اطبع هذه الصفحة


كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً
خطبة الجمعة في بغداد
/17/6/2010م-6/رجب/1431هــ

مثنى علوان الزيدي


الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده ويدفع عنا بلاءه ونقمه ،حمدا كثيرا طيبا مباركا ،ملء السموات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد ،واشهد أن لا اله إلا الله وحده لاشريك له واشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أما بعد:

نقف اليوم عند سورة الحشر، مع كنز من كنوزها، هي آية من آياتها، وهي التي تأتي تباعا بعد السورة التي أفرغنا من الكلام عنها وهي المجادلة لنحلق اليوم في سماء التي تليها.

يقول الله جل جلاله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر : 7 - 9]

والفيء هنا هو ما يأخذه المسلمون من العدو دون قتال، واشتباك، أو ما تركوه هزيمة قبل القتال .

وهنا يأتي الأمر الإلهي بتوزيعه على هؤلاء المهاجرين الذين ذكروا في الآية الكريمة التي تليها ،وكل ذلك من اجل أمر مهم وهو (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ) ، وكأنه تعالى يعلن أن ذلك لا يمكن إلغاء تكدس الأموال في يد فئة قليلة من الناس إلا بإعطاء الفقراء المستحقين ، والإيثار في ذلك، وهذا هو الذي أتى في نهاية الآيات في قوله عز وجل (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) ، والخصاصة هي الفاقة والحاجة.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى : (هذا المقام أعلى من حال الذين وصفهم الله بقوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } [الإنسان:8]، وقوله: { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى } [البقرة:177] ... إلى آخره، فهاتان الآيتان دلتا على أنهم يحبون ما تصدقوا به، وكقوله: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران:92]، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، فهم يحبونه لكنهم غير محتاجين إليه، وليسوا في حالة اضطرار ولا فقر ولا عَوز، وأما هؤلاء المذكورون هنا في هذه الآية فإنهم آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وشدة الحاجة، فهم بلا شك يحبون هذا المال، لكن يزيدون على المذكورين في الآيات الأولى بأنهم محتاجون إلى هذا المال، فقد آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوا).

وكان نبينا صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى في تطبيق كلام المولى ، فقد جاء في الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نوَّمي الصبية، وأطفئي السراج، وقربي للضيف ما عندك، فنزلت هذه الآية: (( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ))) وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح، وخرجه مسلم أيضاً. وخرج أيضاً عن أبي هريرة رضي عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود - أي: متعب من شدة الجوع والفقر- فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق! ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق! ما عندي إلا ماء، فقال: من يضيف هذا الليلة رحمه الله، فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله! فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني، قال: فعلليهم بشيء -أي: أشغليهم ووليهم عن الجوع بشيء آخر-، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل -لأن الطعام لا يكفي الثلاثة- قال: فقعدوا وأكل الضيف، فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم، قد عجب الله عز وجل من صنيعكما بضيفكما الليلة).

وكان يعلم الصحابة ويحذرهم من الشح ، والشح هو البخل مع الحرص ، وقيل هو الأخذ بظلم ، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفحش؛ فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشح؛ فإنه أهلك من قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا). وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً) .

ومن الذين ساروا على درب التنزيل ، صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأتباعه وكل من سار على دربه ، ويا له من درب ،درب الفلاح.

فهذا الصديق رضي الله تعالى عنه تصدق بجميع ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك؟ فقال رضي الله تعالى عنه: أبقيت لهم الله ورسوله).
فيا لهم من جيل للقران مطبقين ، وللسنة متبعين .

وليس الإيثار بالمال فقط ، بل الإيثار بالنفس أعلى وأسمى ، يقول القرطبي رحمه الله تعالى: والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس .
يقول ابو الوليد:

تجود بالنفس إذ أنت الضنين بها --- والجود بالنفس أقصى غاية الجود

وفي الصحيح: (إن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد) أي: أنه جعل جسده مثل الترس أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى إذا جاء سهم أصابه هو وبخا الرسول عليه السلام. يقول: ففي الصحيح: (أن أبا طلحة رضي الله عنه ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم، فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله! لا يصيبونك، نحري دون نحرك، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت يده رضي الله تعالى عنه).

وهذا حذيفة العدوي يقول : انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من الماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته فإذا أنا به، فقلت له: أسقك؟ فأشار برأسه: أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه.. آه، فأشار إلي ابن عمي: أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فأشار: أن نعم، فسمع آخر يقول: آه.. آه، فأشار هشام : أن انطلق إليه، فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.

وقال أبو يزيد البسطامي : ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم علينا حاجاً، فقال لي: يا أبا يزيد ! ما حد الزهد عندكم؟ فقلت: إن وجدنا أكلنا وإن فقدنا صبرنا، فقال: هكذا كلاب بلخ عندنا، أي: ما هو الفرق؟ فقلت: وما حد الزهد عندكم؟ قال: إن فقدنا شكرنا، وإن وجدنا آثرنا.

ووالله لو سار الناس على هدى القران ما بقي مظلوما ولو ساروا الأغنياء على هذا ما تركوا فقيرا وما بقي المال دولة بين الأغنياء ،وهاك مثالا واحدا.

74% - 79% يتوزعون في أمريكا (ام الاقتصاد) كما يزعمون ، على الطبقات العاملة الثلاث –العمال اليدويون- عمال يدويون مهرة- أصحاب الفكر من المثقفين – الموظفون الكبار أصحاب الأفواه .

21%-24% يشكلون جزء من الطبقة الثالثة مع الطبقة الرابعة.

1% فقط هم الذين يسيطرون على كل شيء بما فيهم الطبقات الثلاث.

فعلا إنها دولة داخل دولة ، فهذا مصير من ابتعدوا عن دينه تعالى ووافقهم الآخرون على ذلك ، اما من سار على كتاب فلايكون الا عيش الاطمئنان وهو من ثوابت اهل الايمان .

 

مثنى علوان الزيدي
  • مقالات
  • الفقه الميسر
  • صوتيات
  • كتب
  • تراجم
  • لقاءات
  • خطب
  • محاضرات
  • الصفحة الرئيسية