اطبع هذه الصفحة


استشراف غير المتأصِّل

د. خالد بن عبد الله المزيني

 
لا مشاحَّةَ في أهمية القواعد الأصولية في تكوين الفقيه المعتبر، كما لا إشكال في أن تلك القواعد لا تصنع لدارسها ملكةً فقهيةً ناجزةً، حتى يترقَّى في مدارجها ـ بالدربة والمراس ـ شيئاً فشيئاً، وحتى يُلقِح مطالعته للفروع بما انبنت عليه تلك الفروع من الأصول، فتجتمع له أسباب الفقه بالإشراف على الأصول والفروع، ويتهدَّى إلى تخريج هذه على تلك، وبذا يخرج من دائرة التقليد والتبعية وحكاية الأقوال إلى أُولى درجات الاجتهاد، ثم هؤلاء بعدُ على درجات.
 
و "العياء" الذي يصيب المتفقه ـ "المستشرف" إلى التصدُّر ـ لدى النظر في بعض المسائل؛ كثيراً ما يكون مصدره عدم استحضار قواعد الباب، أو ضمور بعض جوانبها عنده.
 ذُكر عن الزهري ـ رحمه الله ـ أنَّ بريداً من بعض الملوك جاءه يسأله عن رجلٍ معه ما مع المرأة والرجل، كيف يورَّث، فقال: من حيث يخرج الماء الدافق، فقال في ذلك قائلهم:

   ومُهمَّةٍ أعيا القضاةَ عَياؤها  ***  تذَرُ الفقيهَ يشك شك الجاهلِ 
 عجَّلتُ قبل حنيذِها بشوائها  ***    وقطعت محرِدَها بحكمٍ فاصلِ 

ولعل هذا ما كان يرومه الإمام أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ حين قال: " لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعرف من أين قلنا "([1])اهـ، وعبارة بعض أصحابه: "من حفظ الأقاويل ولم يعرف الحجج؛ فلا يحلُّ له أن يفتي فيما اختُلف فيه "([2])اهـ، ومن ثمَّ اشترط جمعٌ من الأصوليين في المفتي ملَكَةَ الاقتدار على استنباطِ أحكام الفروع المتجددة، التي لا نقل فيها عن صاحب المذهب، من الأصول التي مَهَدَها صاحب المذهب([3]).
 
والخلاف الذي حدَث فيما بعدُ حول اشتراط معرفة المفتي مأخذَ إمامه ليس ذا بالٍ هاهنا، فسواءٌ قيل باشتراطه أم لا؛ يبقى أنه من أهم مؤهلات من يتولى خطة الإفتاء، ومن قدر على تحصيل هذه المرتبة ليس كمن لم يقدِر، وأقبح المعايب نقصُ القادرين على التمام، ولهذا نقل أبو المظفر السمعاني ـ رحمه الله ـ، في معرِض ردِّه على مجيزي التقليد، عن بعض أصحابه قوله: " من سهُلَ عليه تناولُ الأدلة، وقرُبت مواضعها من فهمه؛ فهو بمنزلة من حضر العدوَّ، وقرُب موضعه منه، فلا يجوز له الاتكال على غيره في الجهاد "([4])، وإذا كانت آلة الاجتهاد بمنزلة آلة الجهاد كما أفاد السمعاني؛ فإنه يتقدَّم فيرسُم لنا السبيل إلى تحصيل تلك الآلة، فيقرِّر أنه بعد أن يتوفر المفتي على شرطي الرواية والدراية؛ يكون قد خرج عن دائرة العوام الذين يصحُّ لهم التقليد، لمِلكِه آلة الاجتهاد([5])، فلم يبقَ إلا أن ينتصب للبحث والنظر، ويكد نفسه، ويسهر ليله؛ لاستخراج الأحكام من مظانِّها، وتفقُّد تأثير العلل في محالِّها([6]). والحاصل أنه يتأكد على المتصدي للفتيا أن يأتي البيوت من أبوابها، ويسلك إلى أحكام الشرع مسالكها، وليس ذلك إلا بفقه الأصول التي عليها مدار الاجتهاد.
أما من تحصَّل على التأصُّل، ثم لم يُعمِل آلته تلك في فتاويه، فذلك الذي يصحُّ أن يقال له ما قال أبو العتاهية قديماً:

فصغ ما كنتَ حلَّيتَ به سيفك خلخالا   ***   فما ينفعك السيفُ إذا لم تكُ قتَّالا
 
 خالد بن عبد الله المزيني
5 ربيع الثاني 1424
 

------------------------------------
([1]) طبقات الحنفية؛ للقرشي (52)، إيقاظ الهمم؛ للعمري (51).
([2]) التقرير والتحبير؛ لابن أمير حاج (3/462).
([3]) المرجع السابق؛ الموضع نفسه.
([4]) قواطع الأدلة؛ للسمعاني (5/107).
([5]) المرجع السابق (5/108).
([6]) انظر: المرجع السابق (5/55).


 

د. خالد المزيني
  • خواطر وتأملات في إصلاح البيوت
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية