اطبع هذه الصفحة


ابن قعود ... طرازٌ خاص

د. خالد بن عبد الله المزيني

 
ما زلتُ أذكر خطيب جامع المربع، ذلك الحي الذي وُلِدتُ فيه ونشأتُ، كنتُ حينها أتردد وأنا غلامٌ صغير، لأحضر خطبة الجمعة، وكان خطيبنا آنذاك شيخٌ وقور، تزيِّنُ وجهَه الوضَّاءَ لحيةٌ بيضاءُ حسَنةٌ، إذا اعتلى المنبر ارتجل خطبةً عصماء، يهزُّ بها أركان الحي، حتى لتكاد تنخلع منها القلوب، ثم إذا أتيح لك الاقتراب منه بعد الخطبة، ومزاحمة الحشود للسلام عليه، لامتلأ قلبُك محبةً وتعظيماً له، فما هو إلا أن تراه، فتعرف أن وجهه ليس بوجهِ مدَّعٍ، ولأغناك أدناه عن أقصاه.
كان المسجد إذ ذاك يكتظُّ بالمصلين، حتى يضطر آخرهم إلى الصلاة في الرحبة، والشرفات، والقبو، وكان يجتمع عنده ثلةٌ من أهل العلم وطلابه، تعرف ذلك من هيئتهم وسمتهم.
علمتُ فيما بعد أن خطيبنا هو الفقيه الفذّ: عبد الله بن حسن بن قعود، ثم إنني ـ بحمد الله ـ تشرفتُ بالتعرف عليه عن قربٍ، والقراءةِ عليه، والتفقه به.
لقد كانت للشيخ مناقبُ كثيرةٌ، كانَ فارسَ منبر، قوَّالاً بالحق، قواماً لله، شريفَ النفس، صائناً للعلم عن الأغراض، غنياً عن أهل الدنيا، نظيفَ القلبِ واليدِ واللسانِ، زهد في الدنيا بعد قدرته عليها، ولو شاء لفعل.
لا أريد أن أفيض فيما هنالك، فالحديث ذو شجون، لكنني أودُّ الإشارة إلى مزية لدى الشيخ عرفتُها فيه، امتازَ بها عن كثيرٍ من معاصريه، ما خلا بقايا من الأفذاذ من أهل العلم هنا وهناك.
تلكم هي الموازنة بين الغيرة على الحق والانتصار له من جهة، وبين حسن الصلة مع الدعاة إلى الله على اختلاف توجهاتهم من جهةٍ أخرى، فقد كان ابن قعود سلفياً صُلبَ القناة، ومع هذا فقد كان محباً لكل داعيةٍ ناصح، ولو خالفه في بعضِ الأمر.
لم يكن ابن قعود منافساً على الشهرة، ولا مزاحماً على الدنيا، ولا محتقراً لإخوانه وأبنائه الدعاة، بل كان يحذِّر من داء الشهرة، الذي قد يجرُّ إلى بطر الحق، وغمطِ الناس، وكم كان يردد من فوق أعوادِ منبره قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ( ما ذئبانِ جائعانِ أُرسِلا في غنمٍ؛ بأفسدَ لها من حرصِ المرءِ على المالِ والشَّرَفِ لِدِينِه ) [خرجه الترمذي، وقال: " هذا حديثٌ حسنٌ صحيح "].
فوالله الذي لا إله غيره ما أحلاها من كلمات نورانية حين تنطق بها تلك الشفتان الصادقتان ـ أحسبه كذلك ـ.
لم يكن ابن قعود متخندِقاً دونَ شباب الدعوة من كل لون، ولا متحزِّباً لأحدٍ دون أحد، ولا متحيِّزاً لطائفةٍ دون أخرى، إلا أنْ يظهر له الحق، فيكون في نصابِ الحق وحيِّزِه، ولَكَم سمعتُه يردد:

ولقد أخذتُ الحقَّ غيرَ مخاصِمٍ ... ولقد بَذلتُ الحقَّ غيرَ مُلاحِ

لقد كان ابن قعود سُنِّياً على الجادَّة، لا يتهاون بالبدع أياً كان مصدرها، ولا يتخلى عن السنن مهما كثر الناكبون عنها، لكنه في الوقتِ ذاتِه لا يسمح بالقدح في أشخاص الدعاة الناصحين، ولو ظهر منهم شيءٌ من التقصير في جانب من جوانب الدين.
إنها موازنةٌ صعبة، لا يتقنها إلا من هو على طراز ابن قعود، فأما الآخرون فهم بين تفريطٍ في الحق والسنة إلى حدِّ الجفاء، أو إفراطٍ فيهما إلى حدِّ التكلُّف.
ألا رَحِمَ اللهُ ابنَ قعود، فلقد تعِبَ ولَغِبَ في نصح إخوانه، واستصلاح الثأَى منهم، إلا أنني أحسبُه قد أقام الحجة على علماءِ عصره، فكان كما قيل:

بَصُرتَ بالرّاحةِ العُظْمى فلَمْ تَرَها *** تُنَالُ إِلاّ عَلى جِسْرٍ منَ التَّعبِ


خالد بن عبد الله المزيني
9 رمضان 1426

 

د. خالد المزيني
  • خواطر وتأملات في إصلاح البيوت
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية