اطبع هذه الصفحة


الهوية

مبارك عامر بقنه
@M_BU200


في
الزمن العولمي
زمن الثورة المعلوماتية، أبرزُ وأخطر صِراع يَعيشُه المسلم اليوم هو صِراع الهُوِيَّة؛ فالمسلم يعيش صراعًا مع ذاته للتعرُّف على هويته في زمن تداخُل الهويات، وصراعًا مع المخالف له في العقيدة والفِكر والانتماء ليتميَّز عنه.

والحديث عن
الهوية
ليس أمرًا هامشيًّا، أو هو من باب الجدل الفكري الصرف الذي لا ثمرة له؛ بل هي قضية أساسية، فنحن نرى الآن الصِّراعاتِ صراعاتِ هُوِيَّة؛ صراع مَحو الهويَّات والثقافات للأمم والشعوب ومسخها؛ لذا من المهمِّ أن نجيب على هذا السؤال بدقَّة: ما هويَّتنا؟

قد يبدو هذا السُّؤال أنَّه سؤال سطحي، ولكن حقيقة هو سؤال جوهري؛ لأنَّ الجواب عليه في ظلِّ
تداخل الثقافات
بين الأمم يجعله سؤالًا معقدًا؛ فهو سؤال يلامس منظومات القيم والمبادئ المكونة للوجود الحضاري لهذه الأمَّة.

الاحتكاك بالحضارات الأخرى، وخصوصًا إذا كانت هذه الحضارة متفوقة ماديًّا وإعلاميًّا - يُظهر أزمة هوية؛ حيث يكون هناك رغبة في الاندماج في هذه الحضارة القائمة المسيطِرة، مع رغبة في الحفاظ على الهوية؛ لذا تبرُز أسئلة عدَّة لدى العقل المسلم: مَن نحن؟ لماذا نحن متأخِّرون حضاريًّا؟ ما سبب تأخُّرنا؟ فتكثر الأسئلة حول الأنا، وحول الآخر؛ كي يَبحث عن ذاته، محاولًا اكتشاف الذَّات، واللحاق بالآخرين، وتقليص الفارق المادي
.

لا أظن أنَّنا نختلف في أنَّ هويتنا هي الإسلام، فنحن بدون الإسلام لا شيء، وكلُّ القواسم المشتركة الأخرى
- كاللغة والتاريخ والامتداد الجغرافي - كلُّها تُعتبر امتدادًا للإسلام، أو تكتسب اعتبارها المؤثِّر من الإسلام، فلا شيء يجمعنا سوى الدِّين؛ فاللِّيبرالية، والقومية، والاشتراكية، والعلمانية كلها أوربية الأصل والمنبع، مهما أقْلَمَها وعدَّلها أتباعُها، فإنَّها لن تنسجِم معنا، فقط الإسلام هو الوحيد الذي يعبِّر عن مشاعرنا بما يتَّفق مع كينونتنا.

ولكن في هذه الحقبة الزمنيَّة لم يعُد سؤال الهويَّة صراعًا بين الإسلام والغرب وحسب؛ بل أصبح صراعًا داخليًّا بين منهج أهل السنَّة والمنهج الصفوي، لقد غاب الغرب عن دائرة الصِّراع وعن دائرة الخِطاب الفكري، وكان ينظر للأمَّة بجميع مكوِّناتها على أنَّها وحدة واحدة، أو على الأقل كان الخطاب ساكتًا عن الفوارق الداخلية بين الأمَّة، وكانت الأمة في مواجهة مع الغرب محاولة اللحاق به وسدَّ الهوَّة الحضارية، ومحاولة التقارب مع الغرب في المسألة المادية
.

وأصبح الصِّراع الآن بارزًا مع طائفة تريد أن تفرض هيمنتَها الفكريَّة والثقافية والسياسية على الأمَّة، ولم تعد الأسئلة حول الغرب ظاهرة، وانتقال الصِّراع من الغرب إلى الفكر الصفوي أبرز أسئلة محوريَّة أخرى: ما دور الغرب في هذا الصِّراع؟ هل الفكر الصفوي يمثِّل امتدادًا للفكر الغربي؟ هل الفِكر الصَّفوي يمثِّل أداة الغرب العبثية في العالم الإسلامي كي نبقى متأخرين؟


صراعنا مع الفكر الصَّفوي صراع عقائدي واضح للعيان، وهو صراع على هويَّتنا وقيمنا الإسلامية، وهنا علينا أن ندرك بعض القضايا الأساسية ونحن في صراعنا مع المدِّ الصَّفوي
:

أولًا
: علينا أن ندرك أن التميز مطلب شرعي، قال الله تعالى: ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [آل عمران: 179]، فالتمييز بين الحقِّ والباطل وبين الطيِّب والخبيث، أمرُ الله، قدَّره الله تعالى ولا مفرَّ منه، والتميُّز هو أيضًا مطلب قومي، فنحن نرى الأمم تتصارع من أجل الحِفاظ على تميُّزها وثقافتها؛ فالأمَّة المتميزة هي التي تستحقُّ الرِّيادةَ والقيادة، وهي المؤهَّلة للبقاء، حين نفقد هذا التميُّز فإنَّنا لن نبالي أن نَفقد هويَّتنا وتذهب ثقافتنا ولغتنا وتراثنا وكل ما نملك، التميُّز لا يعني القضاء على الآخرين، ولكنَّه يعني الحفاظ على الذَّات من أن تُبتلَعَ من قِبل الآخرين، نحن لا بدَّ أن نتميَّز لأننا أصحاب رسالة ربَّانية، مأمورون أن نبلِّغها للناس: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]، فالخيريَّة نِلناها بهذه الأركان الثَّلاثة العظام: الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، والإيمان بالله تعالى؛ هذا ما يميِّزنا عن الآخرين، فضياع هذه الأركان الثلاثة هو ضياع لتميُّزنا وخصوصيتنا، وبالتالي طمس لهويتنا.

ثانيًا
: في هذا الصِّراع العقدي علينا أن نركِّز على مصادر التلقِّي التي نتلقى منها عقائدنا وفكرنا، فوحدة مصدر التلقِّي سبب مهمٌّ لتوحيد الأمَّة، كما تحقَّق في صدرها الأول، فلا يمكن أن تتطابَق مصادر التلقِّي لدى المسلم السنِّي والصفوي، أو لدى المسلم والكافر، لا يمكن بحال، وبقَدر العناية بمصدر التلقِّي والحرص على أن تكون المصادر صحيحةً، بقدر ما تكون الهويَّة متميزة صافية نقيَّة.

فالشارع الحكيم أمَر بمجانبة سبيل المشركين كله، وحذَّر من الوقوع فيما وقعوا فيه، وفي التشبُّه بشيء من أحوالهم ما قد يُفضي إلى اتِّباع سبيلهم والركون والميل إليهم.

ثالثًا
: علينا ألَّا نخشى من هذا الصِّراع، فالأمَّة المسلمة مَعصومة من الذوبان، فهي لن تقع في خطر الذَّوبان أو الانمحاق في الهويات الأخرى على وَجه مطلق، فالله تعالى يقول: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33].

قد تضعف الهويَّة الإسلاميَّة لدى بعض المجتمعات دون بعضها الآخر، ولكن أن تذوب الهوية؛ فهذا لا، ولم، ولن يكون؛ لأنَّ هذا الدِّين محفوظ بحفظ الله، وقد تكفَّل الله به
.

لذا من المهمِّ جدًّا ألَّا ننكسر من الداخل؛ فنحن الأعلَوْن، الأعلون منهجًا وفكرًا وإرادة؛ ﴿
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]

وختامًا
: لا يمكن أن نواجِه هذه التحديات ونحن متفرِّقون متشتتون؛ فإنَّ من أسباب ذوبان الهوية، ذهاب القوَّة، ووجود الفُرقة والاختلاف، والله يقول: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الأنفال: 46]، فنهى الله جلَّ وعلا المؤمنين عن التنازع، مبيِّنًا أنَّه سبب الفشَل، ونهى عن الفُرقة: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بالجماعة؛ فإنَّما يأكل الذِّئب من الغنَم القاصية))، وذهاب القوة يؤدِّي إلى ضعف الهويَّة، فالمطلب في هذا العصر هو مزيد من التكاتُف والاتحاد؛ كي يَمنحنا ذلك قوَّة، فتنعكس على اعتزازنا بهويَّتنا.

وصلى الله على نبينا محمد

 

مبارك عامر بقنه

  • مقالات شرعية
  • مقالات تربوية
  • مقالات فكرية
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية