اطبع هذه الصفحة


سلسلة اركان الايمان (6) الإيمان بالقدر خيره وشره

مثنى الزيدي


ان الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا ، من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له، واشهد ان محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }آل عمران102.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }النساء1.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً{70}يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً{71}} الاحزاب70-71.
أما بعـد: أيها الأحبة الكرام.
تكلمنا في الجمعة الماضية مع حضراتكم عن الركن الخامس من اركان الايمان ، واما اليوم فسنقف – ان شاء الله - عند الركن السادس والاخير من هذه الاركان العظيمة ألا وهو "الايمان بالقدر خيره وشره".
وكما تعودنا مع حضراتكم فان حديثنا اذا كان مهما وحساسا فاننا ندرجه ضمن محاور مختلفة علَّنا نخرج من هذه الكلمات بذنب مغفور ، وعيب مستور ، وعقيدة صافية.
التعريف بالقضاء والقدر وما الفرق بينهما؟
فأوَّلُّ ما يجب على المؤمن معرفته من القضاء والقدر هو معرفةُ ماهية كل واحد منهما ، وما هو تعريفُه.
فالقضاء: ايجاد الـله تعالى الاشـياء حسب علمـه وارادته.
والقدر: هو علم الله بما ستكون عليه المخلوقات في المستقبل.
وهذا تعريف من تعريفات كثيرة عرّفها العلماء .
فالامام احمد رحمه الله عرَّف القدر بتعريف مختصر مجمل فقال: القدر هو قدرة الله ([1]).

   حتى قال ابن القيم في نونيته:

فحقيقة القدر الذي حار الورى  ---  في شأنه هو قدرة الرحمن
فشــفى القلـوب بلفــظة    ---   ذات اختصار وهي ذات بيان

ولكن الاقرب –والله اعلم- في تعريف القضاء هو علم الله المسبق بالاشياء وكتابته لها ، واما القدر فهو وقوع هذ الاشياء وحصولها كما كتب الله تعالى.
وهذا ما دلت عليه ايات كثيرة من القران الكريم واحاديث صحيحة من سنة النبي  صلى الله عليه وسلم  ، فقال تعالى : {مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }مريم35 ، فالقضاء كما هو واضح من الاية الكريمة هو ماسبق القدر ووقوعه ، وقال تعالى : {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ }الأنفال44، فقضاء الله تعالى هو علمه المسبق بالاشياء وكتابته لها .
وقال تعالى في الايات التي تقرر ان القدر هو قدرة الرحمن الواقعة ، {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ }الحجر21 ، فذكر تعالى هنا ان القدر المسبق عند الله تعالى وفي علمه انما هو مصاحب لنزوله ووقوعه ، وغيرها من الايات التي تدل على ان هذه التعاريف وغيرها مما عرفه علماء السلف الصالح كلها صحيحة متقاربة والله تعالى اعلم.

اهل المعاصي والقدر:
وان اهل الايمان الصحيح والعقيدة السليمة هم وسط في كل الامور ، فعلى المؤمن ان يؤمن بالقدر خيره وشره ، بهذا يكون من اهل الايمان، واما من كفر بذلك او انكر القدر او القضاء ، واعترض على الله تعالى فانه خارج من ملة الاسلام .
وهذه هي عقيدة المؤمن الصالح ، وهم وسط بين المُغالين في القدر ، فاهل المعاصي والموبقات ، يحتجون بالقدر في تبرير معاصيهم ومنكراتهم ، فساء فعلهم هذا ، اذ تشبهوا بالكفار من قبلهم ، الذين كانوا يحتجون بالقدر في كفرهم ، وخاطبنا الله تعالى معلنا ذاك في قرآنه فقال : {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ }الأنعام148.

فقالوا (لو شاء الله) ، اي ان كفرنا ليس منا وانما بمشيئة الله وارادته ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، لكن الله تعالى فجأهم بالرد في الاية الكريمة، ردا صارما وصارخا ، محتويا على امرين مهمين :
الاول : ان الله تعالى ذكر البأس والعقاب لمن قال هذا ، فلو لم يكونوا مخيرين لماذا انزل الله باسه عليهم وعاقبهم.
ثانيا: ان المحتج بالقدر متقول على الله بغير علم ومدعٍ لعلم الغيب ، لان قدر الله غيب لا يعلمه الا الله فكيف يقول ان الله اراد هذا وهذا ؟ مع العلم بان المأمور به هو تنفيذ امر الله والسعي لطاعته وطلب ثوابه ورضاه .
واليوم تجد اهل المعصية يحتجون بالقدر على معصيتهم ، فتكلم الواحد منهم على الصلاة على الطاعة على الخير على الهداية فيجيبك ان الله لا يريد لي الهداية ، ولو اراد لي الهداية لهداني ، قال تعالى : {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }الأعراف28 ، فهذا مثل قولهم ، فكيف يقول احدهم (والله امرنا بها) هل علم الغيب ؟ ام هي مبررات صاغها الشيطان فغمسها في قلوبهم ، وهل أهْوَنُ قلبا للشيطان من قلوبهم؟
وللبعد من التقول على الله بحجة القضاء والقدر كرهت الشريعة الاسلامية البحث في القدر لانها من الامور التي لايدرك العقل حقيقتها .
فقد روى الامام الترمذي ان النبي  صلى الله عليه وسلم  غضب غضباً شديداً عندما خرج على أصحابه يوماً وهم يتنازعون في القدر، حتى احمرَّ وجهه ،حتى كأنما فُقئ في وجنتيه الرمان ، فقال :" أبهذا أمرتم ، أم بهذا أرسلت إليكم ؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر ، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه ".
واستجاب الصحابة رضوان الله عليهم لعزيمة نبيهم وتوجيهه ، فلم يُعرف عن أحد منهم أنه نازع في القدر في حياة الرسول  صلى الله عليه وسلم  أو بعد وفاته ([2]).
ولما سئل الامام علي t عن القدر فقال : بحر عميق فلا تلجه ، ثم سأله مرة اخرى فقال : طريق مظلم فلا تسلكه ، ثم سأله مرة اخرى فقال : سر الله فلا تكلفه.
بل شدد الامام الطحاوي في هذه المسألة ايما تشديد فقال : العلم علمان ، علم في الخلق موجود وعلم في الخلق مفقود ، فانكار العلم الموجود كفر ، وادعاء العلم المفقود كفر ، ولا يثبت الايمان الا بقبول العلم الموجود ، وترك طلب العلم المفقود.
الاسباب والقدر :
ومن الذين غالوا في القدر ، هم المتواكلون الذين يقولون ان اعمالنا كلها مقدرة ، ولاحاجة لنا بالقدر .
واما المؤمن فيعلم انه مأمور بالاخذ بالاسباب مع التوكل على الله تعالى ، والايات في الاخذ بالاسباب كثيرة ، كذلك الاحاديث النبوية ، وحتى افعال الصحابة، فهذا أبو عبيدة عامر بن الجراح t اعترض على رجوع عمر بالناس عن دخول الشام عندما انتشر بها الطاعون ، وقال لعمر بن الخطاب : " يا أمير المؤمنين أفراراً من قدر الله "؟
فقال عمر : " لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيت إن كان لك إبل هبطت وادياً له عدوتان إحداهما خصيبة ، والأخرى جدبة ، أليس إن رعيت الخصبة بقدر الله ، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدرة الله " صحيح البخاري.
ولما سئل نبينا  صلى الله عليه وسلم  عن الرقى والادوية هل ترد من قدر الله شيئا ؟ فأخبرهم انها من قدر الله ، فترك الاخذ بالاسباب قدح في الشريعة .
فالنبي  صلى الله عليه وسلم  ما خرج مهاجرا خوفا من القتل ، لان الله قال له {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }المائدة67 ، فاعلمه بعصمته من كل مكروه وسوء ، لكن هجرته اثبات لامته وتعليم لها بالاخذ بالاسباب وانها جزء من الدين .
فكيف ينافي الاخذ بالاسباب الايمان بالقضاء والقدر ؟ فكما ان الايمان بالقدر مامور به ، فالاخذ بالاسباب مأمور به كذلك ، بل هو من قدر الله عز وجل   ، وهذا ما كان نبينا وحبيبنا يعلمه اصحابه ، لئلا يتكلوا ، حيث روى مسلم في صحيحه عن علي t قال : " كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتانا رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فقعد وقعدنا حوله ، ومعه مِخْصَرةٌ – عصا صغيرة - فنكّس – خفض رأسه - فجعل ينكث بمخصرته ، ثم قال : " ما منكم من أحد ، ما من نفس منفوسة ، إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار ، وإلا قد كتبت شقيّه أو سعيدة " ، قال : فقال رجل : يا رسول الله ، أفلا نمكث على كتابنا ، وندع العمل ؟ فقال : " من كان من أهل السعادة ، فسيصير إلى عمل أهل السعادة ، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة "فقال: " اعملوا فكل ميسر ،أمّا أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأمّا أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة "، ثم قرأ : ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى )الليل: 5-10.
اقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم انه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين وبعد:
ايها الاحبة الكرام: ان للعقيدة عموما والايمان بالقدر خصوصا اثر في حياة المسلم ، فان الايمان بهذا الركن العظيم يسبغ على النفس السكينة والطمأنينة فتورث الشجاعة ، فلا تخشى اذ ذاك الا الله تعالى ، ولسان حاله يقول :

اي يوميَّ من الموت افر   ---   يوم لا قــدِّر او يوم قُدِر
يوم لا قدِّر لا ارهبــه  ---    ومن المقدور لا ينجو الحذِر

فهل يخشى من هذا حاله وذاك لسانه؟
وعندما اورثت هذه النفس الساكنة شجاعة صاحبها ، فهي تزيد عليها بالرضى ، فهل تجد هماً لمن رَضي؟ ولهذا اخبر المصطفى  صلى الله عليه وسلم  فقال : عجبا لامر المؤمن ان امره كله خير ان اصابته سرَّاء شكر فكان خيرا له وان اصابته ضرَّاء صبر فكان خيرا له.
وهذا كله لا يتحقق الا بعد ان يعلم المؤمن ان الايمان انما هو تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالاركان .
اللهم اجعلنا من المؤمنين بك المتوكلين عليك ، الراضين بقضائك ، المؤمنين بقدرك ، الداعين لدينك ، الشاكرين لنعمك ، انك على كل شيء قدير ، واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
 

----------------------
[1] - مجموع الفتاوى 8/308.
[2] - العقيدة على ضوء الكتاب والسنة لعمر بن سليمان لاشقر.



 سلسلة اركان الايمان 6 الشيـخ مثــنى الزيدي 13/ذو الحجة 1431هـ/ بغداد

 

مثنى علوان الزيدي
  • مقالات
  • الفقه الميسر
  • صوتيات
  • كتب
  • تراجم
  • لقاءات
  • خطب
  • محاضرات
  • الصفحة الرئيسية