اطبع هذه الصفحة


دلائل النبوة

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد  

د. منقذ بن محمود السقار


حماية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم


وإن من دلائل النبوة حمايةُ الله لأنبيائه، وإنجاؤه لمن شاء منهم من أيدي أعدائهم، رغم ما يتربص بهم السفهاءُ من السوء.
ولقد قال نوح عليه السلام متحدياً كفارَ قومه: } يا قوم إن كان كبُر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمرُكم عليكم غُمةً ثم اقضوا إليّ ولا تنظِرون { (يونس:71)، فلم يصلوا إليه بسوء لحماية الله له.
ومثله قول أخيه هود صلى الله عليه وسلم: }قال إني أُشهِد الله واشهدوا أني بريءٌ مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعًا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم { (هود: 54-56).
ولما أراد السفهاء قتل إبراهيم عليه السلام، وألقوه في النار أنجاه الله منها بقدرته وفضله ]قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم * وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين [ (الأنبياء: 68-70).
وكذا كان الحال مع نبينا صلى الله عليه وسلم ، فقد أنجاه الله من المؤامرات التي واجهتْه من لدن بعثتِه عليه الصلاة والسلام، وقد أخبره الله وأنبأه بسلامتِه من كيدهم وعدوانهم ، فقال له: } يـا أيها ٱلرسول بلِّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته وٱلله يعصمك من ٱلناس{ (المائدة: 67).
قال ابن كثير: "أي بلغ أنت رسالتي، وأنا حافظُك وناصرُك ومؤيدُك على أعدائك ومُظفِرُك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل إليك أحدُ منهم بسوء يؤذيك".[1]
تقول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحرس حتى نزلت هذه الآية: }وٱلله يعصمك من ٱلناس{ (المائدة: 67)، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسَه من القبة، فقال لهم: ((يا أيها الناس، انصرفوا عني، فقد عصمني الله)).[2]
وفي الآية دليلان من دلائل النبوة، أولهما: إخبار الله له بحفظه صلى الله عليه وسلم، وقد كان.
قال الماوردي: "فمن معجزاتِه: عصمتُه من أعدائه، وهم الجمُّ الغفير، والعددُ الكثير، وهم على أتم حَنَقٍ عليه، وأشدُّ طلبٍ لنفيه، وهو بينهم مسترسلٌ قاهر، ولهم مخالطٌ ومكاثر، ترمُقُه أبصارُهم شزراً، وترتد عنه أيديهم ذُعراً، وقد هاجر عنه أصحابه حذراً حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليماً، لم يكْلَم في نفسٍ ولا جسد، وما كان ذاك إلا بعصمةٍ إلهيةٍ وعدَه اللهُ تعالى بها فحققها، حيث يقول: }والله يعصمك من الناس{ فعَصَمَه منهم".[3]
والدليل الآخرُ في الآية من دلائل النبوة، يظهر لمن عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مقصوداً بالقتل من أعدائه، فكان الصحابة يحرُسونه خوفاً عليه، فلما نزلت الآية صرفهم عن حراسته، ليقينه بما أنزل الله إليه، ولو كان دعياً لما غرر بنفسه، ولما عرَّض نفسَه للسوء.
وقد صدق المستشرق بارتلمي هيلر في قوله:"لما وعد الله رسوله بالحفظ بقوله: ]والله يعصمك من الناس[، صرف النبي حراسه، والمرء لا يكذب على نفسه، فلو كان لهذا القرآن مصدر غير السماء لأبقى محمد على حراسته".[4]
قال ابن تيمية مستدلاً لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم بتأييد الله لنبيه وحفظه له ونصره لدينه: "وقد أيده تأييداً لا يؤيد به إلا الأنبياء، بل لم يؤيَد أحدٌ من الأنبياء كما أُيِّد به، كما أنه بُعث بأفضل الكتب إلى أفضل الأمم بأفضل الشرائع، وجعله سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم ، فلا يعرف قط أحد ادعى النبوة وهو كاذب؛ إلا قطع الله دابره وأذله وأظهر كذبه وفجوره.
وكل من أيده الله من المدعين للنبوة لم يكن إلا صادقاً، كما أيد نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى وداود وسليمان، بل وأيد شعيباً وهوداً وصالحاً، فإن سنة الله أن ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وهذا هو الواقع، فمن كان لا يعلم ما يفعله الله إلا بالعادة، فهذه عادة الله وسنته يعرف بها ما يصنع، ومن كان يعلم ذلك بمقتضى حكمته؛ فإنه يعلم أنه لا يؤيد من ادعى النبوة وكذب عليه".[5]
وصور حماية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم كثيرة، منها أن قريشاً اجتمعت في الحِجر، فتعاقدوا باللاتِ والعزى ومناة الثالثةِ الأخرى ، لو قد رأينا محمداً ، قمنا إليه قيام رجل واحد، فلم نفارقْه حتى نقتلَه.
فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها تبكي، حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك، لو قد رأوك لقد قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل إلا قد عَرف نصيبه من دمك.
 فقال: ((يا بنية، أريني وَضوءاً)) فتوضأ، ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا: ها هو ذا. وخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم في صدورهم، وعقِروا في مجالسهم، فلم يرفعوا إليه بصراً، ولم يقم إليه منهم رجل.
 فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم، فأخذ قبضة من التراب، فقال: ((شاهت الوجوه)) ثم حصَبهم بها، يقول ابن عباس: فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصى حصاةً إلا قُتل يوم بدر كافراً.[6]
الله أكبر، قريشٌ بخُيلائها وكِبْرِها تتعاهد على قتل رجل أعزل، وتقسم على ذلك بآلهتها، ثم لا يقوم منهم واحد لتنفيذ عزمتهم، بل قام صلى الله عليه وسلم على رؤوسهم يحصِبُهم بالحصى متحدياً عجزهم، مبيناً سِفالَ أمرهم وهوانَه، وكيف لا؟ والله العظيم يؤيده ويقويه، فيقول: } والله يعصمك من الناس { (المائدة: 67).
وأما أبو جهل فرعون هذه الأمة فقد رام أيضاً قتل النبي صلى الله عليه وسلم، حين أقبل يختال ذات يوم في جنبات مكة فقال: هل يعفِّر محمدٌ وجهَه بين أظهرِكم [يعني بالسجود والصلاة]؟ فقيل: نعم.
 فقال: واللاتِ والعزى، لئن رأيتُه يفعلُ ذلك لأطأنَّ على رقَبَتِه، أو لأعفِّرنَّ وجهَه في التراب.
 فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعمَ ليطأَ على رقَبَتِه، قال: فما فجِئهم منه إلا وهو ينكُص على عقبيه، ويتقي [أي يحتمي] بيديه.
فقيل له: مالك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نارٍ وهوْلاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو دنا مني لاختطفته الملائكةُ عُضواً عضواً)).[7]
 وهذه معجزة عظيمة رآها عدو الإسلام أبو جهل، فقد رأى أجنحة ملائكة الله وهي تحمي النبي صلى الله عليه وسلم، وأيقن بأن الله حماه بجنده وعونه، لكن منعه الكِبْرُ وحبُ الزعامة والحرصُ عليها من الإذعان للحق والانقياد له، فحاله وحال غيرِه من المشركين كما قال الله: } فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون { (الأنعام: 33).
قال النووي: "ولهذا الحديث أمثلة كثيرة في عصمته صلى الله عليه وسلم من أبي جهل وغيرِه , ممّن أراد به ضرراً, قال اللّه تعالى: } واللّه يعصمك من النّاس{".[8]
وكما حمت الملائكة النبي صلى الله عليه وسلم من أبي جهل ، فقد تنزلت لحمايته يوم أُحد، حين أطبق عليه المشركون، وتفرق عنه أصحابه منهزمين، ففي الصحيحين يقول سعدُ بن أبي وقاص  رضي الله عنه : (رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أُحدٍ رجُلَين، عليهما ثيابٌ يَيَاض، ما رأيتهما قبلُ ولا بعد). يعني جبريلَ وميكائيلَ عليهما السلام.[9]
قال النووي: "فيه بيان كرامةِ النبي صلى الله عليه وسلم على الله تعالى، وإكرامِه إياه بإنزال الملائكة تقاتل معه، وبيانُ أن الملائكة تقاتِل، وأن قتالَهم لم يَختصَّ بيوم بدر".[10]
ولم يتوان المشركون من أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم عن إيذائه والكيد له، ومن ذلك أنه لما نزل قوله تعالى: }تبت يدا أبى لهبٍ وتب{ (المسد: 1)، جاءت أم جميلٍ ، امرأةُ عمه أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، إنها امرأة بذيئة، وأخاف أن تؤذيَك، فلو قُمت، قال: ((إنها لن تراني)).
فجاءت أم جميل، فقالت لأبي بكر: إن صاحبك هجاني! قال: لا، وما يقول الشعر، قالت: أنت عندي مُصَدق، وانصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله، لم ترَك؟! قال: ((لا، لم يزل ملك يسترني عنها بجناحه)).[11]
وكذا أرادت قريش أن تقتل النبي صلى الله عليه وسلم مراراً قبل هجرته، لكن الله نجاه منهم وحماه، فلما عزم النبي صلى الله عليه وسلم على الخروج من مكة مهاجراً، رصدوا له على باب بيته، فخرج عليه الصلاة والسلام من بينهم، وقد أعمى الله أبصارهم عنه، فلم يروه حال خروجه.[12]
وفي هذا يقول سبحانه: } وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين { (الأنفال:30)، لقد رد الله مكرهم في نحورهم ، ونجى نبيه عليه الصلاة والسلام.
وخرج صلى الله عليه وسلم من مكة مستخفياً تحوطه عناية الله، حتى وصل وصاحبُه إلى غار ثور، واختبآ فيه عن أعين المشركين الذين جدّوا بالبحث عنه حتى وصلوا إلى الغار، ووقفوا ببابه، وظن أبو بكر  رضي الله عنه  الهلكة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أن أحدهم نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بلسان الواثقِ من ربه، المتوكل عليه، العالمِِِِ بأنه لا يسْلمه إلى مرام أعدائه: ((ما ظنّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثُهما؟)).[13]
نعم فالله معه ينصره ويحميه }إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنودٍ لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى العليا والله عزيز حكيم{ (التوبة:40).
وهكذا نجّى النبي صلى الله عليه وسلم من بين أيديهم ، واتجه صوب المدينة المنورة من جديد، تحوطُه رعاية الله ، وتكلؤه عنايته.
أما قريش فلم تستسلم، ولم تفتر عزيمتُها في محاولة قتلِ النبي صلى الله عليه وسلم والنيلِ منه، فأرسلوا إلى قبائل العرب يضعون لهم الجوائز إن همُ قتلوا النبيَ صلى الله عليه وسلم وصاحبَه، لكنهما كانا يسيران في حفظ الله ورعايته.
 وجاز النبي قُديداً، فأدركه سراقة بن مالك، يقول الصديق  رضي الله عنه : وتبِعنا سراقة بن مالك، ونحن في جَلَدٍ من الأرض [أي في أرض صلبة]، فقلت: أُتينا يا رسول الله, فقال: ((لا تحزن, إن الله معنا)) فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فارتطمت فرسه إلى بطنها.
وفي رواية للبخاري يروي سراقة الخبر فيقول: (حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات - ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخَرَرت عنها، ثم زجرتُها فنهضتْ، فلم تكَد تُخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثَرِ يديها عُثانٌ ساطع في السماء مثل الدخان...).[14]
فقال سراقة: (إني قد علمت أنكما قد دعوتما عليّ، فادعوَا لي، فـاللهَ لكما أن أرُدّ عنكما الطلب، فدعا صلى الله عليه وسلم اللهَ فنجا، فرجع لا يلقى أحداً من الطَلَب إلا قال: قد كُفيتكم ما ها هنا، فلا يلقى أحداً إلا ردّه).[15]
قالَ أنس: (فكان أوَّل النهار جاهداً على نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وكان آخرَ النهار مَسْلَحةً له).[16]
فكان إنجاء الله نبيه من بين يدي سراقة سبباً في إسلامه وذوده عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال  رضي الله عنه  وهو يخاطب أبا جهل:
 أبا حكمٍ والله لو كنتَ شاهداً       ***     لأمر جوادي إذ تسوخُ قوائمه
 علمتَ ولم تَشْكُك بأن محمداً        ***     رسولٌ ببرهانٍ فمن ذا يقاومه[17]
ولما رجع مشركو مكة من بدر مدحورين - بقوة الله - ، أقبل عمير بن وهب حتى جلس إلى صفوان بن أمية في الحِجِر ، فقال صفوان: قبَّح اللهُ العيش بعد قتلى بدر.
فقال عمير: أجل والله ما في العيش خيرٌ بعدَهم ، ولولا دينٌ عليَّ لا أجد له قضاء، وعيالٌ لا أدع لهم شيئاً ، لرحلت إلى محمد فقتلتُه إن ملأتُ عينيّ منه ، فإن لي عنده عِلّة أعتل بها عليه ، أقول: قدِمت من أجل ابني هذا الأسير.
ففرح صفوان بإقدام عمير وخُطته، ومضى يزيل عوائق تنفيذها، فقال: علي دينُك، وعيالُك أُسوةُ عيالي في النفقة ، لا يسعني شيء فأعجزُ عنهم.
 فاتفقا، وحمله صفوان وجهزه، وأمر بسيف عمير فصُقل وسُمَّ ، وقال عمير لصفوان: اكتم خبري أياماً.
وقدم عمير المدينة، فنزل بباب المسجد، وعَقَل راحلته ، وأخذ السيف، وعمَد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إليه عمر وهو في نفر من الأنصار، ففزع ودخل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله لا تأمنه على شيء.
 فقال صلى الله عليه وسلم: ((أدخله علي)).
فخرج عمر، فأمر أصحابه أن يدخلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحترسوا من عمير، وأقبل عمر وعمير حتى دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع عمير سيفُه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: ((تأخر عنه)).
فلما دنا عمير قال له: ((ما أقدمك يا عمير ؟)) قال :قدِمت على أسيري عندكم ، تفادونا في أسرانا، فإنكم العشيرة والأهل.
فقال صلى الله عليه وسلم: (( ما بال السيف في عنقِك؟)). فأجاب عمير: قبحها الله من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئاً؟ إنما نسيته في عنقي حين نزلت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اصدقني، ما أقدمك يا عمير؟)). فقال: ما قدمت إلا في طلب أسيري.
 فبغته النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((فماذا شرطتَ لصفوان في الحِجر؟))، ففزع عمير وقال: ماذا شرطتُ له؟
فأجاب من علَّمه الله الخبير فقال: ((تحمّلْتَ له بقتلي؛ على أن يعول أولادَك ، ويقضيَ دَيْنَك ، واللهُ حائلٌ بينك وبين ذلك)).
 فقال عمير: أشهد أنك رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله ،كنا يا رسول الله نكذبُك بالوحي وبما يأتيك من السماء، وإن هذا الحديثَ كان بيني وبين صفوان في الحِجِر لم يطلع عليه أحد، فأخبرك الله به ، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق.
 ففرح به المسلمون، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجلِس يا عمير نواسِك)).
 وقال لأصحابه: ((علموا أخاكم القرآن))، وأطلق له أسيره ، فقال عمير: ائذن لي يا رسولَ الله ، فألحق بقريش ، فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام، لعل الله أن يهديَهم .. ثم قدم عمير فدعاهم إلى الإسلام، ونصحهم بجُهده ، فأسلم بسببه بشر كثير.[18]
وهكذا نجى الله نبيه وحبيبه من كيد عميرٍ وصفوان ، فلم يجدْ عميرٌ أمام هذه المعجزة الباهرة والآية القاهرة إلا أن يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة، وللرب الذي حماه بالوحدانية.
ومن صور حماية الله لنبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم قصة شاة اليهودية، إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى خيبر، فقدمت له يهودية من أهل خيبر شاةً مشوية مسمومة، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراعَ، فأكل منها، وأكل رهطٌ من أصحابه معه، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ارفعوا أيديِكم))، وفي رواية: ((ارفعوا أيديكم، فإنها أخبرتني أنها مسمومة)).[19]
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهودية فدعاها، فقال لها: ((أسمَمْت هذه الشاة؟)) قالت اليهودية: من أخبرك؟ قال: ((أخبرتني هذه في يدي)). للذراع ، قالت: نعم .
قال: ((ما أردت إلى ذلك؟)) قالت: قلتُ: إن كان نبياً فلن يضرَه ، وإن لم يكن نبياً استرحنا منه . فعفا عنها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها.[20]
وفي رواية للخبر في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألها عن ذلك ،فقالت: أردت لأقتلكَ. فقال صلى الله عليه وسلم: (( ما كان الله ليسلطَكِ عليّ )).[21]
قال النووي: " قوله صلى الله عليه وسلم ((ما كان الله ليسلطك عليّ)) فيه بيانُ عصمتِه صلى الله عليه وسلم من الناس كلِّهم، كما قال الله: }وٱلله يعصمك من ٱلناس{ (المائدة: 67)، وهي معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سلامته من السُّمِّ المهلِك لغيرِه، وفيه إعلامُ الله تعالى له بأنها مسمومةُ، وكلامُ عضوٍ منه له، فقد جاء في غير مسلم: ((إن الذراع تخبرني أنها مسمومة)).[22]
ويحدث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل نجد، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركتهم نومة القيلولة في وادٍ كثير الشجر.
يقول جابر: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس ، يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمُرَةٍ، فعلق بها سيفه، فنِمنا نومةً، ثم إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فجئناه، فإذا أعرابيٌ جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظتُ وهو في يده صَلتاً، فقال لي: من يمنعُك مني؟ قلت: اللهُ، فها هو ذا جالس)) ثم لم يعاقبْه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية لأحمد أنه قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فقال: من يمنعك مني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((اللهُ عز وجل)).
فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟ فقال الأعرابي: كن كخير آخذ.
 فقال صلى الله عليه وسلم: ((أتشهد أن لا إله إلا الله؟)) قال: لا، ولكني أعاهدُك أن لا أقاتِلَكَ، ولا أكونَ مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، فذهب إلى أصحابه، فقال: قد جئتُكم من عندِ خير الناس. [23]
وفي هذا الحديث دلائلُ مختلفة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، منها: ثبات النبي صلى الله عليه وسلم بتأييد الله له، ثم حمايةُ الله له من القتل.
 ومنها تأييدُه له بالملائكة، فقد وقع في رواية لابن إسحاق أن جبريل دفع بصدر المشرك فسقط سيفه.
 وأخيراً: عفوُ النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل مع رفضه للإسلام، وذلك خلق من أخلاق النبوة، وإلا فمن يصنع ذلك مع غريمه وعدوه الذي كاد أن يقتله؟ وقد صدق الأعرابي حين قال: جئتُكم من عندِ خير الناس.
{ أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فماله من هاد } (الزمر: 36)، وفي هذا كله ما يشهد له صلى الله عليه وسلم بالنبوة لتأييد الله إياه وحفظه له.

-----------------------------------
[1] تفسير القرآن العظيم (3/143).
[2] رواه الترمذي ح (3046)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح (2489).
[3] أعلام النبوة (127).
[4] ربحت محمداً ولم أخسر المسيح، عبد المعطي الدلالاتي ص (108).
[5] الجواب الصحيح (1/410).
[6] رواه أحمد في المسند ح (2757) والحاكم في مستدركه (3/170)، وصححه الهيثمي في مجمع الزوائد (8/228).
[7] رواه مسلم ح (2797).
[8] شرح مسلم على صحيح النووي (17/140).
[9] رواه البخاري ح (4054)، و مسلم ح (2306).
[10] شرح صحيح مسلم (15/66).
[11] رواه أبو يعلى في مسنده ح (2358)، والبزار ح (2294)، وصححه ابن حبان ح (6511).
[12] انظر الروض الأنف في شرح سيرة ابن هشام ، للسهيلي (4/178).
[13] رواه البخاري ح (3653)، ومسلم ح (2381).
[14] رواه البخاري ح (3906).
[15] رواه البخاري ح (3615)، ومسلم ح (2009).
[16] رواه البخاري ح (3911).
[17] فتح الباري (7/286).
[18] رواه الطبراني في معجمه الكبير ح (117)، وابن هشام في السيرة (3/213).
[19] رواه أبو داود ح (4510)، والحديث أصله في البخاري ح (2617)، ومسلم ح (2190).
[20] رواه أبو داود ح (4510) وهو صحيح كما قال الألباني في مشكاة المصابيح ح (5931).
[21] رواه البخاري ح (2617) ، ومسلم ح (2190).
 [22] شرح صحيح مسلم (14/179).
[23] رواه البخاري ح (4137)، ومسلم ح (843)، ورواية أحمد في المسند ح (14512).

 

د. منقذ السقار
  • سلسلة الهدى والنور
  • مقالات
  • كتب ورسائل
  • الصفحة الصوتية1
  • الصفحة الصوتية2
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية