اطبع هذه الصفحة


الطعن بمرويات صاحب
و خادم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أبو هريرة رضي الله تعالى عنه

الدكتور مسلم محمد جودت اليوسف

 
بسم الله الرحمن الرحيم


مقدمة :

إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا ِِإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.....
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } ( سورة آل عمران: 102)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} ( سورة النساء: 1)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ( 70 ) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } ( سورة الأحزاب:70،71 )

أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله تعال ى، وخير الهدى هدي محمد - e -، وإن شر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
فقد دأب بعض أهل الهوى و الفكر المنحرف ، و الدخيل على ديننا الحنيف للنيل من الصحابة - رضوان الله عليهم – الذين أثنى الله تعالى عليهم ورضي عنهم في محكم آياته ، فقال جل جلاله :
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [سورة التوبة : 100].
وقال جل وعلا : {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)} [سورة الحديد : 10] .
وقال تبارك وتعالى : {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} [ سورة الفتح : 18].
كما استحق الصحابة - رضوان الله عليهم - الثناء من الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - من مثل :
قوله عليه الصلاة والسلام : ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ....) . [1]
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( الله الله في أصحابي ، لا تتخذوا أصحابي غرضاً ، من أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبعضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه ) .[2]
وكقوله عليه أفضل الصلاة و السلام : ( لا تسبوا أصحابي ، لا تسبوا أصحابي ، فو الذي نفسي بيده ، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ، ما أدرك مد أحدهم ، ولا نصيفه ).[3]
ومع كل هذا المديح ، و الثناء من الله تبارك و تعالى ، و من رسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم - نرى بعض أصحاب الفكر الدخيل و القلوب المريضة و العقول الضعيفة و الغايات الدنيئة يجعلون الصحابة غرضا لهم لضرب الإسلام والقضاء عليه .
الصحابة جمع صحابي [4]، وهو : كل من رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو مؤمن به ، والصحابة هم حواري رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي أخذوا من علمه النبوي الصافي ، فتربوا على يديه منذ بعثته – صلى الله عليه وسلم – وحتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى جل جلاله ، فتربوا -رضوان الله عليهم -على يديه و تحت ناظريه في شؤونهم الدينية و الدنيوية ، فكانوا جيل القرآن الحق ، وكانوا خير أمة أخرجت للناس ، فتصدوا بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى للجهاد و الدعوة .
وقد بلغ عددهم رضوان الله عليهم أكثر من 123ألف صحابي مع التفاوت بينهم في العلم و العمل و مختلف شؤون الحياة وفروع الدين .
وفي هذا البحث سوف أتحدث عن صحابي جليل من أولي العزم الذي حملوا لنا هذا الدين القويم ، فكان له الفضل العظيم في نقل هذا الدين إلينا كما كان له الفضل نشر نور الإسلام و علومه .
ذلكم الصحابي الجليل هو خادم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - و حافظ سنته : أبو هريرة ، عبد الرحمن بن صخر الدوسي - رضوان الله عليه – من أكثر الصحابة رواية للحديث النبوي الشريف و أشدهم حفظا له .
يرى بعض أصحاب الزيغ وأصحاب الفكر الدخيل أن كثرة مروياته مع قصر مدة صحبته مع الرسول – صلى الله عليه وسلم – أمر يدعو إلى الشك في صحتها :

ويجاب على هذه الدعوى الباطلة بما يلي :

إن سبب غزارة علمه ، و عمق فقهه و مروياته عن الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم ما يلي :
1- دعاء الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم - له بالعلم : ( جاء رجل إلى زيد ابن ثابت ، فسأله عن شيء ، فقال له زيد : عليك أبا هريرة ، فأنى بينما أنا و أبو هريرة و فلان في المسجد ، ذات يوم ندعو الله تعالى ونذكره ، إذ خرج علينا النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى جلس إلينا ، فقال : عودوا إلى الذي كنتم فيه ، قال زيد : فدعوت أنا وصاحبى قبل أبي هريرة ، وجعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يؤمن ( يقول آمين ) على دعائنا ، ثم دعا أبو هريرة ، فقال : اللهم إني أسألكم ما سألك صاحباي ، و أسألك علما لا ينسى ، فقال صلى الله عليه وسلم : آمين . فقلنا يا رسول الله ونحن نسأل الله علما لا ينسى ، فقال : سبقكم بها الغلام الدوسي ) .[5]

2- طول صحبته ، و ملازمته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صحب أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقارب الأربع سنوات ، وكان قد زاد عمره على الثلاثين سنة ، فكان شديد الملازمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدور معه في بيوت نسائه يخدمه ويصلي خلفه ، يحج و يغزو معه ، ولا ينقطع عن مجالسه ، بل كان رضي الله عنه يقيم في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم . ونتيجة لهذا الملازمة و الصحبة المباركة عرف كثيرا من السنة و دقائقها و معانيها و تطبيقاتها .

3- حرصه على العلم النبوي الشريف : كان أبو هريرة رضي الله عنه سؤلا شديد الحرص على العلم النبوي الشريف ، قال أبو هريرة رضي الله عنه : ( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماذا رد إليك ربك في الشفاعة ؟ فقال : والذي نفس محمد بيده ، لقد ظننت أنك أول من يسألني عن ذلك من أمتي ، لما رأيت من حرصك على العلم ، والذي نفس محمد بيده ، ما يهمني من انقصافهم على أبواب الجنة [6] أهم عندي من تمام شفاعتي ، وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً ، يصدق قلبه لسانه ، ولسانه قلبه ) .[7] لقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه حرصه على العلم النبوي الشريف فالذي يشهد له الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فمن يستطيع أن يقول بغير هذه الشهادة النبوة غير خاسر في الدارين و العياذ بالله تعالى . لقد كان أبو هريرة رضي الله عنه ينجذب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و إلى علمه فينشرح صدره لحديثه ورفقته وخدمته لهذا كثيرا ما نرى أبا هريرة يبذل جهده في خدمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أنه كان يحمل له الماء لقضاء حاجته ، و هو في هذا كله ينهل من معين صافي ، يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم – تارة و يسمع منه أخرى ويراه حينا و يجالسه أحيانا ، فيتعلم منه الشريعة الإسلامية و دقائق أحكامها ومن ذلك قوله : ( علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم ، فتحينت فطره بنبيذ[8] صنعته في دباء [9] ثم أتيته به ، فإذا هو ينش [10]، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اضرب بهذا الحائط ، فإن هذا الشراب من لا يؤمن بالله و اليوم الآخر ) [11]. إن مثل هذه الوقائع التي تقع لأبي هريرة ولغيره ومن الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - أثرا حميدا لا يمكن أن يمحى من حياته ، لأنها تمثل أجمل و أعطر الأيام في حياته - رضوان الله عليه - لذلك كان أبو هريرة - رضي الله عليه - يشكر الله تعالى على هذه النعمة ، فيقول : ( الحمد لله الذي هدى أبا هريرة للإسلام ، الحمد لله الذي علم أبا هريرة القرآن ، الحمد لله الذي منَّ على أبي هريرة بمحمد صلى الله عليه وسلم ) [12]. وكان أبو هريرة رضي الله عنه من أكثر الصحابة حرصاً على اكتساب علم الحديث من منبعه الصافي رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا ما وضحه أبو هريرة رضي الله عنه بسنده عندما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يأخذ من أمتي خمس خصال ، فيعمل بهنَّ ، أو يعلمهن من يعمل بهن ؟ قال : قلت : أنا يا رسول الله ، قال : فأخذ بيدي فعدَّهن فيها ، ثم قال : ( اتق المحارم تكن أعبد الناس ، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا ، و أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما ، ولا تكثر الضحك ، فإن كثرة الضحك تميت القلب ) [13]. وقد عرف الرسول صلى الله عليه وسلم حرص أبي هريرة على الحديث ، فكان كثيرا ما يحدثه بالذي يحب ، ومن هذا ما رواه الإمام احمد بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : ( كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في نخل لبعض أهل المدينة ، فقال : يا أبا هريرة ، هلك المكثرون إلا من قال هكذا و هكذا وهكذا ، ثلاث مرات : حثى بكفه عن يمينه وعن يساره وبين يديه – وقليل ما هم ، ثم مشى ساعة ، فقال : يا أبا هريرة ، ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ فقلت : بلى يا رسول ، قال : قل لا حول ولا قوة إلا بالله ، ولا ملجأ من الله إلا إليه ، ثم مشى ساعة ، فقال : يا أبا هريرة ، هل تدري ما حق الناس على الله ؟ وما حق الله على الناس ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قلت : فإن حق الله على الناس أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا . فإذا فعلوا ذلك فحق عليه أن لا يعذبهم ) .[14]وغير ذلك من الأحاديث الروايات التي تؤكد كثرة تحمله عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - . ولشده حرصه – رضي الله عنه - على العلم النبوي ، ولاسيما الذي فاته سماعه من النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل إسلامه ، كأبي بكر الصديق ، و عمر بن الخطاب و عائشة و غيرهم رضي الله تعالى عليهم أجمعين [15]. فقد عايش أبو هريرة - رضي الله عنه - هؤلاء الصحابة فأخذ عنهم ما جهله أو لم يره أو يسمعه أو يعاصره من رسول الله -صلى الله عليه وسلم - . ونراه - رضي الله عنه - كثيرا ما يجالس أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألهم ويسألونه ، حتى أنه كان يأتي إلى كل من يظن عنده بعض العلم ، فقد جاء إلى كعب يسأل عنه ، وكعب في القوم ، فقال كعب : ما تريد منه ؟ فقال : أما أني لا أعرف أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني . فقال كعب : أما أنك لم تجد طالب شيء إلا سيشبع منه يوما من الدهر إلا طالب علم أو طالب دنيا . فقال : أنت كعب ؟ فقال : نعم . فقال : لمثل هذا جئت . [16]. ولقي أبو هريرة كعب الأحبار رضي الله عنهما فجعل يحدثه ويسأله ، فقال كعب : ما رأيت أحدا لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة .[17]

4- لاهتمامه بالدعوة والإفتاء ، ونشر الحديث الشريف : كان أبو هريرة الدوسي – رضي الله عنه – واحدا من الذين تحملوا أمانة و ثقل الدعوة إلى الله تعالى ، وذلك لسعة علمه و فقهه – رضي الله تعالى عنه – ولحاجة المسلمين إليه و إلى علمه النبوي ولخوفه من تبعات كتمان العلم الذي يحمل ويعرف ويفقه ، فقد روى عنه أنه قال : و الله لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبدا ، ثم تلا : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)} [البقرة : 159] [18]. وكان رضي الله عنه يحدث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المدينة المنورة ، وفي مكة المكرمة ، كما حدث في دمشق الفيحاء ، والعراق والبحرين، وغيرها من الأمصار التي حل بها ، ومن يتتبع حديثه يلاحظ أنه – رضي الله تعالى عنه – قد جعل من بيته جامعة إسلامية يتردد إليها من يريد الأثر النبوي الشريف [19] ، كما كان يستقبل طلاب العلم في أرضه بالعقيق [20]، فيحدثهم الأحاديث النبوية الشريفة ويكرمهم ، ويدخل السرور عليهم بما أنعم الله عليه من حسن الخلق وغزارة العلم النبوي الشريف و فقهه . وقد كانت أكثر مجالسه العلمية – رضي الله تعالى عنه – في المسجد النبوي إلى جانب الحجرة المشرفة ، وقد عرف المسلمون علمه وفضله ، فكانوا يستفتونه في كثير من أمورهم ، وكان – رضي الله تعالى عنه – يفتي بوجود كبار الصحابة بل كان بعض الصحابة – كزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس – يحيلون السائل عليه ، لأنهم عرفوا علمه و إتقانه . عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري : أنه كان جالساً مع ابن الزبير ، فجاء محمد ابن إياس بن بكير ، فسأل عن رجل طلق ثلاثاً قبل الدخول ، فبعثه إلى أبي هريرة ، وابن عباس – وكانا عند عائشة – فذهب فسألهما ، فقال ابن عباس لأبي هريرة : أفته يا أبا هريرة ، قد جاءتك معضلة ، فقال : الواحدة تبينها والثلاث تحرمها .[21] وقد وثق الناس بأبي هريرة وعرفوا مكانته العلمية ، فكانوا يتواعدون لينطلقوا إليه ، فيسمعوا دروسه الحديثية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، من ذلك ما رواه محكول بقوله : تواعد الناس ليلة من الليالي إلى قبة من قباب معاوية ، فاجتمعوا فيها ، فقام أبو هريرة ، فحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح .[22] وعن محمد بن سيرين أن أبا هريرة كان يقوم كل خميس فيحدثهم .[23] وقد عرف طلاب العلم مكانته العلمية فكانوا لا يرونه في مكان إلا اجتمعوا حوله ينهلون من علمه ، روى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى عن سفيان بن عيينة ، قال : قال إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس ، قال : نزل أبو هريرة بالكوفة – قال : فكان بينه وبين مولانا قرابة ، قال سفيان وهو مولى الأحمس – فاجتمعت أحمس ، قال قيس : فأتيناه نسلم عليه ، - وقال سفيان مرة : فأتاه الحي – فقال له أبي : يا أبا هريرة ، هؤلاء أنسباؤك أتوك يسلمون عليك ، وتحدثهم عن رسول الله صلى الله وسلم ، قال :مرحبا بهم وأهلا ، صحبت رسول الله صلى اله عليه وسلم ثلاث سنين ، لم أكن أحرص على أن أعي الحديث مني منهن ، حتى سمعته يقول : ( والله لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب على ظهره ، فيأكل ويتصدق : خير له من أن يأتي رجلا أغناه الله عز وجل من فضله ، فيسأله ، أعطاه أو منعه )[24] وكان رضي الله تعالى عنه حريصا أشد الحرص على تبليغ العلم ونشره ، وبيان سنته صلى الله عليه وسلم في أية فرصة تسنح له ، ومن هذا ما رواه ابن ماجة بسنده عن أبي الشعثاء ، قال : كنا قعودا في المسجد مع أبي هريرة ، فأذن المؤذن ، فقام رجل من المسجد يميس . فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد . فقال أبو هريرة : أما هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - . و لم يكن أبو هريرة - رضي الله عنه – راوية للحديث النبوي الشريف فقد بل كان من رؤوس الفتوى في زمانه يسأله الناس ، فيجيبهم ويستفتونه فيفتينهم . وقد سأله قوم محرمون عن محلين أهدوا لهم صيدا ، فأمرهم بأكله ، ثم لقي عمر بن الخطاب فأخبره بذلك ، فقال له : لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعتك [25]. وهكذا تصدر أبو هريرة الفتوى والاجتهاد في المدينة المنورة يسأله الناس فيجيبهم ويستفتونه فيفتيهم ، و يستشهدونه على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيشهد لهم . من هذا ما رواه البخاري بسنده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع حسان بن ثابت الأنصاري يستشهد أبا هريرة ، فيقول : يا أبا هريرة نشهدك بالله ، هل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم يقول : يا حسان أجب عن رسول الله ، اللهم أيده بروح القدس ، قال أبو هريرة : نعم .[26]

5- تدوين كثير من حديثه : كان أبو هريرة – رضي الله عنه – حين يعقد حلقات الحديث ، يسمح لبعض طلابه بالكتابة عنه ، وقد ثبت أنه أملى على التابعي الثقة بشير بن نهيك السدوسي البصري بعض حديثه ، وقرأ بشير ما كتبه عن أبي هريرة قبل أن يفارقه .[27]
تأخر وفاته : لقد تأخرت وفاته - رضي الله تعالى عنه - إلى ما بعد سنة خمسين هجرية ، ولم يبق إلا القليل من الصحابة – رضي الله عنه - في عصر اتسعت رقعة الخلافة الإسلامية ، وازدياد عدد الداخلين في دين الله تعالى ، وكثرة طلاب العلم النبوي الشريف ممن حرصوا على الأخذ من الصحابة الكرام باعتبارهم المنابع الصافية للعلم النبوي الشريف ، ولاسيما من عرف منهم بالحفظ والملازمة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – كأبي هريرة الدوسي رضي الله عنه . ويصف لنا محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم مجلساً لأبي هريرة – رضي الله عنه - ، فيقول : أنه قعد في مجلس فيه أبو هريرة ، وفيه مشيخة من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بضعة عشر رجلا ، فجعل أبو هريرة يحدثهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديث ، فلا يعرفه بعضهم ، ثم يتراجعون فيه فيعرفه بعضهم ، ثم يحدثهم بالحديث ، فلا يعرفه بعضهم ، ثم يعرفه ، حتى فعل ذلك مرارا . قال فعرفت يومئذ أنه احفظ الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .[28]


---------------------------------
[1]- رواه الشيخان ، صحيح مسلم ، لمسلم بن الحجاج ، أبو الحسين القشيري النيسابوري ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، ج4/1963بقم 2533.صحيح البخاري لمحمد بن إسماعيل ، أبو عبد الله البخاري الجعفي ، دار ابن كثير ، بيروت 1987م ط3، تحقيق د. مصطفى ديب البغا ، ج2/938. برقم 2509.
[2]- رواه ابن حبان في صحيحه ، لمحمد بن حبان بن أحمد التيمي البستي ، مؤسسة الرسالة بيروت 1993م ، تحقيق شعيب الأرنؤط ، ج 16/242. و الترمذي في سننه ، ، دار إحياء التراث العربي ، تحقيق محمد شاكر ، ج5/696، وقال عنه الترمذي حديث غريب ، الشيخ ناصر في السلسلة الضعيفة حديث ضعيف ورقمه بـ 2901.
[3]- رواه الشيخان ، صحيح البخاري ج3/1343. وصحيح مسلم ،ج4/1917.
[4]- الصحابي في العرف : من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وطالت صحبته ، وإن لم يرو عنه .
والصحابي في قول أهل الحديث و جمهور العلماء خلفا و سلفا و الصحيح من مذهب الشافعية ، والحنابلة ، والإباضية : هو كل مسلم رأى النبي – صلى الله عليه وسلم سواء جالسه ، أم لا .
والصحابي عند المالكية : من اجتمع بالنبي في حياته ، مؤمناً به ، ومات على ذلك .
أما عند الأصوليين : فهو من لقي النبي – صلى الله عليه وسلم – مسلماً ، ومات على الإسلام أو قبل النبوة و مات قبلها على الحنيفية ، كزيد بن عمرو بن نفيل أو ارتد وعاد في حياته ( القاموس الفقهي ، لسعدي أو حبيب ، دار الفكر 1993م ، ص 208. ) .
[5]- تهذيب التهذيب ، ج12/266 وفيه سألاك صاحبي ، تصحيح الحديث من فتح الباري لبن حجر العسقلاني ، مطبعة مصطفى الحلبي البابي ، القاهرة عام 1378هـ - 1959م ، ج1/226 ، وسير أعلام النبلاء ، ج2/432 . وانظر حلية الأولياء ج1/381 ، والبداية والنهاية ، ج8/111.
[6]- معنى انقصافهم على أبواب الجنة : القصف بفتح القاف وسكون الصاد المهملة ثم الفاء ، وهو الكسر والدفع الشديد ، لفرط الزحام حتى يقصف بعضهم بعضاً .
[7]- مسند الإمام أحمد ج15/208 . وفي رواية في فتح الباري ، ج1/203.( أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه ) .
[8] - النبيذ : كان العرب يطلقون اسم النبيذ على نقيع التمر أو الزبيب ، لأنهم كانوا ينبذونها في الماء ريثما يصير حلوا ، أما النبيذ المعروف الآن وغيره من المسكرات في حرام لا يجوز تناوله .
[9]- البداء : القرع ، مفردها دباءة ، كانت تجفف و تجعل كالآنية .
[10]- ينش : أي يغلي من نفسه لتخمره .
[11]- سنن أبي داود ، ج2/301.
[12]- تاريخ ابن عساكر وهوتهذيب تاريخ ابن عساكر لعبد القادر بدران ، طبع دمشق مطبعة الروضة الشام ، 1329هـ ، ج47/511 .
[13]- مسند الإمام أحمد ، ج15/228. وقال عنه الشيخ اللباني حديث صحيح ( صحيح وضعيف الجامع الصغير ، برقم 4580.
[14]- مسند الإمام أحمد ، ج15/220.
[15]- الإصابة ، لابن حجر ، ج4/205.
[16]- سنن الدارمي ، ج1/ 86.
[17] - سير أعلام النبلاء ، ج2/432.
[18]- مسند الإمام أحمد ، ج14/122- 123.
[19]- انظر سنن أبي داود ، ج1/ 568 .
[20]- انظر موطا الإمام مالك تحقيق محمد فؤاد عبد لبلقي ، طبع مصر عيسى الحلبي عام 1370هـ كتاب الجامع ص 44.
[21]- سنن أبي داود ، ج1/509.
[22]- البداية والنهاية لبن كثير، ج8/ 106.
[23] الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع للخطيب البغدادي دار الكتب المصرية ( مصور ) ص 113.
[24]- مسند الإمام أحمد ج15/143.
[25] - سير أعلام النبلاء ، ج2/446.
[26] - فتح الباري لابن حجر العسقلاني ، دار المعرفة ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، بيروت 1379هـ ،ج11/137.
[27] - طبقات ابن سعد ، ج7/ 162 ، و الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع ( مصور ) ، ص137.
[28]- فتح الباري لابن حجر العسقلاني ، ج 1/
 
 

مسلم اليوسف
  • بحوث علمية
  • بحوث نسائية
  • مقالات ورسائل
  • فتاوى واستشارات
  • الصفحة الرئيسية