اطبع هذه الصفحة


الهجرة وأُسس إختيار الأفراد فيها

مثنى علوان الزيدي


الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله أجمعين ومن اهتدى بهديه وسار على دربه إلى يوم الدين أما بعد:
فمن المعلوم ان أي بيت يبنى لا بد له من اساس يحفر ليدلَّ على عمق قوة هذا الاساس حتى يرتفع البنيان ويعلو غير ابه بالتغيرات المناخية التي تطرا عليه وما ذاك الا لقوة اساسه ومتانة بنائه وقد تصاحب عملية التاسيس والبناء الات للحفر واخرى لخبط المواد الانشائية فهي تساهم في اتمام عملية البناء والتاسيس لكن يتخلى عنها لاحقا اذ لا تمثل النواة الحقيقية للتاسيس انما هي عوامل مساعدة في هذه المرحلة.
وكذا كانت الهجرة النبوية أساسا لبناء الدولة الاسلامية هذه الهجرة التي قادها واسس بناءها رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من الله تعالى ومن اهم عوامل انجاح الهجرة بعد معونة الله عز وجل هو الاختيار الصحيح للافراد الذين سيقومون بحماية مشروع الهجرة .
فمن الافراد من كان أساسا للبناء وجزءً لا يتجزء منه كابي بكر وعلي رضي الله عنهما ومنهم من كان وجوده كوجود الات البناء التي لا تدخل في اساسه كعبد الله بن اريقط دليل الصحراء وكان رجلا مشركا ، فاصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا هم حجر الاساس لخريطة الهجرة ومهمة العبور من مكة الى المدينة ، يقول ابن مسعود : "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ , وَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِهِ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِهِ ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ ، فَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّه حَسَنٌ ، وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ " .

فتطلب الأمر من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعطي لكل فرد من افراد الهجرة دوره المناسب على أسس رصينة من الكفاءة والامانة والقوة والشجاعة والاقدام.
فأولهم الصديق ( رضي الله عنه ): رفيق النبي وصاحبه في الهجرة أختاره النبي لصحبته من بين كل الصحابة، قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: (كان لا يخطئ رسول الله أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار إما بكرة وإما عشية حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالهجرة والخروج من مكة بين ظهراني قومه أتانا رسول الله بالهاجرة . (3).
فلما دخل تأخر أبو بكر عن سريره.. فقال رسول الله له أخرِجْ عني مَنْ عندك ( فقال يا رسول الله وما ذاك فقال إنه قد أذن لي بالخروج والهجرة قالت فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله؟ قال: الصحبة قالت فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت ابا بكر يبكي يومئذ ) (4) .
فأختار أبا بكر لأنه أقرب شخص للنبي وأحبه له يحمل قلباً رحيماً وطاعة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في منشطه ومكرهه.
وأما علي ( رضي الله عنه ) فقد أختاره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليبيت مكانه في فراشه، وكان ( رضي الله عنه ). صاحب قوة وصلابة وجأش، لا يخيفه مكرهم، ولا يزعزعه تجمعهم، وكان مستعداً للتضحية، لا يستطيع أحد إيذاءه لأن أباه هو أبو طالب سيدهم وكبيرهم فلو لم يصلح لهذه المهمة لأختار بدلاً عنه آخرَ لكن لكل مهمة رجالٌ ولكل مقام مقال.
وكان الرجل الثالث هو عبد الله بن أبي بكر يبات عندهما فيدلج منهما بسحر فيصبح في قريش كأنه بائت، وقد أختير لهذه المهمة وهي أنه إن سمع أمراً يكتادان به يعيه فيأتيهما بخبره ليلاً و سبب أختياره أنه ذو أمانة وثقة وهو شاب مستطيع ، لَقِنٌ - فاهمٌ لما سمعه ثقف – أي ذو فطنة وذكاء- .
أما الرجل الرابع فهو عامر بن فهيرة وهو مولى أبي بكر وكان يرعى عليها فيبيتان في رسل حتى ينعق (أي يصيح) بها في غلس (ظلمة آخر الليل) فعل ذلك في كل ليلة من الليالي الثلاث وهم في الطريق.
أما الرجل الآخر فهو عبد الله بن أريقط وهو رجل مشرك من بني الديل، لكن النبي أنتفع منه وأستأجره ليدله على الطريق، لماذا ؟ لأنه كان خبيراً بطرق الصحراء، لم يستأجره لأنه مشرك أو لسبب آخر إنما أستأجره لأن مصلحة الدعوة متحققة في هذا وللمفسدة المنتفية في دفع الأذى عن المؤمنين والمهاجرين . فضلاً عن الاحترام الواضح من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأهل الإختصاص وفعلاً سلك بهما طريقاً غير معهودة ليخفى أمرهما عمن يلحق بهم من كفار قريش.
وأما أسماء فلا بد أن نعرف أن للنساء دوراً عظيماً في نصرة الدعوة وأمامها عليه الصلاة والسلام فكانت حاملة التموين من مكة إلى الغار وسط جنون المشركين بحثاً عن محمد (صلى الله عليه وسلم) ليقتلوه.
ويلاحظ أن هذه الشخصيات تترابط كلها برباط العمل الواحد تجمعهم صفة الامانة المتحققة في كل واحد منهم لتحقيق الهدف المنشود وهو وصول امام الدعوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة بسلام فهي اختيارات مرحلية للدعوة وكأنّ اختيارات الهجرة اسست عليها اختيارات الصحابة فيما بعد فاختير الصديق الخليفة الاول بعد وفاة الرسول اذ كان الرجل الثاني في الهجرة فاصبح الرجل الاول بعد وفاة رسول الهجرة عليه الصلاة والسلام.
ثم لمسنا وضع كل فرد من أفراد هذه الهجرة في عمله المناسب ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته، فما بالك بمن يتسلم مسؤولية الشعب في رئاسة أو تمثيل أو خدمة؟! الأحرى بهؤلاء ومن يرشحهم أن يكونوا على قدر المسؤولية فإنها أمانة وإنها خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها. (5) فهذا تدبير للأمور على نحو رائع بأسلوب حكيم، وضع كل شخص في مكانه المناسب وتغطية بديعة لكل مراحل الحاجة في رحلة الهجرة وإقتصار على العدد اللازم وبدون زيادة ولا نقصان، دون مراعاة للقرابة والنسب والمصالح الشخصية فهذه هي أبرز أسس أختيار الأفراد في حمل الرسالة.

الهوامش:
1. الرواية ذكرها الرازي في تفسيره الكبير (سورة القارعة).
2. رواه البخاري ومسلم باب كيف بدء الوح.
3. الهاجرة : نصف النهار عند زوال الشمس إلى العصر.
4. السيرة النبوية لأبن كثير (2/233 – 234).
5. أخرجه البخاري ومسلم عن إبن عباس رضي الله عنه . باب الإمارة

 

مثنى علوان الزيدي
  • مقالات
  • الفقه الميسر
  • صوتيات
  • كتب
  • تراجم
  • لقاءات
  • خطب
  • محاضرات
  • الصفحة الرئيسية