اطبع هذه الصفحة


إخوانُ النَّبيِّ "صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم"

مثنى علوان الزيدي


بسم الله الرحمن الرحيم


في لحظةٍ نبويةٍ وروحيةٍ متلألأةٍ في السماء ارتفاعاً، وفي القلب صدقاً، وفي الروح صفاءً، أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من قلبه الشريف كلمات عظيمة، يغفل الكثير عن روحها والوقوف متأملاً أمامها.
كان النبي صلى الله عليه وسلم زائراً المقابر، زيارة لاتحوي في حقيقتها على مطمع، ولا شبهة بمطمع؛ لانك تزورُ أمواتاً، تآكلت بالدود أجسامهم، وبقيت في عليين أرواحهم، وفي القبر نعيمهم، أو عذابهم، ولقد توصلتُ إلى حقيقة وهي أنَّ أعظم الشعور وأصدقه مع محبك يوم زيارته ميتاً لا ينفع ولا يضر، تزوره وهو في القبر، لا ينفعك، ولا يشكرك، ولا يثني على زيارتك، ولن يردها لك مرة أُخرى.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم زائراً المقابر، الزيارة التي تحاكي القلوب من غير موعظة، ولقد رأيتُ أن أعظم زيارة تهزُّ القلوب، وتغير الحال، وتصلح الضمائر، هي زيارة المقابر، مساكن الأموات.
يروي لنا رفيق النبي ابو هريرة رضي الله عنه ذلك الموقف، أَن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَقْبُرَةَ، فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا، قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ، فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلاَ يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ أَلاَ لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ أُنَادِيهِمْ أَلاَ هَلُمَّ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا(1).
فهذه الكلمات خرجت في أروع حالات الشوق، رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتاق لكل من لم يره، اشتاق لك أيها القاريء، وقد اشتاق لاموات المسلمين الذين سبقونا، ما عدا الصحابة فهم أصحابه وقد عاش معهم، أما الاشتياق فكان للذين لقَّبهم بقوله "إخواننا".
فالاُّخوة المذكورة هنا وصفٌ للذين سيأتون بعد ولَقَبٌ لهُم، وليس المراد بها اخوة الايمان كُلها، لما جاء من تخصيصين اثنين في قول رسول الله: "انتم اصحابي" وقوله: "الذين لم يأتو بعد"، ورأي ابن عبد البر كهذا.
ومن الروايات التي تُعتبر قرائن لمَقصد الاخوَّة الذي ذكرته آنفاً، ما َرَوَى أَبُو عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ مَنْ آمَنَ بِكَ وَلَمْ يَرَكَ وَصَدَّقَكَ وَلَمْ يَرَكَ؟ فَقَالَ: عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ: أُولَئِكَ إِخْوَانُنَا أُولَئِكَ مَعَنَا طُوبَى لَهُمْ طُوبَى لَهُمْ"، وعن ابن عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِجُلَسَائِهِ يَوْمًا أَيُّ النَّاسِ أَعْجَبُ إِيمَانًا قَالُوا الْمَلَائِكَةُ قَالَ وَكَيْفَ لَا تُؤْمِنُ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَمْرُ فَوْقَهُمْ يَرَوْنَهُ قَالُوا الْأَنْبِيَاءُ قَالَ وَكَيْفَ لَا يُؤْمِنُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَمْرُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً قَالُوا فَنَحْنُ قَالَ وَكَيْفَ لَا تُؤْمِنُونَ وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ مَا تَرَوْنَ ثُمَّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعْجَبُ النَّاسِ إِيمَانًا قَوْمٌ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي أُولَئِكَ إِخْوَانِي حَقًّا"(2).
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعضاً من صفات اخوانه في مجموع الروايات ومنها:
لم يأتوا بعد، أي: يأتون بعد عصر النبوة والصحبة، وغُراً محجلين من الوضوء، والغُرُّ: بياضٌ في الوجه، والتحجيل: بياضٌ في اليدين والرجلين من أثر الوضوء، وأنهم الذين لم يُبدلوا، آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدَّقوه.
ومعنى التبديل عن الايمان: تغييرُ السُّنَّة، والرِّدَّةُ عن الايمان.
فكأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يُشيرُ بحديثه، ويُلفت النَّظر، الى أميَزِ صفاتهم التي ذكرها، في اعتقادهم، وأعمالهم، وزمانهم، وكأنه يدعو كلَّ مَنْ يُريدُ أن يكون الاخ الذي شُمل باشتياق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومروره في مخيلة النبي صلى الله عليه وسلم.
والوضوء عبادة مميزة، تميزت بها امة النبي صلى الله عليه وسلم لا محالة، فإما انها تميزت بالوضوء وان الامم لم تكن تتوضأ كوضوئنا، واما انها تميزت بأنها تتوضأ كوضوء الانبياء وان الامم الاخرى لا تتوضأ كوضوء انبيائها، فهو مخصوص بهم، أو ان امة محمد بورك لها في وضوئها تشريفا للنبي صلى الله عليه وسلم وتكريما له، كل هذا واردٌ.
والوضوء مفتاح خير العبادات واعظم الطاعات وهي الصلاة، والتارك للصلاة محروم من الوضوء، ومحروم من الغرة والتحجيل، ميزة امة محمد، ومحروم من الشمول في القول النبوي. وهذه العبادة "الصلاة" هي الملازمة للايمان والتصديق، آمن بك وصدَّقك، وكل ما يتعلق بالصلاة من حيث الشروط كالوضوء متعلق بالايمان والتصديق.
وهذا يستلزم عدم التبديل والتغيير اذا استمكن الايمان، واختاره المسلم ديناً، فإ ذا اختار الاسلام دينا فصفات اخوان النبي صلى الله عليه وسلم عدم التبدُّل والالتزام بسنته.
والالتزام بالسنة النبوية وعدم التغيير فيها والتبديل، هو حقيقة الالتزام، وان التبديل والتغيير ابتداع وليس اتباع، وهذا ما يجعل المسلم يتساءل هل أنا أخو النبي؟ هل أنا المشمول باخوة الحبيب؟ وهل اشتاق اليَّ أنا؟ أم أنهم غيري إخوانه الذين اشتاق لهم؟.
ان قول الله تعالى سَبَقَ قول النبي واشارته لحقيقة الالتزام، فقال تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} [الحشر : 7] هذه حقيقة الالتزام.
ولكنَّ النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف الروحاني لم يجعل التكلم عن حقيقة الإلتزام تخويفاً وانذاراً، وانما اختار الترغيب وإعطاء الفرصة لاختيار اخوَّتك للنبي صلى الله عليه وسلم بفعلك وإرادتك طمعاً منك وشوقاً.
ومن لم يُسدل على نفسه باعتقاده وعمله صفات الاخوان التي اشار لها النبي صلى الله عليه وسلم إسدالاً كاملاً وقائماً على طريقة النبوة، فهو ليس أَخا النبي محمد صلى الله عليه وسلم وسيُذاد من حوضه.
والذود: هو المنع والطرد، تقول: ذاد عن أخيه، أي: منع عنه عدوه وقاتله، كل هذا مُتعرِّضٌ له كل نازع ستائر الطاعة، المستبدل لها بالمعصية.
والملفت للانتباه أنهم كانوا مع جماعة الغرِّ المحجلين وسوادهم، ولم يُمايَزوا حتى وصلوا الى الحوض فميَّزتهم الملائكة وأطردتهم، معنى هذا انهم كانوا يتوضؤون، ومعنى أنهم يتوضؤون أنهم كانوا يصلون، ومع هذا لم تكن صلاتهم كافية بسبب ابتداعهم وخفة التزامهم، إلا ببقايا من ظواهر الاسلام وشعائره التي لا تكفي الا بالايمان الذي يكمِّله.
ودليلُ أنها لا تكفي الا بالايمان هو ادعاء الاعراب الايمان بالله تعالى، فقصَّ لنا اللهُ بم أجابهم فقال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات : 14 - 15] .
فنجد أن الدِّين لايقف عند حدود الشعائر الظاهرة بالاسلام وهي الشهادة والصلاة والصيام والحج والزكاة، وإنما يكمل بالايمان ومحلُّ الايمان هو القلب، وهذا هو المحور الذي تلتفُّ حوله اعمال التدين، وهو الاصل الذي يبنى عليه فساد العمل أو صلاحه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"، لانَّ القلب هو لبُّ السرائر.
ويرسخ النبيُّ هذا المفهوم وأنَّ الحقيقة في إتمام التدين هي البواطن، بطريقة تربوية وتصويرية فريدة، تجعل أي سامع لكلماتها يرتعد اتعاداً، فيقول: "أول من تسعَّر بهم النار ثلاثةٌ"، أول من تحمى وتُهيأ بهم نار جهنم ثلاثة، وهم: " قاريٌ، ومنفقٌ، ومجاهدٌ"، وذكر السبب : "قرأ ليُقال قاريء، وانفق ليُقال جواد، وجاهد ليُقال شجاع، وقد قيل" أنهم فعلوا ذلك وراءوا بافعالهم.
ولو استعرضت حياة القاريء وخصوصاً في الازمنة الماضية التي لا يوصف فيها القاريء بذلك الا بشروط، وليس اليوم الذي بمجرد أن يوهب صوتاً جميلاً يسمى قاريٌ أو مقريٌ، ولو استعرضت حياة المجاهد، أو المتصدق، لرأيت حياتهم حافلة بالعمل لله تعالى، وأنهم يقدمون اغلى ما امتكلوا، فأحدهم بالنفس والروح الغالية، وثانيهم بالمال الذي استحصله بشق الانفس، والقاريء بالتعلق بكتاب الله قرأءة وفهماً وتدبراً وتفسيراً وإقراءا، ولا يتخيل متخيلٌ ان هؤلاء لا يُصلون ويصومون ويحجون ويزكون ويشهدون ان لا اله الا الله، فمن بلغ مبلغهم لاشك قد كانت اركان الاسلام اول سبيله، إلا أنَّ جهنم تُسعَّر بنماذج منهم، لانهم ما راعوا بواطن الايمان، ولم يسيطروا على نياتهم، وراءوا بعملهم غير الله تعالى، ولم يكن الاخلاص مساوقاً لاعمالهم ولو كانت اجل جلائل الاعمال.
فاذا كان مباعد الاخلاص سعير جهنم، فمن ذيد عن حوض النبي اهون، وكلاهما لا يُشملون باخوة النبي صلى الله عليه وسلم، واذا كان حال هؤلاء المرائين هكذا لتركهم الاخلاص في العمل وحسب فما هو حال التارك لدينه المفارق لالتزامه.
فما هو حال المشركة؟ والزانية؟ والمتبرجة؟ والناشزة؟ والساحرة؟ والعارية؟ والكاذبة؟ والسارقة؟ والمغتابة؟ والتاركة للصلاة؟ والصوم؟ والزكاة؟.
وما هو حال المشرك؟ والزاني؟ والكاذب؟ والسارق؟ والآكل للربا؟ والنمام؟ والمنافق؟ والظالم؟ والقاتل؟ وآكل مال اليتيم؟ وشارب الخمر؟ وشاهد الزور؟ والغاش؟ والحاسد؟ والحاقد؟ والتارك للصلاة؟ والصوم؟ والزكاة؟.
فأُخوَّةُ النَّبيِّ تستلزم التزاماً بالشرع، وإن جبال الايام لنراها موقعة كل يوم حصاةً من العمر، نسأل الله ان ييسر لنا بما نقدم شمولاً باخوة المصطفى، وشربة من حوضه الشريف لن نظمأ بعدها ابداً.


الهوامش:
1- صحيح مسلم.
2- الاستذكار، لابن عبد البر.

 

مثنى علوان الزيدي
  • مقالات
  • الفقه الميسر
  • صوتيات
  • كتب
  • تراجم
  • لقاءات
  • خطب
  • محاضرات
  • الصفحة الرئيسية