اطبع هذه الصفحة


نظرة شرعية حول الاختلاط

د. خالد بن عبد الله المزيني

 
لا يخفى أن اختلاط النساء بالرجال في الأماكن المحصورة، كالمساجد والمستشفيات والدوائر الحكومية، مظنة الفتنة، ولذا ورد الشرع بالتحذير من ذلك، وبرسم الضوابط المانعة من وقوع الخطر، ودلالات ذلك كثيرة، منها:

أولاً: الأمر باحتجاب النساء عن الرجال: قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا )) [(53) سورة الأحزاب]، وقال تعالى: (( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ )) [(14) سورة آل عمران].
قال ابن كثير [(1/352)]: " فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد، كما ثبت في الصحيح [خ (4808)، م (2741)] أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء )"اهـ.
وقال صديق حسن خان في: حسن الأسوة (56): " المراد بالناس الجنس، والشهوات جمع شهوة، وهي نزوع النفس إلى ما تريده، وتوقانها إلى الشيء المشتهى، والمراد هنا: المشتهيات، عبر عنها بالشهوات مبالغةً في كونها مرغوباً فيها، أو تحقيراً لها، قوله: (( مِنَ النِّسَاء )): بدأ بهن لكثرة تشوق النفوس إليهن، والاستئناس والالتذاذ بهن "اهـ.

ثانياً: أن منع الاختلاط جاء به الشارع:
معلوم أن النساء كن منعزلات عن الرجال في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا لا يخفى على عارف بالسنة، سواء في محل صلاتهن، أو في دخولهن المسجد، وانصرافهن منه.
بل قد قالت أم سلمة: إن النساء في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كن إذا سلم من المكتوبة قمنَ، وثبت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قام الرجال، قال الزهري: فنرى ـ والله أعلم ـ لكي يبعد من ينصرف من النساء، رواه البخاري.
ولذا فقد صرح ابن قدامة في المغني [(1/328)] بأنه يستحب للإمام أن يثبت في محله بعد السلام من الصلاة، هو والرجال، إذا صلى في المسجد نساء، بقدر ما يرى أن النساء قد انصرفن، ويقمن هن عقيب تسليمه.
قال ابن قدامة: " ولأن الإخلال بذلك من أحدهما يفضي إلى إختلاط الرجال بالنساء،
فإن لم يكن معه نساء فلا يستحب له إطالة الجلوس "[1] اهـ.
وقال النووي: " لأن الاختلاط بهن مظنة الفساد، وسبب للريبة، لأنهن مزيَّنات للناس، مقدمات على كل الشهوات "[2]اهـ.
وكذلك كن ينعزلن في الطواف أيضاً: فعن ابن جريج قال: أخبرني عطاء إذ منع ابنُ هشام النساء الطواف مع الرجال، قال: كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الرجال ؟، قلت: أبعد الحجاب أو قبل ؟، قال: إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب، قلت: كيف يخالطن الرجال ؟، قال: لم يكنَّ يخالطنَ، كانت عائشة ـ رضي الله عنها ـ تطوف حجرةً من الرجال، لا تخالطهم، فقالت امرأةٌ: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين، قالت: عنكِ، وأَبَتْ، وكنَّ يخرجن متنكرات بالليل، فيطفن مع الرجال، ولكنهن كنَّ إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن، وأخرج الرجال[3].
وكذلك في مصلى العيد، فعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: ( شهدت مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئاً على بلال، فأمر بتقوى الله وحث على الطاعة ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن ) رواه مسلم والنسائي، وفي لفظ لمسلم: ( فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن ).
قال الشوكاني في النيل (3/375): " وفيه أيضا تمييز مجلس النساء إذا حضرن مجامع الرجال، لأن الاختلاط ربما كان سبباً للفتنة الناشئة عن النظر أو غيره "اهـ.
وكذلك نهي النساء عن تشييع الجنائز، قال ابن حجر: " ولأن الجنازة لا بد أن يشيعها الرجال، فلو حملها النساء لكان ذلك ذريعة إلى اختلاطهن بالرجال فيفضي إلى الفتنة "[4]اهـ. 
وقد ورد عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه خصص باباً خاصاً للنساء، لا يدخل منه الرجال، وروي مرفوعاً، قال أبو داوود في سننه (1/126): " باب في اعتزال النساء في المساجد عن الرجال، ثم ساق بسنده إلى نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لو تركنا هذا الباب للنساء، قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات، وقال غير عبد الوارث: قال عمر، وهو أصح.
وروى عن نافع أن عمر بن الخطاب كان ينهى أن يدخل من باب النساء.
ولهذا صرح النووي وغيره أن شرط الإذن للمرأة بالخروج إلى المسجد أن لا تختلط بالرجال[5].
كما صرح المالكية بأنه: " يُكره الطواف مع الاختلاط بالنساء "[6]اهـ.

ثالثاً: كونهن يذهبن بلبِّ الحازم: عن ابن عمر قال قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب من إحداكن، قالت امرأة منهن جزلة: وما نقصان العقل والدين ؟، قال: أما نقصان العقل فإن شهادة امرأتين بشهادة رجل، وأما نقصان الدين فإن إحداكن تفطر رمضان وتقيم أياماً لا تصلي )، أخرجه أبو داود.
وفي حديث أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى قوله قال: ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن قلن وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله قال أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ؟، قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها، وقال: أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم، قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دينها )، متفق عليه.

رابعاً: كونهن أضرَّ الفتن: عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء )، أخرجه الشيخان.
وهذا كافٍ في تقرير أصل المسألة.

خامساً: الأمر باتقاء الافتتان بهن: عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( اتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من النساء )، رواه مسلم.
وعن ابن جابر قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم  ـ: ( إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، إذا أحدكم أعجبته امرأة فوقعت في قلبه فليعمد إلى امرأته وليواقعها فإن ذلك رد ما في نفسه )، رواه مسلم.

سادساً: النهي عن الدخول عليهن: عن عقبة بن عامر أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الأنصار أفرأيت الحم قال الحم الموت رواه البخاري ومسلم.
قال ابن القيم في الطرق الحكمية (407): " وقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه النساء من المشي في طريق الرجال، والاختلاط بهم في الطريق، فعلى ولي الأمر أن يقتدي به في ذلك...، ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة...، ولو علم أولياء الأمر ما في ذلك من فساد الدنيا والرعية قبل الدين لكانوا أشد شيء منعا لذلك "اهـ.
والله تعالى أعلم
 
خالد بن عبد الله المزيني
5 ربيع الثاني 1426
 

------------------------------------------
[1]  المغني (1/327)، وقارن بالمجموع (3/452).
[2]  المجموع.
[3]  أخرجه البخاري برقم (1539).
[4]  فتح الباري (3/182).
[5]  فتح الباري (2/349)،
[6]  مواهب الجليل (3/110).


 

د. خالد المزيني
  • خواطر وتأملات في إصلاح البيوت
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية