اطبع هذه الصفحة


الفقه المعاصر صناعةٌ مقننة

د. خالد بن عبد الله المزيني

 
لا يختص الفقه المعاصر بكونه صنعةً، إذ قد استحالت العلوم الشرعية كلها صناعات كما ذكر ابن خلدون، وذلك أن الناس في صدر الإسلام كانوا ذوي قرائح نقية، يسهل عليهم قراءة الدليل وفهمه، واستنباط أحكام الوقائع من مجموع الأدلة، فلم يكونوا بحاجةٍ إلى تدوين قواعد اللغة والأصول والفقه، وغيرها مما يسمى بعلوم الآلة، إذ كان الواحد منهم فقيهاً مطبوعاً، حتى إذا اتسعت رقعة الإسلام، بدخول الناس ـ عرباً وعجَماً ـ فيه أفواجاً، واستعجمت ألسنة القوم باختلاط بعضهم ببعض، واستغلق عليهم كثيرٌ من الفقه، نفرَ طائفةٌ من أهل كل فن إلى تدوين أصوله وقواعده، ضبطاً لأحكامه، ونفياً لما قد يتطرق إليه من خللٍ خارجٍ عن متنه، ومما يشهد لهذا الاستغلاق الذي أشرتُ إليه ما قاله الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ: " كان الفقه قفلاً على أهله حتى فتحه الله بالشافعي "[1].
 
ولذا فلا غرو أن نجد طوائف من المصنفين في الشرعيات يصفون الفقه بالصناعة !
وثمة فرقٌ بين فعلي "صنَعَ " و" فعَلَ "، ولهذا الفارق أثره في هذا المجال، فالفعل لفظٌ عامٌّ، يقال على ما كان بإجادةٍ، وبدونها، و على ما كان من الإنسان والحيوان والجماد، وأما " الصنع " فإنه يكون من الإنسان، دون غيره من الحيوانات والجمادات، ولا يقال إلا لما كان بإجادة، ولهذا يقال للحاذق المجيد، والحاذقة المجيدة: صنَعٌ وصَنَاعٌ، وعليه فالصُّنْعُ أخص وأشرف من مطلق الفعل، ويتبدى من ذلك أن في  الصنع معنى الإبداع، والصنَع والصنَاع يطلقان على المتقن المبدع[2]، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه [3]:

     أهدي لهم مدحي قلبٌ يؤازرُهُ    ***     فيما أحب لسان حائك صنع

وإذ قد ثبت أن الفقه صناعةٌ، لها قواعدها كسائر الصناعات، فإن من القوادح المفسدة لكل صنعة؛ عدم تحرير قواعدها لدى أهلها، أو تجاوز الصانع لتلك القواعد، أو عدم حضور تلك القواعد في نتاجها، وكلما كانت تلك الصناعة أدنى إلى استعمال الناس، وألصق بحياتهم العامة، كلما كانت المفسدة الحاصلة باختلال تلك الصناعة أفدح، فكيف إذا كانت متعلقة بأحكام الشريعة الإلهية، التي " تُدفع بها مظالم الناس، الذين لم تصلحهم الموعظة، وحياطة الدنيا والأبشار والفروج والأموال، والأمن على كل ذلك من التعدي والغلبة، وهذه منفعةٌ عظيمةٌ جليلةٌ، لا بقاءَ لأحد في هذه الدنيا، ولا صلاح لأهلها إلا بها "[4]، لا ريب أن ضبط علمٍ هذا شأنه من أهم المهمات المناطة بأهله. فإذا ما استحضرنا هنا أنه مما يبعث الشجى في الشأن الفقهي المعاصر؛ أن يوجد بعض المتصدرين للفتيا من أهل العصر، قد اختلَّت لديهم القواعد اختلالاً بيناً، يظهر من خلال فتاويهم المتناقضة، حتى إن كل فتيا منها تُحفَظُ على حدة، لشذوذها عن أخواتها، كما يحفظ الأوربيون صور كلمات لغاتهم واحدةً واحدة[5].
 

----------------------------------------
[1]  
[2]  انظر: بحث " الإبداع في الفنون والعلوم "؛ للدكتور عبد الكريم اليافي، مطبوع ضمن بحوث ندوة الثقافة والإبداع، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (2/11،10).
[3]  
[4]  انظر: رسالة التوقيف على شارع النجاة؛ لأبي محمد ابن حزم، مطبوعة ضمن رسائل ابن حزم الأندلسي (3/134).
[5]  تعاني اللغات الأوربية الحديثة من اختلال قواعدها الإملائية، بحيث يلزم من أراد تعلمها أن يحفظ صورة كل كلمة على حدة، بما فيها من حروف تكتب ولا تنطق، أو تنطق بطريقة تخالف شكلها الكتابي، انظر: مذكرات في الإملاء والترقيم والمعاجم؛ للدكتور سميح أبو مغلي وآخر (3)، دار الفكر، عمان، ط أولى، 1984م.
 

د. خالد المزيني
  • خواطر وتأملات في إصلاح البيوت
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية