اطبع هذه الصفحة


فقه النهضة .. هل يُعتبر خيار المرحلة القادمة لعلاج التطرّف؟

د.مسفر بن علي القحطاني
رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية
بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن


يشكّل التطرف الفكري أزمة حقيقيّة للفكر . . فضلاً عن أزماته الأخرى إذا تجسد في أرض الواقع، ولكي نبحث عن مخرج لهذه الأزمة الفكرية يجب أن نحلّل الأسباب، ونتتبع الجذور التي أدّت إلى هذا التطرّف في مجتمعاتنا الإسلامية على وجه الخصوص, ونظرا ً لأهمية هذا التحليل، ودوره المرتقب في تشخيص العلاج المناسب كان الواجب أن يتولى هذا الدور العظيم مؤسسات متنوعة بجهود جماعية منظمة لا أفراد أو خبراء مهما بلغ تكوينهم الفكري. ومع تلك الأهمية من وجهة نظري فإنني لا أعفي نفسي من التنظير حول بعض مفاهيم الفكر المتطرف المحلي, ربما كان المسوّغ لذلك المعايشة الواقعية والتتبع التأريخي لمسيرته في مجتمعنا السعودي.

وبإجمال مبتسر -يكفي للإشارة حول هذه القضية الشائكة- ؛ أرى أن الممارسات الفكرية المنافية للموضوعية مهما صغرت لا ينبغي أن يُستهان بها حتى لو كانت آثارها المبدئية ضعيفة, فقد تنمو مع مرور الزمن لتصبح أكثر بعداً عن الوسطيّة والموضوعيّة معلنة نشأة التطرف بكل أطيافه الفكرية.
فالتعصب للأفراد أو المذاهب أو الجماعات يجعله لا يرى الحق إلا من خلالها، ويصادر بالتالي عقله، ويفكر بمنطق غيره، ويرفض كل رأي يخالف ما تعصب عليه من رأي أو طريقة؛ مما يزيد هوّة الافتراق في المجتمع، وربما يؤول الوضع إلى تنازع واقتتال بين أفراد المجتمع الواحد.
إن المبالغات التي أصبحت سمة للفكر المتطرّف تجعله يبالغ في ذم من يخالفه إلى درجة الإسقاط والإقصاء، وفي المقابل المدح والثناء على من يوافقه لدرجة التقديس والتنـزيه عن الأخطاء.

وهذا ما قد يؤدي في المستقبل إلى نشوء عقليات لا تنظر للحقائق إلا من خلال النظر العاطفي المجرد. وهذا ما أورث الأمة الكثير من الفتن والرزايا والثورات المسلحة, أو ساهم في بناء عقليات لا تنظر للقضايا أو الواقع أو حتى الشرع إلا من بُعد واحد، وتصرّ على أن هذا الجزء هو الحقيقة المطلقة. مع أن رؤية نصف الحقيقة شرٌّ من الجهل بها؛ لأنها توجد إنساناً يظن أنه يعرف كل شيء وهو لم يعرف إلا الجزء الذي يجعله مسماراً في آلة كبيرة دون أن يعرف شيئاً عن تلك الآلة.
وأهم ما يساعد على نشوء هذه العقليات ذات البُعد الواحد سواء أكانوا من المتطرفين أو من غيرهم؛ فقر البيئة الطبيعية أو الثقافية بمعنى ضعف الخلفية العلمية والمنطقية لتحليل المشكلات وعلاج الأزمات؛ فيكون تفكيره لا يخرج عن ذلك الإطار الضيق الذي يشكّل حصيلته المعرفية وخبراته الحياتية، ولهذا ألزم العلماء من يجتهد في أحكام الشريعة أن تتحقق فيه الكثير من الشروط العلمية والفكرية ليستجمع أدوات النظر الصحيح والمعرفة الشاملة.

إن عقلية البعد الواحد يصعب عليها أن تحاور في هدوء، أو تسمع النقد المقابل دون تشنج؛ لأنها اعتادت أن تنظر لنفسها نظرة اعتدال وكمال واحتكار للحق والصواب، وكل من خالفها لن يعدو أن يكون ناقص فقه أو دين.
إن تبسيط الأمور العظيمة والمشكلات المزمنة دون العمق في النظر والتحليل المنطقي لها سمّة لأهل التطرّف والغلوّ, بالإضافة إلى الانغلاق التام نحو الاستفادة من الثقافات أو العلوم الأخرى المعنية في ذلك. وهذا لن يزيد قضايانا إلا إشكالاً ورجعية.

إن هذه الممارسات الفكرية -وإن ظلت في الخفاء أو لم تسهم في إثارة عنف أو تدمير في الواقع- لا ينبغي لنا تجاهلها أو الغضّ عنها. فمعظم النار من مستصغر الشرر، والواجب على مؤسسات المجتمع المختلفة أن تعيد صياغة الذهن وتنمية الوعي بالتفكير الموضوعي, وتعميق الحوار وتعليم أدب الاختلاف والإسهام بإيجاد مناهج تعليمية تطوّر هذا النمط من التفكير والتعليم.
فالتطرّف الفكري أصاب الكثير من المجتمعات على مستوى العالم، ولكن آثاره تختلف من مجتمع إلى آخر حسب مستوى الوعي لدى الأفراد والمسؤولين ؛ ولهذا لا ينمو إلا في مناخات العقول ذات البعد الواحد.

إن علاج ظاهرة التطرّف في المجتمعات الإسلامية تشكل أولوية لدى صنّاع القرار، وذلك للآثار الخطيرة الناجمة عنها على مستوى الفرد أو الدولة، ولا خلاف في أهمية الاحتياطات الأمنية لتضييق انتشار هذا الفكر والحدّ من خطره، إلا أن عجلة التنمية ودولاب النهضة لا ينبغي أن يتوقف إلى حين القضاء عليها، وإشاعة فقه النهضة والمدنية يعتبر من الضروريات في المرحلة التي نعيشها هذه الأيام، مما يجعل الكل يسعى للبناء وينظر للمستقبل، ويتنافس مع الآخر في مدارج الحضارة والتقدم.

لقد مرّت كثير من الشعوب بأزمات فكرية وتقاطعات عنيفة في الرؤى والتوجهات الاجتماعية والسياسية، ولكن خيار التقدم والنهضة لم يكن ضحية لهذه الخلافات، بل نجدهم يسارعون في الانسجام والاتفاق عما يهدّد حضارتهم أو يسلُب تقدمهم. ومن الأمثلة على ذلك في وقتنا المعاصر دولتا الهند والصين فلا أعتقد أن دولاً تزخر بالأعراق والأديان والخلافات المذهبية والظروف الاقتصادية الصعبة في ظل انفجار سكاني رهيب ما يوجد في هذين البلدين، ومع ذلك فقد بلغ النمو الاقتصادي في الهند عام 2003م ما نسبته 8% وهو معدل مرتفع وفق المؤشرات الاقتصادية العالمية.

أما في الصين فقد أنجزت خلال الخمسين عاماً الماضية إنجازات هائلة تجاوزت بذلك كل الظروف الاستثنائية؛ فقد بلغ الناتج القومي عام 2000م ألف مليار دولار، وبلغ احتياطها من العملات الصعبة 60 مليار دولار، لتحتل المرتبة الثانية في العالم، كما ودّع (200) مليون فرد الفقر خلال العشرين سنة الماضية أي ما يساوي عدد سكان أمريكا مجتمعين.
إن إشاعة فقه النهضة والدخول في خيارات التنمية هو ما ينبغي إثارته في كل أطروحاتنا حول التطرف وأزمته الراهنة، وأعتقد أن هذا هو ميدان العمل والحرث والإنتاج لنخبنا المثقفة، بدلاً من التمحور في أبراج التنظير العاجيّة, وتسويق الحلول الآنية. فهل نعتبر فقه النهضة مشروعنا القادم للخروج من أزمة التطرّف وإشكالاتها المتعددة؟
 

مسفر القحطاني
  • مـقـالات
  • بحوث علمية
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية