
[7] مفتاح دار السعادة (1: 400).
[8] انظر هذا الخبر في سير أعلام النبلاء (7: 269).
[9] فضائل أبي حنيفة لابن أبي العوَّام (859) بواسطة: معالم إرشادية لمحمد عوامة (59).
[10] ضمن مجموع: الجامع في الحث على حفظ العلم (15) بتحقيق محمود الحداد.
[11] أدب الدين والدنيا (116).
[12] الحيوان (1: 55).
[13] رسائل الجاحظ (1: 296).
[14] روضة المحبين (108).
[15] مفتاح دار السعادة (1: 322).
[16] مناقب أبي حنيفة للموفَّق المكِّي (373) بواسطة: معالم إرشادية لمحمد عوامة (148-149).



سلسلة طالب العلم (1) طالبُ العلم .. والقَفَزات
سلسلة طالب العلم (2) طالبُ العلم .. والتأمُّل
سلسلة طالب العلم (3) طالبُ العلم .. والحُبّ
سلسلة طالب العلم (4) طالبُ العلم .. والتصدُّر
سلسلة طالب العلم (5) طالبُ العلم .. والدَّمع
سلسلة طالب العلم (6) طالبُ العلم .. والمذاكرة
سلسلة طالب العلم (7) طالبُ العلم .. وسؤال الوسائل
سلسلة طالب العلم (8) طالبُ العلم .. والتخصص
سلسلة طالب العلم (9) طالبُ العلم .. والهموم
 

مشاري الشثري
  • سلسلة طالب العلم
  • مقالات في التربية
  • مقالات متفرقة
  • مقالات منهجية
  • مقالات نقدية
  • الصفحة الرئيسية